مدينة فاس المغربية
تاريخ النشر: 18/06/16 | 0:36مـــدينة فـــــاس :
مدينة فاس المغربية من الحواضر العالمية القليلة التي لا تزال تحتفظ بطابعها المعماري والاجتماعي القديم الذي تشكل على امتداد قرون من الزمن. فرغم أنها تأسست منذ 12 قرنا، فانها لا تزال تحتفظ بالسمات القديمة نفسها، حتى انك تحس وأنت تدخل هذه المدينة العتيقة ذات الأبواب السبعة وكأنك قد حملت على بساط سحري ليسافر بك في صفحات قديمة من التاريخ. فلا شيء في فاس العتيقة تغير تقريبا.. فالمظاهر العمرانية القديمة لا تزال حاضرة بقوة تشهد على مرور حضارة إسلامية عريقة في هذه المنطقة، والسمات الخاصة بالحياة الاجتماعية بالأسلوب التقليدي نفسه ونمط العيش نفسه.
التاريخ هنا بمدينة فاس ليس كتبا تدرس وإنما حياة نابضة بروح الأصالة تقاوم زحف مظاهر الحياة المعاصرة من أجل حفظ ذاكرتها الغنية من التلف، وساعدها في هذا أن منظمة اليونيسكو صنفتها سنة 1981 من ضمن التراث الإنساني الذي يجب أن يحفظ.
الأبواب السبعة
حينما تدخل فاس العتيقة من أحد أبوابها السبعة (فتوح، بوجلود، السيكة، الماكينة، الصواف، الحمراء، وباب الحديد) تحس وكأنك فارقت كل مظاهر الحياة المعاصرة وولجت نمط حياة آخر سينقلك إلى صفحات ماضية من التاريخ القديم. وأول ما تطأ قدماك أرض مدينة فاس تنتابك أحاسيس روحية لا تقاوم وتقودك خطواتك الأولى وأنت لا تملك حق المقاومة إلى شوارعها العتيقة وأزقتها القديمة بعيدا عما أصبح يسمى ب’فاس الجديدة’. فالمدينة، للإشارة، مقسمة بين ‘فاس الجديدة’ و’فاس القديمة’. وحقيقة هذا التقسيم يوضحها لنا العربي بوعياد المندوب السابق لوزارة الاسكان في المنطقة سنوات الثمانينات، وكان طرح في تلك الفترة من طرف الوزارة الوصية مشروع إعادة تأهيل المدينة التي كانت عانت إهمالا كبيرا رغم مكانتها التاريخية.
ويقول المهندس بوعياد ‘لقد كاد الأمر أن يكون كارثة حقيقية.. في تلك الفترة استدعاني وزير الاسكان والتعمير وكلفني بوضع خطة لإعادة تأهيل المدينة، وكانت الخطة ترمي إلى إعادة ترميم المآثر التاريخية والقيام بتأهيل عمراني للمدينة، لكن بهدم أحياء عتيقة بكاملها، وبناء أخرى على الطراز الحديث، وهو الأمر الذي لو تم، كان سيمحو جزءا كبيرا من ذاكرة فاس التاريخية.
إنشاء فاس الجديدة
لكنني اعترضت على المشروع واقترحت بديلا عنه بحيث قدمت خطة من قسمين، تقضي الأولى بترميم المآثر والأحياء التاريخية وإصلاح الأحياء القديمة المجاورة لها وإبقائها على الطراز المعماري القديم نفسه، والثانية بإنشاء مدينة فاس الجديدة بجوار القديمة على الطراز المعماري الحديث، وقد لاقى هذا الاقتراح ترحيبا كبيرا من الوزير آنذاك وتأييدا من السلطات ما ساهم في إنقاذ ذاكرة المدينة التاريخية.
ولم تنجح الخطة فحسب، فبالإضافة إلى أنها أنقذت ذاكرة هذه المدينة العتيقة من التلف فإن بقاء دروبها وشوارعها على الطراز المعماري نفسه الذي أنشئت عليه قبل قرون كان ولا يزال السبب الرئيس للتدفق الهائل للسياح الأجانب على المدينة، التي توصف بكونها عبارة عن متحف كبير ممتد عبر الزمان والمكان، ما جعل من قطاع السياحة أهم مورد ينعش اقتصاد المدينة.
خزانة القرويين
في مدينة فاس القديمة متاحف كبيرة وصغيرة تخلد تاريخ المنطقة وعمقها الحضاري، من أشهرها متاحف البطحاء والبرج الشمالي والنجارين، دون أن ننسى خزانة القرويين وحديقة جنان السبيل التي تعد تحفة رائعة شبيهة بحدائق غرناطة وإشبيلية بالأندلس، وهي تمتد على نحو 10 هكتارات وتضم أكثر من ألف صنف من الأغراس النادرة.
بين الحوانيت
حينما تتوغل أكثر داخل دروب وأزقة فاس القديمة، تلمس عادات وسلوكيات تجسد الهوية التي لا يمكنك أن تجدها في فاس الجديدة ولا في المدن المغربية الأخرى الحديثة. فالفضاء ضيق وعمرانه قديم ومؤثث بحركة تجارية نشيطة، إذ تجد محلات الصناع التقليديين وأنت تجوب هذه الأزقة متناثرة عن يمينك وشمالك، ثم تبدأ تتناهى إلى مسامعك نغمات مختلفة لكنها منسجمة بشكل يصدر سمفونية فريدة يصعب تأليفها أو عزفها من طرف غير الصناع التقليديين.
فهذا يحيك جلابية تقليدية أو قفطانا مغربيا خالصا وهو يترنم بأهازيج شعبية، وآخر يضرب بمطرقته الصغيرة بخفة ودقة على آنية من نحاس أو فضة مزركشة، وثالث يدخل آخر التعديلات على ‘البلغة الفاسية’ وهي نعل تقليدي يصنع في هذه المنطقة وينتعل خاصة مع ال***اب المغربي.. وهكذا دواليك وأنت تخترق عشرات الدروب والأزقة في فاس العتيقة.
الصناع التقليديون
وطوال هذه الرحلة تلتقط عيناك عشرات المنتوجات التقليدية التي تختص بها المنطقة من جلدية وخشبية وخزفية وفخار ونحاس ونسيج..والذي ساعد على ازدهار الصناعة التقليدية بفاس واكتسابها لسمعة كبيرة في السوق المغربية وحتى العالمية، إذ نظم عدد من المعارض الناجحة لها في عدد من العواصم الغربية كما تعرف إقبالا منقطع النظير من طرف الأجانب، هو توافر المنطقة على موادها الأولية المتميزة من جهة، ومهارة صناعها من جهة ثانية، حيث من هذه المدينة تخرج العديد من الصناع التقليديين الذين نشروا أصول هذا الفن في ربوع المغرب كله.
مؤسس فاس
في وسط مدينة فاس العتيقة، نصب ضريح مؤسس المدينة المولى إدريس الأكبر، هذا الرجل الذي يرجع نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو مؤسس فاس. والقصة كما يرويها التاريخ أنه بعد فراره من معركة الفخ التي قضى فيها العباسيون على ما تبقى من علويين وأبناء عمومتهم، والذين منهم إدريس بن عبد الله، فر الأخير إلى المغرب حيث تم استقباله بحفاوة نظرا إلى نسبه الشريف من طرف قبائلها المتفرقة التي اجتمعت عليه ليؤسس أول دولة إسلامية منظمة في المغرب ويشيد لها عاصمة سميت بفاس.
مؤسسها نجا من مذابح العباسيين ويعود نسبه إلى النبي
بجوار الضريح تصطف طاولات تعرض عليها شموع وحناء وبخور وأدوات زينة تقليدية، ولذلك تجد أغلب الزبائن الذين التفوا حول هذه الطاولات نساء منهن من تريد أن تشتري الشموع لتدخل بها الضريح و’تتبرك’ من زيارة صاحبه، ومنهن من ترغب في شراء مقتنيات تبقى كتذكار في المنزل على أنها يوما ما دخلت ضريح المولى إدريس الأكبر سليل النبي صلى الله عليه وسلم.
ساحة البنك الدولي
في فضاء بالقرب من الضريح انتصبت ساحة شبيهة بساحة جامع الفنا بمراكش بها هي الأخرى مجموعات تلتف على شكل حلقات لمنشطين فكاهيين وحكواتيين ومروضي أفاع وقرود ومهرجين. وقد أنشئت هذه الساحة بدعم من البنك الدولي منذ حوالي سنتين وإشراف السلطات المحلية للمدينة بهدف بعث الروح في هذه الساحة وإعادتها إلى سابق عهدها كما كانت الحال منذ عقود من الزمن.
بالقرب من هذه الساحة، توجد محلات ومقاه تقليدية تقدم وجبات خاصة بأهل المنطقة مثل الطاجين الفاسي والحريرة الفاسية، وأغلب من يفد إلى هذه المطاعم والمقاهي السياح الأجانب الشغوفون بهذه الفضاءات الحميمة.
طقوس احتفالية خاصة
في كل سنة تشهد مدينة فاس طقوسا خاصة للاحتفال بذكرى تأسيس المدينة على يدي المولى إدريس. وأول ما يفتتح به هذا الاحتفال موسم تقليدي يقام داخل الضريح نفسه. وينطلق بإلباس الضريح ‘كسوة’ بلون أخضر يهديها العاهل المغربي لممثلي الشرفاء الأدارسة القيمين على شؤون الضريح، وهي مزخرفة بالنقوش القرآنية ومزينة بخيط ذهبي. ثم يستمر الاحتفال بتنظيم حفلات دينية بالضريح يجري خلالها قراءة القرآن وقصيدة البردة والهمزية، كما يختتم فيه صحيح البخاري، ثم يأتي بعد ذلك دور الفرق الموسيقية والفلكلورية التي تساهم في إحياء هذا الحفل.
فاس واليهود
وتقودك خطاك وأنت تتجول في فاس القديمة إلى ملاحها الشهير الذي كان أول ملاح في المغرب بناه اليهود. ومعلوم أن اليهود أقاموا لهم أحياء خاصة سميت بالملاح في عدد من المدن المغربية التي وفدوا إليها، ومنها مدينة فاس. ففي الفترة التي عرفت بمحاكم التفتيش حيث تعرض الأندلسيون لاضطهاد مريع على يد الاسبان، لم يكن المسلمون الأندلسيون وحدهم من اختاروا اللجوء إلى المغرب الذي كان مرتبطا إداريا لأغلب الفترات التاريخية مع الأندلس، وإنما اليهود الذين عاشوا بسلام في الأندلس المسلمة اختاروا هم ايضا اللجوء إلى هذا البلد. وقد كان من بين الأماكن التي استوطنوا فيها مدينة فاس إضافة إلى عدد من المدن الواقعة شمال المغرب قرب البحر الأبيض المتوسط.
التعايش
وملاح اليهود الشهير في فاس بني في القرن 17. وهذا الحي هو عبارة عن مجتمع صغير اختار اليهود الذين وفدوا على المدينة انشاءه حتى يتسنى لهم الانفراد بطريقة حياتهم وأسلوبهم في العيش، ولا يزال الملاح موجودا إلى الآن بمدينة فاس ولا يزال يعيش فيه بعض اليهود، كما أن بعضهم الآخر الذين هاجروا إلى فلسطين عادوا في السنوات الأخيرة ليعيدوا تأثيث دورهم التي تركوها سنوات الستينات ويجعلوا منها أماكن ذكرى لفترة اعتبروها زاهية في حياتهم، حتى ان بعضهم رفض مغادرة هذه المدينة، بل منهم من غيروا أسماءهم واتخذوا لهم أسماء محلية خاصة بأهل منطقة فاس مثل: بنجلون وبنيس وبن شقرون.. ولا يزال يمكنك إلى الآن وأنت تتجول في دروب الملاح بفاس أن تلاحظ هذا التعايش اللافت بين المغاربة واليهود.
فاس والنشأة
يرجع تاريخ تأسيس مدينة فاس إلى نهاية القرن الثامن الميلادي إبان مجيء المولى إدريس الأول إلى المغرب سنة 789م، حيث بنيت النواة الأولى للمدينة على الضفة اليمنى لوادي فاس بحي الأندلس، وفي سنة 808م أسس إدريس الثاني مدينة جديدة على الضفة اليسرى لوادي فاس بحي القرويين نسبة إلى أصل ساكنيه المنحدرين من القيروان بافريقيا.
ومع بداية عهد الحماية الفرنسية، عمل المعمر الفرنسي على تشييد مدينة فاس الجديدة باتجاه هضبة سايس، ومكنها من أبرز المرافق الإدارية والاجتماعية والاقتصادية. ولقبت فاس بالعاصمة العلمية لاحتوائها على أقدم جامعة في العالم وهو جامع القرويين.