القافلة التشكيلية "رحيل الروح"

تاريخ النشر: 01/10/12 | 7:30

إرتأت المديرية الجهوية لوزارة القثافة لجهة فاس بولمان، أن تدشن موسمها الثقافي والفني للموسم الجديد2012/2013، بمعرض تشكيلي لأعمال للفنان محمد ميكو، وهي مناسبة للإحتفال بذكرى مرور مائة سنة على وفاة الفنان “بول جاكسون بولوك” مؤسس مدرسة التعبيرية التجيريدية، حيث يعد “جاكسون بولوك” من أهم الفنانين التشكيليين الأمريكيين خلال القرن العشرين, اشتهر بابتكاره لتقنية ” الرش والسّكب والتنقيط” بدل الاشتغال بالفرشاة ولوازم الاشتغال الفني التقليدية، وهي طريقة تهدف إلى تجسيد حركة الفنّان في إطار يتميّز ببعد علائقي متناغم بين جسد الفنان و الفضاء، وهي تعبيرية تجسد نبضات الفنّان أثناء حركته في علاقته بالأثر الذّي يحتوي الشّكل، واعتماده على اشكال اشتغال لم تكن مألوفة لدى الفنانين من قبل، إذ يعمد إلى تناول الشاتغال على اللوحة من كل النواحي الاربع للوحة، بل تمكن من الدخول وسط العمل الفني والوقوف عليه، والاشتغال من داخله، وهي حركة فنية تعتمد على الصدفة والمرجعية الحركية، وما ترسب في الذهن من مشاهد ولقطات سواء آنية أو بعيدة، في الذان أو في المحيط النفسي والبيئي أو المجتعي أو الكوني للفنان، حيث يعتبر” بولوك” أن ما يحدث في اللّوحة ليست صورة و إنما حركة, حركة إذا تتبّعنا تغييراتها في أعماله، سيعمل لا حقا على اكتشاف طابعها القصدي، و المنظّم , و ذلك بالرّغم من قوله بأنّه” عندما يكون فوق اللّوحة, فإنني لا أكون واعيا بما أقوم به, بل إنني لا أتمكّن من معرفة ما قمت به إلا بعد مدّة من الزّمن..” لأنّه يحيلنا بذلك إلى انخراطه الكلّي في العمليّة التشكيليّة و ليس الى العفويّة و اللاّنظام, و لعلّ ذلك ما جعله يؤكد في العديد من المرّات على الطّابع القصدي لعمله بقوله” إنني أستطيع أن أتحكّم في حركاتي أثناء الرّسم, ليس هنالك مجال للصّدفة” ، وفي هذا الإطار بيّنت الدّراسات الحديثة في العديد من العلوم و خاصّة في الرّياضيّات الطّابع القصدي و المنتظم في حركات ” جاكسون بولوك”, أهمّها دراسة قام بها العالم الفيزيائي المولع بالفنّ ” ريشارلد تايلور” في نهاية التّسعينات, بيّن فيها وجود طابع نمطي متكرّر يقوم على بناء أساسه رياضي ” كسري”- – Fractale و يعني ذلك تشكيليّا بأنّ الطّابع البنائي ل” بولوك ” يتميّز بتوالد الأشكال وفق معادلات كسريّة هندسيّة تولّد الشّكل فتجزّأ المساحة لتقسّمها إلى أجزاء يكون كلّ جزء منها نسخة من المجموع. و يمكن مشاهدة هذا البناء النّمطي المتكرّر في العديد من الأشكال الطّبيعيّة كأوراق الأشجار أو الجبال.

مكّنت هذه الدّراسة الهامّة من دحض آراء العديد من النقّاد الذيّن لم يروا في عمل ” بولوك” سوى مجرّد آثار لحركات عفويّة يمكن لأي إنسان القيام بها, بل و يبيّن الطابع الإستباقي ” لبولوك” على المجال الرّياضي لأن علم الأشياء ذات الطّابع النمطي المتكرّر (Fractale) لم يظهر إلا في الستّينات بواسطة العالم الرّياضي ” بينوا موندالبرو” الذّي تناول الأشكال الطبيعيّة بالدّراسة معتبرا بأنّها تبدوا عند رؤيتها عن بعد بأنها أشكال بسيطة قد نتبيّن منها النقطة و الخطّ و المستطيل و الدّائرة و المربّع… وهو ما يمكن وصفه و دراسته من خلال الهندسة الاقليديّة, لكن عندما نلاحظ هذه الأشكال من قرب سنكتشف أنها ستصبح أكثر تعقيد فهي في الحقيقة متقطّعة و منكسرة الإحاطة, تكوّن بنى متفرّعة و متشعّبة وهو ما لا يمكن وصفه بواسطة الهندسة العاديّة، فعندما نعود الى الهندسة الاقليديّة نلاحظ تقسيمها للأشكال الطّبيعية إلى أربعة: شكل غير مرئي يتميّز ببعد يساوي الصفر, أشكال تتميّز ببعد واحد مثل الخطّ، طول دون عرض، ثمّ الأشكال الثّنائيّة الأبعاد و الثّلاثيّة الأبعاد, وهي تختلف في ذلك عن بعد هندسة الأشكال ذات الطّابع النمطي المتكرّر الذّي يمكّننا من الحصول على عدد يضبط درجة اللاّ انتظام و التجزؤ في نوعيّة من الأشكال المركبة، انّ التّجربة التّشكيليّة ل”جاكسون بولوك” لا تنطلق من الفراغ بل و تقوم على نظرة خاصّة للعالم و للأشكال الموجودة فيه تجسّمت في مسار علائقي خاصّ لا يقوم على حركة عفويّة و إنما على فعل هادف و حركة مقصودة و أثر يحوي رؤية خاصّة للعالم.

لقد تنبه اصحاب المدرسة التعبيرية التجريدية مع بداية الثلاثينيات إلى الأزمات الديبلوماسية، والدولية، والحروب التي بدأت في استخدام الاسلحة النووية لأول مرة في تاريخ البشرية، والاسلحة الفتاكة، التي تدمر المحيط، وتجعله خطوطا لا مرجعية لها، لذلك تنبهوا إلى ضرورة صرف النظر عن الفن التقليدي الذي لم يعد قادرا على توصيل انفعالاتهم ومشاعرهم بما فيه الكفاية، أمام هذا الذي يحدث بكل همجية ووحشية، فضربات الرصاص والرشاشات تشبه عمليات التنقيط والسكب والتقطير والتشكيل، لذلك فطنت التعبيرية التجريدية إلى استبدال العالم القديم الىيل للسقوط والانهيار، بعالم آخر جديد، النظام العالمي الجديد، إلى النظام الفني الجديد.

كنت ملزما على وضع هذه الديباجة النقدية الفنية، من أجل جعلها مدخلا لفهم تموقع الحركة التشكيلية وتقريب الملتلقي إلى الحركات الفنية المعتمدة من طرف الفنانين، ومن ثم مدخلا لقراءة أعمال الفنان محمد ميكو، الذي اقتبس جزء من تقنيات المدرسة التعبيرية التجريدية، وحاول من خلالها أن يقدم لنا لوحاته المعروضة” ليس كلها”، قصد اثارة انتباهنا، واستفزاز بصر المتلقي، بعوالم مركبة ومعقدة تحتاج إلى لغة وسيطة تكون مدخلا لفهم، ما يروم إليه الفنان “ميكو”، وهو يستقطب تلك اللحظات الغامضة والمعتمة التي ترسبت في نفسه وذاكرته، معتمدا على مخزونه الفكري والثقافي الذي ترسب من خلال تجاربه المعيشة، أو قراءاته المنفتحة، أو مشاهداته اليومية لحركات المجتمع، أو اقتفاء أثر الفنانين، والاتجاهات الفنية والتقنية،

لأن الفن يأتي أحيانا من أماكن بعيدة، خفية في أعماق النفس، لذا تصبح الكلمات والأفكار التي تحاول تفسيره أو فهمه غير ذات قيمة، أو جدوى، بل إن كل محاولات التفسير والفهم يمكن أحيانا أن تثقل العمل الفني وتفرغه من محتواه الأصلي، والغائية منه، وتجرده من جماله، وخصوصيته، وغموضه، فقيمة العمل الفني تكمن في غموضه الكامن فيه، وفي تلك اللحظات التي تلتقي فيه فكرة الفنان مع فكرة المتلقي، ويجد فيها هذا الأخير نوعا من الحضور النفسي والشخصي، لدرجة الإحساس بأن هذا العمل راوده، وخالجه، في لحظة زمنية، اوستعصى عليه التعبير عنها، وهاهو الفنان يقدم له هذه اللحظة، بأسلوبه وفكرته، إن الحكاية الفنية التي حاول الفنان محمد ميكو أن يحبك خيوطها وأشكالها البنيوية عبر أعماله الفنية، جاءت منسجمة وفق حاجاته للتعبير والكشف عن عوالم ذاته وروحه القلقتن، لكي يستجلي مخزونه التشكيلي، وبصماته، ومشاعره الغامضة والمركبة والعصية على الفهم، لكنه كشفها عندما وضع عنوانا لمعرضه: ” رحيل الر وح” ليجد المتلقي نفسه أمام مسلك الغوص في تفاصيل تلك الألوان والتشابكات، والتشكيلات، والمفاهيم المتداخلة، ذات أبعاد ذاتية وروحية، ليحتدم الصراع بين الواقع والخيال، بين التقليدي والتجريدي، بل بين الأعمال المعروضة وبصر المتلقي، الذي يحاول جاهدا فهم هذا الغموض المركب، وهذه البناءات التي تستمد فوضاها المهندسة، من عوالم الروح المضطربة، القلقة التي تبحث لنفسها عن قافلة، أو موكب، ترحل فيه، وفق ما تبناه الفنان محمد ميكو، لهذه الرحلة وما خالجه من مشاعر وانفعالات، قادرة على توصيل المعنى، إلى حدود الممكن، ومن خلال العنوان ذاته،” رحيل الروح” نجد محمد ميكو قد وضعنا أمام قراءة واحدة، وكأنه يؤطر قراءاتنا القادمة من مختلف المشارب الحيايتة، ليقول لنا بصوت جهوري، ويعلن عن ” رحيل” هذا الرحيل الذي اتخذ اشكالا تعبيرية، نقطا وخطوطا وتراكم الألوان، وتشابك الخطوط، وتعدد الألوان الباردة، تارة، والألوان الساخنة، تارة أخرى، في فوضى أنيقة، ممهورة بدقة ” الصنعة”، والحرفية المتناهية، لم يكتف بطرق الاشتغال التي انتهجها فنانو التعبيرية التجريدية، بل حاول إقحام طرق اشتغال جديدة من خلال اعتماد، تفاعل الألوان والصباغة مع بعض المواد الكيمياوية، وتفاعلالتها بين باقي المكونات على السند، لكي تفرز عن طريق الصدفة وبدون تدخل الفنان في تشكيلات وتخطيطات لم تكن في حسبان الفنان ولا حتى في أفق توقعه، وهي علامة تقودنا الى القول أن تدخل الصناعة في ما هو فني تعبيري، يمكن أن يفسد جمالية التلقي، ويحويل الفن الى صناعة، وهذا موضوع آخر يتطلب منا دراسته والانفتاح عليه، من أجل استجلاء العمليات الفنية والصناعية، وتقويم هذا المسار التجريبي، الذي يعتمد كما في السابق على أسس منطقية للتعبير والتجريد، في محاولة فهم العالم فنيا وبطريقة إبداعية وليس صناعية.

هل يمكن الوقوف على مشاهد- جنائزية- ” رحيل الروح”، وهي تتوزع في كل الأعمال الفنية، الرحيل الفردي والجمعي، والرحيل المرتقب، المبني على ماهية ” الرحيل”، إذ لكل منا رحيله، وتصوره، وفهمه لمعنى هذا الرحيل، الذي لم يعد رحيلا خاص بالفنان، بل رحيلا يشمل كل المتلقي، وكل من زار المعرض، أو ساهم في هذا الموكب، غير المعرف، ” رحيل الروح”، لأن الرحيل هنا غير معرف بينما الروح معرفة، هل للروح رحيل؟؟ هل ترحل الروح فعلا،عبر تلك المسارات التي اختارها محمد ميكو، أم اختارت لنفسها طرقا تعتمد على بنيويتها اللامرئية، والميتافيزيقية؟؟؟، أسئلة عديدة تلتقي في المعرض وتتزاحم من أجل تشييع هذا الرحيل المبهم للروح، والمشفوع بابتهالات الصوفية، إنها في نهاية المطاف، والتساؤل، تعلن عن رحيل روح والد الفنان نفسه، وتكشف عن غموضها الذي ظل مندسا بين أشكال، وخطوط، وتركيبات، وألوان، ونقط، وبهذا الكشف الذي أعلن عنه محمد ميكو، يكون الفنان قد نجح على الأقل- من خلال أول تجربة له في العرض فرديا- في التعبير عن حالات التنازع، والقلق، والتنافر، والفرح المشوب بالبحث عن مسالك الفكرة والتقنية، لخدمة العملية التشكيلية، ولهذا جاءت أعماله بدون بداية ولا نهاية، حتى وإن كان تأطير الأعمال الفنية ” البرواز”، قد حد من انسيابها التقني، والمعرفي، إذ تتوقف القراءة العين للعمل اللوحة عند حدود البرواز، لكن على مستوى القراءات بقية أعماله منفتحة على الرحيل بكل تجلياته، وعلى الروح بكل أبعادها الخفية والعصية على الفهم والاستجلاء، وبهذا جاءت أعماله الفنية، حركية ترتبط بزمن إبداعها، ووقت نضوجها، وبلوغها زمن الرحيل، فكل لوحة من الأعمال المعروضة، مرتبطة بقطعة زمنية مشتقة من حياة الفنان، وبكل تفاصيل ودقائق الأمور المرتبطة بتلك اللحظة، ثم إن اختلاف لوحة عن أخرى جاء مرتبطا باختلاف الانفعالات والمشاعر بين زمن واحد.

بقلم :سعيد العفاسي

*فنان وناقد تشكيلي مغربي.

سعيد العفاسي*فنان وناقد تشكيلي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة