متنفَّس عبرَ القضبان (21)

تاريخ النشر: 02/03/21 | 8:27

حسن عبادي/ حيفا
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الصديق الزعتريّ أبو سهيل كرّوم: “حب الحياة الذي نصنعه من خلف الموت وخلف قضبان السجن وعنجهية السجان. هو حب بقدر حبنا للشهادة في سبيل الوطن. بوركتم وبارك الله أعمالكم المميزة في نقل وقائع ما تخطه أقلام اسرانا المصممون على قهر السجن والسجان والاحتلال. ولتستمر الحياة رغم كل القيود المفروضة عليهم تحياتي لك وباقة ورد وود”.

“ضريبة وبِدنا ندفعها”
سافرت صباح الخميس، 04.02.2021، إلى مجيدو أو تل المتسلم (هي مدينة كنعانية تقع في مرج ابن عامر، شمالي فلسطين، ويعود تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، تميّزت في ظل الحضارة الكنعانية العريقة؛ بالبناء الحجري والأسوار الكبيرة، والقصور الفخمة، واشتهرت بصناعة النسيج والملابس ولا سيما تقدمّها في مجال الزراعة) وعلى أنقاض كنيسة أثريّة مهمّة أُقيم سجن مجيدو البغيض.
التقيته قبل عدّة شهور في مطعم “المائدة الذهبيّة” النابلسي العريق، وها أنا ألتقي في سجن “مجيدو”، بنضال خلف أحمد مفلح[1]؛ قابلني بابتسامته العريضة عبر زجاج صدِئ وسمّاعة حديديّة باردة وبادرني بالسؤال عن الشيبون والخرزة. طمأنته وحدّثته عن لقائي بأخيه منذر قبل يومين في سجن هداريم.
عمل نضال جادًا على إصدار ونشر سرديّة “الخرزة” لأخيه الأسير، وليلة مغادرتها المطبعة ودار الفاروق تم اختطافه واعتقاله إداريًا يوم 01.12.2020 ومنذ ذلك الحين لم يُسمح له بالتواصل مع الأهل والعائلة، وكم حزّ في نفسه حرمانه معايدة ابنه آدم بعيد ميلاده في العاشر من يناير، وكان أولاده كناريا، تمارا وآدم واشتياقه لهم، وللعائلة، محور حديثنا.
خبّرني عن العدد اليومي المقيت؛ ثلاث مرّات يوميًا: الخامسة والنصف صباحًا، العاشرة والنصف ظهرًا والسادسة مساءً، وتتبيلها بفحص “أمنيّ” للزنازين في السابعة والنصف وعن حياة البرش التحتيّ وعلاقته بزملاء الأسر والروتين اليوميّ.
يؤلمه إبعاده عن الأهل وحجزه إداريًا دون مبرّر، إقصائه عن مطعمه وحرمانه من الاحتفال بإطلاق “الخرزة” وإشهارها، ورغم ذلك لم يضعف إيمانه بقضيّته قائلًا: “ضريبة وبِدنا ندفعها”.
تحدّثنا الكثير الكثير ومرّت ساعة من الوقت، ترافقه الضحكة رغم أنف الكورونا والسجّانة المرافقة لنا.
لك عزيزي نضال أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في بيت دجن بين أهلك.

“عازف البيانو”
انتظرت في غرفة المحامين في سجن “مجيدو” لإحضار ناصر الدين صبحي أبو خضير[2] من زنزانته؛ رافقتني سجّانة شابّة، طال الانتظار فبدأت تتذمّر واتصّلت بمسؤوليها غاضبة وعاصفةً لأنّ من ستبدّلها لحراستي تأخّرت قليلًا ممّا يجعلها تتأخّر عن لقاء عشيقها، فالباص القادم بعد نصف ساعة، فضحكت بصوتٍ عال، وحين سألتني عن سبب ضحكتي الساخرة أجبتها بعفويّة: “وماذا يقول نضال الذي حُرم من لقاء أولاده شهور؟”.
أطلّ ناصر مستغربًا من حضوري، فأمس كانت له زيارة محامٍ؛ أخبرته بأنّي قدمت لأستمع لعزفه على البيانو تلبية لتوصية كميل! فضحك بصوت عالٍ قائلًا: “عِمِلها كميل….؟!”
حدّثني عن اعتقاله الإداري المتكرّر، الحالي منذ 10.12.2020، وكم هو مخنوق لعدم السماح له بالتواصل مع العائلة والعالم الخارجي، ومعاناته داخل الزنازين رغم حالته الصحيّة؛ أُصيب بانفجار عبوة ناسفة يوم 31.03.1981 أدّت لبتر أجزاء من أصابعه وأجريت له عشرات العمليّات الجراحيّة، في الوجه والأنف والعينين، وبعيدًا عن أوراقه ودفاتره وكرّاساته.
تحدّثنا الكثير عمّا يدور في ملعب الحركة الأسيرة، جامعة القدس، الترامبيّة ومخلّفاتها وإمبراطوريّة رام الله، مرّت ساعة من الوقت، ترافقنا ضحكته المجلجلة التي أغاظت السجّانين المرابطين قُربنا من جهتَي الزجاج الفولاذي الفاصل والعازل.
لك عزيزي ناصر أحلى التحيّات، على أمل أن نلتقي قريبًا في شعفاط بصحبة كميل لتُسمعه عزفًا حيًا على بيانو حقيقي.
شباط 2021
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير نضال مفلح من قرية بيت دجن، معتقل إداري دون أن تُوجّه له تهمة منذ 01.12.2020
[2] الأسير ناصر أبو خضير من القدس، معتقل إداري دون أن تُوجّه له تهمة منذ 10.12.2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة