يوميات نصراوي: هكذا صرت صحفيا

تاريخ النشر: 17/02/21 | 10:56

نبيل عودة

كنت اعد قهوة الصباح حين بعثر صمت الهدوء رنين التلفون. شيء ما أثار الرعشة في جسدي. تجمدت في مكاني متوقعا خبرا. انتظرت أن يرد على التلفون أحد غيري من أهل البيت. لعل الخبر الذي أتوقعه منذ أسابيع، لا يخرج عن حدود التوقع. كنت متأكدا من الدافع لهذا الرنين المزعج في ذلك الصباح الربيعي رغم إننا في أشهر الشتاء الباردة. قلت لنفسي حتى السماء ترفض البكاء. لا يمكن أن يكون هو. سمعت ابنتي تصرخ: “مات”. تجمدت أمام فنجان القهوة.

زوجتي تسال بصوت مرعوب:

– من مات؟

ردت ابنتي:

– لا اعرف. اتصلت امرأة وقالت انه مات وأجهشت بالبكاء، ثم أقفلت الخط.

حبست بداخلي دمعة متمردة. كنت أكذب على نفسي، طلبت من زوجتي أن تتصل على نجمة 42 للوصول إلى آخر رقم اتصل بنا، بعد لحظات أكدت لي انه رقم تلفون بيت سالم جبران. رد صوت زوجته ناديا (وهي بالمناسبة ابنة خالتي أيضا) من الطرف الآخر لتؤكد ما أحاول أن أجعله غير قابل للتصديق: “سالم مات”!!

فقدت قهوتي طعمها صباح ذلك اليوم (الاثنين 19.12.2011). تركت قهوتي وخرجت متوجها إلى بيت سالم.

*****

بعد وقت قصير طلب مني الحديث مع إذاعة محلية عن سالم جبران، وقعت بحيرة شديدة. فضلت ألا أتحدث لأن ذهني مليء باستعراض مراحل حياة سالم الذي ربطتني به صداقة شخصية، وإعجاب فكري كان له تأثيرا على تطور رؤيتي الثقافية والاجتماعية والسياسية والاعلامية، عملنا معا لمدة تزيد عن عشر سنوات، أثرت ثقافتي الإعلامية والمهنية. إلى جانبه خضت أشرس المعارك، كنا وحيدين في مواجهة أجهزة إعلامية وسياسية عديدة ممولة وضخمة. كانت بالنسبة لي على الأقل تجربة صحفية مهنية خلقت مني إعلاميا وصاحب رؤية لا أخفيها لكسب ود أحد، في كل مجال أخوضه. حقا برزت كصاحب رسالة صحفية مهنية أعجب بها أصدقائي وغضب من اجلها اعدائي. ولكني لم اكتب لأكسب ود أحد.

القلائل يعرفون إني لم أكن صحفيا، بل مديرا للعمل، ثم مديرا للإنتاج في الصناعات المعدنية، في الصناعات المعدنية الثقيلة، مارست الكتابة الأدبية بالأساس في الصحف والمجلات التي حررها سالم جبران في فترة معينة، مثل مجلة الغد وصحيفة الاتحاد ومجلة الجديد وصحف ومجلات أخرى.

كانت لي تجربة صحفية قصيرة جدا أثناء دراستي الثانوية حين ضمني سالم جبران في عام 1963، على أثر نشري لقصة قصيرة في مجلة الجديد وأنا في الصف التاسع وكوني عضو الشبيبة الشيوعية، إلى هيئة تحرير مجلة الغد (مجلة شيوعية للشباب كان يحررها سالم جبران) لأمارس العمل الصحفي لفترة كل دراستي الثانوية، كلفت بكتابة بعض الريبورتاجات التي كان سالم يصحح صياغاتها بموهبة تعلمت منها الكثير، وكتابة فنية نقدية عن العروض المسرحية في فترة شهدت الناصرة نشاطا مسرحيا وفنيا كبيرا، لم يعد من زخمه شيء اليوم، واجراء بعض المقابلات ومراجعات كتب. وبعدها لم اعمل بالصحافة إطلاقا. قضيت سنتين بدراسة اكاديمية بموضوع هندسة الميكانيكيات والعمل المهني بمقارعة الحديد، ثم سافرات لموسكو لدراسة الفلسفة في الاتحاد السوفييتي آنذاك، وبعد عودتي من الدراسة بسنتين، عدت للعمل بمجال الصناعات المعدنية بعمل اداري!!

في العام 2000 تقاعدت من عملي في مجال الحدادة المهنية أثر إصابة عمل، فأصر سالم أن يأخذني معه للعمل في جريدة مستقلة جديدة هي جريدة “الأهالي” التي كان لها دورا إعلاميا مميزا (صدرت بين سنوات 2000 – 2005) لم يستمر إصدار الصحيفة لأسباب عديدة، أهمها صعوبة التمويل لصحيفة تملك رؤية استراتيجية وفهم عميق للواقع السياسي والثقافي وليست مجرد صحيفة همها الأساسي الإعلانات او تمجيد زعامات حزبية، او الركض راء الإعلان، ربما تكون هناك أسباب أخرى تتعلق بالضغوطات الهائلة التي تعرض لها صاحب الجريدة، الذي عملت معه فيما بعد، محررا لجريدة يومية هي “المساء” صدرت لنصف سنة بين السنوات (2010 – 2011)،ثم صحيفة عربية عبرية باسم :عرب بوست” (الأولى من نوعها في إسرائيل) صدرت لنصف سنة فقط. قال لي صاحب الأهالي انه أخطأ بإغلاق الأهالي وقتها، التي بدأت تتحول إلى يومية تدريجيا بصدورها لفترة عدة اشهر ثلاث مرات أسبوعيا، وانه لو واصل إصدار الأهالي لأصبحت أكبر وأهم صحيفة عربية وهذه كانت رؤيتي ورؤية سالم أيضا!!.

حين استهجن بعض الصحفيين المتقدمين للعمل في صحفية الأهالي اختياري (وانا لست صحفيا مهنيا) بل رجل اداري في مهنة المنشئات الحديدية، للعمل في الأهالي، كنائب لسالم جيران في تحريرها، قال سالم لصاحبها الذي استغرب في وقته قرار سالم ايضا:” نبيل يملك كل المقومات ليكون صحفيا ومحررا لامعا”.

حينها شعرت برهبة وتحد كبير وأنا يُدفع بي لعالم الصحافة الذي حلمت به في بداية حياتي لكن متطلبات الحياة ارغمتني للالتحاق بالعمل المهني، كنت قد درست بعد الثانوية هندسة ميكانيكيات لمدة سنتين بالمعهد التكنولوجي التخنيون في حيفا، وهو ما اهلني لكي أكون مديرا للإنتاج في الصناعات المعدنية الثقيلة، وكنت قد تركت الدراسة الهندسية بطلب من الحزب الشيوعي لأسافر للدراسة بالمعهد الشيوعي في موسكو. رغم أنى لم اتوقف عن الكتابة القصصية خلال كل فترة عملي المهنية.

في بداية عملي في الأهالي نائبا لرئيس تحريرها سالم جبران لم أكن أفقه من تفاصيل عملي المهني أكثر من مجرد كوني كاتب هاو للقصة ثم اقتحمت عالم المقالة الثقافية والسياسية، وبدأت أطور خبرتي الإعلامية العامة تحت اشراف سالم جبران، وخلال أسابيع قليلة كنت محررا مستقلا ومتمكنا من اصدار الجريدة والاشراف العام على تحريرها.

بعد شهر ونصف من بداية عملي اضطر سالم للسفر مع الكاتب العبري سامي ميخائيل إلى الولايات المتحدة لسلسلة محاضرات. تحملت (أو حُملت) مسؤولية الجريدة وحدي، رافضا أي مساعدة بإضافة صحفي آخر، أو إصدار الصحيفة مؤقتا مرة واحدة أسبوعيا، حتى يعود سالم (كنا نصدرها مرتين كل أسبوع). رفضت تغيير مواعيد الإصدار، وكان ذلك امتحان دخولي للصحافة، عبرته بنجاح، بفضل أفضل أكاديمية إعلامية انتسبت إليها، أكاديمية سالم جبران.

*****

هواجس عديدة انتابتني وأنا أعد نفسي للحديث في الراديو: “عن أي سالم أتحدث؟ سالم الإعلامي البارز؟ سالم الشاعر المبدع؟ سالم المفكر والسياسي البارز بقدراته على طرح رؤية تجذب حتى رافضي مواقفه للإنصات إليه بصمت وترقب؟ سالم المثقف والمحاضر البارع في أسلوبه؟ أم سالم الإنسان المحب لكل الناس والذي لا يعرف الحقد، والذي عمل على حذف مقاطع من بعض نصوصي، لأن الغضب المشروع الذي حركني للكتابة تعالى على المنطق السياسي أو الفكري؟ اذكر قوله إن الكتابة الهادئة المليئة بالحقائق والمنطق السليم والتفكير المتزن أقوى من الكلمات الكبيرة والغاضبة، حتى لو كانت ردا على أهل السوء!!

أقول بتواضع ان سالم جبران كان مبدعا في كل مجال طرقه. يلفت الانتباه دائما بحضوره القوي والموضوعي. تميز بمعرفته العميقة لنوع الجمهور الذي يخاطبه (كثيرا ما تحدث أمام جمهور يهودي لم يكن من اليسار بل من قوى يمينية أيضا) كان بارعا في اختيار استراتيجية الحديث الأنسب مع الجمهور الذي يخاطبه، بدون أي تنازل عن رؤيته الفكرية والفلسفية والسياسية. لا اذكر خلال مرافقتي له للكثير من الندوات في الوسط اليهودي ان هناك من وقف رافضا مواقفه بتعنت، بل ناقشوه بجدية وانتباه واهتمام لما يطرحه، حتى لو رفضوا مواقفه. سالم كان قادرا أن يخلق خطابا سياسيا وطنيا مميزا للجماهير العربية، وأن يؤثر ايجابيا على الخطاب السياسي اليهودي، لو أتيح له الوصول إلى الكنيست. لكن الغباء الحزبي انتصر على العقل والفكر السليم وتمجيد شخصيات انهت دورها السياسي فعلا!!

الانقلاب الذي جرى داخل صفوف الحزب الشيوعي والجبهة عام 1993، حين كان سالم مرشح الحزب المعتمد لرئاسة قائمة الكنيست، دفعني لتقديم استقالتي لأن قيادة الحزب برزت كقيادة عاجزة عن صيانة قرارها وتنفيذه، ففقدت ثقتي بالتنظيم الذي برز فاقدا لعموده الفقري. وهذا سبب خسارة مقعد وفائض اصوات كبير. لم انتظر استقالة سالم التي رأيتها قادمة لا محالة، يومها أسر لي عضو مكتب سياسي، رفيق وقائد ومُثقف حزبي، كان من أوائل الذين تثقفت على محاضراتهم وأنا في منظمة الأشبال الشيوعية، عندما كان معلما وطنيا مفصولا من عمله في فترة الحكم العسكري الأسود، فتحول من معلم للطلاب إلى معلم ومثقف لأبناء شعبه، أحترمه وأكن له تقديرا كبيرا حتى اليوم، لكني ألومه لعدم جرأته هو ورفاقه الآخرين، في الوقوف ضد الانقلاب على سالم، قال لي “أثناء تنفيذ الانقلاب”: “ما يجري من انقلاب على سالم سيدمر الحزب والجبهة “!!

كانت رؤيته ثاقبة ولكنه آثر الصمت!!

الآخرون للأسف، مثل ذلك الرفيق القائد، اختاروا الصمت. لم يكن الموضوع سالم جبران الشخص إطلاقا، إنما مصير تنظيم سياسي له تاريخه النضالي البطولي ومسؤولياته في قيادة المجتمع العربي برمته، تحول للأسف إلى ساحة مزايدات طائفية وانتصار الانتهازية المخجلة.

لم أعد أجد أن وجودي في تنظيم فقدت الثقة بقدرات واستقامة قادته يفيد، لم اعد قادرا على احتمال نهج بات رصيده الفكري الشخصي بعيد عن ثقتي الشخصية، بات منطقه التنظيمي مشكوكا فيه، قراراته لا تُحترم من قادة الصف الأول، دستوره الحزبي لا يطبق إلا على الأعضاء العاديين وبات خاضعا لتجمعات تفرض نفسها ضد المنطق السياسي والفكري والتنظيمي. لست ضد شخص اطلاقا. انما ضد نهج لا أستطيع التماثل معه حزبيا وتنظيميا وفكريا!!

قدمت استقالتي في نفس اليوم، بعد 30 سنة من النشاط المتفاني في صفوف الحزب الشيوعي. لم تكن استقالتي سهلة لي، بعد فترة وكما توقعت قدم سالم استقالته من كل مناصبه الحزبية، كعضو في المكتب السياسي ورئيس تحرير الاتحاد، الصحيفة اليومية للحزب الشيوعي. قال لي ما معناه:” أن استقالته ليست من تاريخ الحزب، الذي هو تاريخنا وشرفنا الوطني النضالي، إنما من تنظيم لم يعد يربطه اليوم بالواقع إلا المصالح الانتهازية”.

سياسيا لم نبتعد عن النهج السياسي للحزب الشيوعي، اذكر أن رفاقا شيوعيين، وبعضهم قياديين، كانوا يتصلون بسالم ليقولوا له إنهم يقرؤون الأهالي: “ليعرفوا الموقف الشيوعي الصحيح من مجريات الأحداث على الساحة السياسية” وكثيرا ما اشتكوا لسالم عن تصرفات حزبية لا تليق بالتنظيم وفكره!!

هل توجد مفارقة أبلغ من ذلك؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة