ألمرطبان والسمكة الملونة

تاريخ النشر: 19/01/12 | 10:24

بقلم ابراهيم مالك

رنَّ جرَسُ الهاتِفِ ، فأسْرَعْتُ أدُبُّ على عكازتي ، لأرُدَّ عَلى المُنادي !

جاءني ، مِنْ بَعيد ٍ وَعَبْرَ الأسْلاك ِالمَخفيَّة ، جاءَني صَوْت ٌطالما أنِسْت ُبهِ وَأحْبَبْتُهُ ، صَوْت ُحَفيدتي لينا .

هَتفتْ ، وَبدون ِمُقدَّمات ٍ  أو مُجامَلات :

يا جَدّي ! حدَّثني أبي عَنكَ ، وَهْوَ ما  سَأرْويهِ لكَ ، لِتحتفِظ َبه ِذاكِرَتي . قالَ:

وُلِدْتَ في كوخ ٍ من طين ٍ، عِنْدَ شاطِىء ِ بحيرةٍ ، بناهُ أبوكَ وَأمُّكَ مِنْ طين ٍ مخلوط ٍ  بقشٍّ وَبَعْض ِ ماءٍ وَجَعَلوا سَقفهُ مِنْ ذاكَ الطين ِمَسْقوفا ًبعيدان ٍ مِنْ قصّيب. وَكنتَ في شهور ِحَبْوِكَ تحِبُّ اللَّعِبَ قرْبَ الكوخ ِ،بيْنَ الرَّمْل ِ وَالماء ، ترْعاكَ عينُ والدتك . فتروحُ تحفرُ في الرَّمْل ِ حُفرَة ً، تمْتليءُ ماءً  فتعبثُ به. وَمرةً  فوجئتَ ، فصِحْتَ مُندَهِشا :ً

سَمَكة ٌمُلَوَّنة تُلَعْبِط ُفي الحُفرَة.

حَضرَتْ أمُّكَ على عجل ٍ وَفي يَدِها مَرْطَبان ٌ، كانَ فيه ِحَبّات ُزيْتون ، هي بعض ُأكلِها ، وَوَضعَتْ فيهِ الماءَ والسَّمَكة ، فراحَتْ هذِهِ تحَرِّكُ ذيْلها في الماءِ فرِحَة ً، أفرَحَتك َ كثيرا ًوأخذت َتصَفق ُبيديكَ مِنْ فرَح ٍ لم يهدأ ضجيجه إلاّ في الكوخ ، وَبتَّ كمن لا يهنأ لك يوم  إلاّ حينَ تكحِّل ُعينيْك َبرؤياها مَعَ كلِّ صَباح ٍ، حينَ تفيق ، وَمَعَ كلِّ مَساء ٍ ، حينَ تنام .

كبُرت السمكة قليلا ًوِكبُرْتَ أنتَ وكبُرَ بينكما حبٌّ .

حَكى والِدي ، قالتِ الحَفيدَة ُبصَوْت ٍفيهِ بَعْضُ جَدِّيَّة ٍ، حَكى :

وكما في كلِّ حِكاية ٍيكبُرُ الأوْلادُ سَريعا ، وكانَ زمنٌ لمْ ينقض ِ مِنْ زمَن ٍ، جاءَ فيهِ جُنود ٌ، في يَدِهِمْ باصِقاتُ نار ، ففرَّ أبوكَ وَأمُّكَ وَناسٌ كثيرونَ مِنْ أهْلِهِما ، فرّوا بَعيدا ًشرقا ً، وكنتَ كلَّ مَتاعِهِم الثمين ِ فاصْطحَبوكَ إلى حَيثُ أبْعَدَهُم الجُنود .

وحينَ اقتحَمَ الجُنودُ الكوخَ ، لمْ يَجدوا فيهِ أحَدا ، ولم يَعْثروا فيهِ عَلى شيء ، أشعَلوا فيهِ النارَ، هَدَموهُ ، وبَقوْا عَلى مَقرُبَة ٍ  مِنهُ ، يَشُدُّهُمْ صَفاءُ ماءِ البُحَيْرَة ، تلألأ ُ الحَصى فيهِ وَنعومَة ُرَمْلِ الشاطِىءِ .

حَكى والِدي ، قالَ :

مِنْ يَوْمِها لمْ تعرِف ْعَيْناكَ لوْن َالفرح ، فأكثرُ ما كانَ يُفرِحُهما انكسَرَ  وانكبَّ ما فيه من ماء ٍ وما فيهِ مِنْ سَمَكةِ صَغيرة ٍ مُلونة ، تحرِّكُ ذيْلها وَتلعْبط ُبفرَح ِ أطفال .

توَقفتْ حَفيدَتي عَن ِ الكلام ِطويلا ، حَسِبْتُ أنها كانتْ تبكي في صَمْت ، لكِنْ سَرْعانَ ما بانَ لي أنها كانتْ تعُضُّ شفتيها بغضب ، أبقيْتُ سَمّاعَة َالهاتِف مَفتوحَة ، فجاءَني صَوْتها مُختلِفا ًهذهِ المَرَّة ، فيهِ نعومَة ُصَوْت ِطِفل ، صاحَتْ :

أرْجوكَ يا جَدّي ، انتظرني ، لأكبُرَ  قليلا ً، علَّ عودي يشتدُّ، حينها آتيكَ  لأهْنا َ بصُحْبَتِكَ فنعاوِدُ البَحْث َعَنْ مَرْطبان ٍ  زُجاجيٍّ وَما فيهِ مِنْ  ماءٍ، سَمَكة ٍصَغيرَة  وَمُلوَّنة .

قالتْ ذلِكَ عَلى عَجَل ٍ، أغلقت ِالسمّاعَة َ ولم تبق ِ لي مُتسَعا ً لأقولَ ما عِندي .

غمَرَني بَعْضُ فرَح ٍ  مُتفائِل ، إذ اتضحَ لي ما عَنتهُ في آخِرِ ما حَكتهُ  وَرَجَتني ، فرُحتُ أغفو في كُرْسيِّي الخشبيِّ أتأمَّلُ  حَواشِيَ المَرْطبان وما فيهِ مِنْ ماءٍ  تحَرِّكهُ لعْبَطة ٌ  مُفرِحَة !

تعليق واحد

  1. عزيزي ابا مالك تحية صباحية !
    خلال تجوالي في موقع بقجة وجدت قصتك عن السمكة الملونة والمرتبان . لا شك ان لغتك البسيطة وموضوع احراق الكوخ والقضاء على السمكة فيه شيء كثير من التوجيه والتعليم وفتح العيون على مأساة شعبنا العربي الفلسطيني الذى عانى نكبة 1948 وما نتج عنها من تشريد وذل وضياع في خيام الغربة والذل . ما لم يتضح كفاية هو العودة الى كوخ جديد ومرتبان مليء بالماء وسمكة ملونة جديدة . وهنا تبدو المشكلة وكأن استيدال الكوخ بكوخ جديد وسمكة بسمكة هو امر طبيعي . فهل يميز الطفل ين هذا وذاك وفي اية سن ؟؟ ثم حبذا لو صاحب القصة رسم للكوخ وللمرتبان والسمكة الملونة . وفوق ذلك انت تفاجىء قراءك من حين لآخر حيث تبدع في مجالات جديدة في كل مرة وبشكل ناجح . اهنئك وارجو لك كل السعادة وليبق قلمك نابضا ابدا .
    لك الحياة !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة