الملك الغضوب والوزير الحكيم

تاريخ النشر: 21/10/14 | 9:06

في ليلة من ليالي الشتاء الباردة إلتف زيد، وحفص، وسارة حول جدهم؛ ليقص عليهم حكاية ما قبل النوم حيث القصص الجملية، والحكايات المفيدة التي تملأ ذاكرة هذا الشيخ الذي علمته الحياة، وعركته السُّنونَ، واكتسب منها خبرةً وحكمةً.

قالت سارة: ماذا أعددت لنا يا جدي العزيز هذه الليلة؟

الجد: موعدنا الليلة مع قصة “الملك الغضوب والوزير الحكيم”!!

قال زيد: كيف يكون يا جدي الملك غضوبًا؟!.. أنا أقترح أن يكون الملك الحكيم والوزير الغضوب.. ما رأيك يا جدي؟.

الجد: اقتراح جميل يا زيد.. لكنا لا نستطيع أن نغير ما سطَّر التاريخ، وحفظته ذاكرة الأيام!!

قال حفص: أرجوكم لا تضيعوا علينا الوقت . . فالوقت يمر سريعًا . . هيّا يا جدي . . لا تلتفت إليهم . . نريد أن تحكي لنا القصة.. هيّا يا جدي.

الجد: على رسلك يا حفص . . لا بدّ أن نستمع لآراء إخوانك . . ونناقش اعتراضهم . . ونجيب على استفسارهم؛ فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم.

الجميع: هيّا يا جدي.. لقد اشتقنا لسماع قصة الملك الغضوب والوزير الحكيم.

الجد: كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك وله وزيرً حكيم.. ولذلك كان الملك يقربه منه.. ويستشيره في أمور الدولة.. ويصحبه في رحلاته.. ويأمنه على أسراره.

وكان هذا الوزير كلما أصاب الملك ما يزعجه.. ويكدر صفو خاطره.. ويشوش عليه أفكاره؛ يقول للملك: «لعله خيرًا يا ملك الزمان».

سارة: والله يا جدي إن هذا الوزير حكيم.. لقد ذكرني هذا الوزير الحكيم بحديث للرسول الله ﷺ، أتأذن لي يا جدي بأن أذكره لأخوتي: زيد وحفص.

الجد: بكلّ سرور يا سارة.

سارة: أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» عن صهيب بن سنان الرومي ا؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك أحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له».

قال الجميع: أحسنت يا سارة.

قال حفص: وماذا كان يفعل الملك عندما يسمع ذلك من وزيره؟.

الجد: كان يهدأ.. ويستريح.

وفي ذات يوم بينما كان الملك يَسْتَلُّ سيفه.. سقط السيف من يده؛ فأصاب أصبع قدمه.. فقرر الأطباء قطع أصبع الملك!!.

علم الوزير بما حصل للملك؛ فجاءه؛ ليزوره، قائلًا: «لعله خيرًا يا ملك الزمان».

قال زيد: وماذا قال له الملك في هذا المرة؟

الجد: ظن الملك أن الوزير يشمت به؛ فاستشاط غضبًا، وقال له: ما الخير في ذلك؟ وأمر بأن يوضع الوزير الحكيم في السجن!!.

أخذ الجنود الوزير الحكيم، فقال: «لعله خيرًا».

قال زيد: عجبًا لهذا الملك كيف يحبس وزيره.. وهو مستشاره الحكيم.. وصديقه الوفي الأمين.. وخزانة أسراره؟!.

أجابه حفص: ألم يقل لك جدي من قبل: إنه غضوب.. والغضب يجعل الإنسان لا يسيطر على قراراته.. ولا يحسب عواقبها.. فيا أخي زيد، إذا كان ذاك الملك غضوبًا؛ فلا تكن أنت عجولًا!!.

قال الجد: أحسنت يا حفص.. ففي العجلة الندامة، وفي التأني السلامة.

ثم استمر الجد قائلًا: مكث الوزير في السجن مدّة طويلة.. وفي ذات يوم خرج الملك كعادته في رحلة صَيْد وقَنَصٍ واصطحب حراسه.. أَوْغَلَ الملك والحراس في الصحراء بحثًا عن الصيد.. رأى الملك غزالًا جميلًا يتبختر أمامه.. أعجبه منظر الغزال؛ فأطلق العنان لفرسه؛ ليصطاد الغزال.. ابتعد الملك عن حراسه وجنوده.. ودخل الغابة بحثًا عن الغزال.. لم ينتبه الملك إلا وقد أحاط به فرسان أشداء ملثمون، وبسرعة البرق قبضوا عليه، وذهبوا به لزعيم القبيلة؛ ليقدموه قربانًا للصنم الذي يعبدونه من دون الله.

قال الجميع باستغراب: يعبدون الأصنام يا جدي؟!.

قالت سارة: ألم يخبرنا خالقنا -عز وجل- أنها أصنام لا تضر ولا تنفع: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» [يونس: 18].

قال حفص: بلى.. وأخبرنا –أيضًا- أن ضررها أقرب من نفعها: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» [الحج: 11-13].

الجد: أحسنتم يا أحفادي.. ولكن تلك القبيلة كانت تعبد صنمًا، وفي كل سنة تقرب له قربانًا من البشر.. فصادف في هذه المرة مجيء الملك الغضوب إلى الغابة.. فأخذه رجال القبيلة؛ ليقدموه قربانًا لصنمهم.. نظر زعيم القبيلة إلى الملك وقرر تركه.. لأنه اكتشف أنه لا يصلح أن يقدم قربانًا للصنم.. فأصبع قدمه مقطوع!.

انطلق الملك فرحًا بعدما أنقذه الله من الذبح تحت قدم صنم.. وصل الملك إلى قصره.. وأمر حراسه فورًا: أن يأتوه بوزيره من السجن!!.

حضر الوزير الحكيم إلى مجلس الملك الذي بدأ يعتذر له عما صنع في حقه.. وقال له: حقًا لقد كان قطع أصبعي خيرًا لي.. حيث أنقذني الله به من القتل.. فالحمد الذي بنعمته تتم الصالحات.

ثم قال الملك للوزير: لكني لا زلت مستغربًا من قولك عندما أمرت بسجنك: «لعله خيرًا!».. فما الخير الذي وجدته في السجن؟!.

أجابه الوزير الحكيم: لو لم تأمر بسجني لصحبتك في رحلة الصيد.. وكنت أنا الذي سأقدم قربانًا للصنم بدلًا منك.

عندئذ أدرك الملك حكمة الوزير، وأن صنع الله كله خير.. وجميع أفعاله جميلة: وعلم أن الغضب لا يأتي بخير.. وأصبح حكيمًا مثل وزيره.. وأخذ يعامل شعبه بحكمة ورحمة.. يعطف على الصغير.. ويرحم الضعيف.. ويحكم بين الرعية بالعدل.. ويستشير الحكماء ذوي التجربة، والعلماء ذوي الخبرة.. وعاش الجميع في ذلك الزمان في أمن وأمان: يعبدون الله الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف.

والآن يا أحفادي، ليذهب كل منكم إلى فراشه، ولا ينسى أحد منكم دعاء النوم: «اللهم باسمك ربي وضعت جنبي، فاغفر لي ذنبي».

9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة