العظماء 17 سبارتاكوس المصارع الثّائر

تاريخ النشر: 26/10/20 | 13:12

المقدّمة أحيانًا ليست هامّة بل ضروريّة:
يحقّ لنا كعرب ننتمي إلى حضارتنا العربيّة الّتي نهلنا منها معارفنا، وفيها ومنها تشكّلت شخصيّاتنا الثّقافيّة، وعلى سطوع بدور علومها وانبثاق نور معارفها انبنت النّهضة الثّقافيّة في أوروبا في العصور الحديثة بعد أن كانت غارقة في ظلام وجهل دامسيْن. وأنا أحبّ أن أسمّي حضارتنا أو نعتها بالعربيّة لتكون أشمل إنسانيًّا وقوميًّا وأعمق مجدًا واعتزازا عربيًّا، مع أنّ الإسلام كدين وثقافة ولغة قرآن مركّبات أساسيّة في حضارتنا العربيّة وفي شخصيّتنا القوميّة. يحقّ لنا كعرب أن نعتزّ بالعظماء من علمائنا وفلاسفتنا وأدبائنا وهم كثر، والعالِم والمؤرّخ والفيلسوف “ابْن خلدون” (1332 – 1406) من أشهرهم وهو واضع الأسس العلميّة لكثير من العلوم الحديثة كعلم الاجتماع وعلم التّربية وعلم النّفس، ولكنّه برز في وضع الأسس العلميّة لمناهج بحث التّاريخ وكتابته، لتكون الحقيقة قد استوطنت فكرتنا ومعلومتنا تلك عنه استيطانًا جميلًا، وليس كاسْتيطان احتلاليّ ظالم وقذر كالاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين ومن على شاكلته من قاذورات.
وهي حقيقة مجد وفضل جاء على ذكرهما الفيلسوف “فريدريك أنجلز” (1820 – 1895) أحد أقطاب الفكر الماركسيّ فقال: “إنّ اكتشافات العرب في القرون الوسطى ولو كانت متقطّعة فإنّها بالغة الأهميّة في مجال الفلسفة الطّبيعيّة والتّاريخ”، وأظنّ وبميل إلى التّأكّد إنّه يقصد “ابن خلدون” الذي سبق “ماركس” (1818 – 1883) بخمسة قرون تقريبًا في وضع أسس المادّيّة التّاريخيّة، وتخليص الحقائق من الخرافات وجعل العلّة التّاريخيّة ترتبط جدليًّا مع معلولها، وهما أساسان علميّان لكتابة التّاريخ لخّصهما في مقدّمته الشّهيرة لكتابه الكبير، بعنوان “المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر”. وتظلّ “المقدّمة” هي مؤلّفه الأهمّ والأبرز علميًّا، دون إغفال للحضارات الإنسانيّة التي نهلت منها الحضارة العربيّة أيضًا، ولا شكّ أنّ للفكر الهيلينيّ: اليونانيّ والرّومانيّ أثرًا بارزًا في حضارتنا وقد شكّلت الهيلينيّة مركّبًا أساسيًّا من مركّبات الثّقافة الإسلاميّة مع بداية تكوّن المجتمع العبّاسيّ وتبلوره في القرون الوسطى، كما وصف “أحمد أمين” في كتابه الشّهير “ضحى الإسلام”. لا ننكر أثرهم وبصماتهم كما حاولوا أن ينكروا أثرنا العظيم ويمحوا بصمات ثقافاتنا العصيّة على التّغييب والمحو، المحفورة في صفحات علومهم ومعارفهم كنقوش على أخشاب وصخور.
الفكرة لا تولد من فراغ:
إنّ المصادر التي تستمدّ منها الأفكار ومضامينها كثيرة ومن أشهرها ستّة: الأسطورة والتّاريخ والواقع والخيال والتّجارب الشّخصيّة والعقل الباطن. في كتابتي عن العظماء قد اعتمد على جميعها ولكن بتفاوت ما في استخدامها وفي أهمّيّتها، لأنّني أرى في هذه الكتابة ثلاثيّة الأبعاد والأشكال والمضامين، ففيها موضوعيّة الدّراسة ونزاهة توخّي الحقائق والتي تتشابك مع فكريّة المقالة ومعطياتها الدّلاليّة العامّة ومن ثمّ تمتزجان مع ذاتيّة الخاطرة وما فيها من آراء ومواقف خاصّة، كلّ ذلك يدخل في ((mixer خلّاط وجداني أنا الدّاخلي وعقليّتي ولا شعوري كذلك، وليكن بعد الخلط والخفق ما يكون من خلق أدبيّ، واضعًا أمامي كالعادة وككلّ كاتب غايتي بتوصيل الإبداع إلى القارئ ساعيًا لإحداث الفائدة عنده وخلق الإمتاع فيه.
فالتّاريخ ودقّة أحداثه أهمّ عندي من الأسطورة دون إغفال أنّ الأسطورة كذلك قادرة أن تكشف عن حقائق وأوضاع ومعطيات على غاية من الأهميّة، والواقع أهمّ من الخيال في اكتشاف الأحداث كالحروب والثّورات والانتصارات والانكسارات، ولكنّ الخيال هو الآخر قادر على رفد صور ومعطيات مأمولة أو مخيفة، أمّا التّجارب الشّخصيّة سواء كانت للكاتب أو للمكتوب عنهم فهي مصدر على قدر هائل ومفيد لتلمّس التّميّز والعظمة التي جعلت العظيم متألّقًا في الأمجاد والأفعال والمشاريع والإنجازات. فهناك كثير من المسيحيّين المؤمنين الملاحقين ولكنّ “المسيح” الذي صلب واحد، وهنالك كثير من المسلمين المعذّبين والمنتصرين ولكنّ “محمّدًا” صاحب الكهف والنبوءة واحد، وكثير من السّود المضطهدين والمناضلين ولكنّ “مارتن لوثر كينغ” القائد واحد وَ”نيلسون مانديلا” أعظم السّجناء واحد، وكثير من الرّؤساء والملوك العرب ولكنّ العروبيّ حتّى الموت “جمال عبد النّاصر” واحد، وعبيد روما الثّائرون كثيرون ولكنّ “سبارتاكوس” المصارع المتميّز الثّائر واحد.
ولقد قضت التّجارب التّاريخيّة والنّظريّات الدّيالكتيكيّة بأنّ الصّراع واحد، وأنّ أحد أبرز قوانينه “وحدة الأضداد وصراعها”، الجمهوريّة الرّومانيّة ظالمة ومنذ قيامها امتازت بالتّوحّش نحو الخارج ونحو الدّاخل بالأساس. ماذا تريد من جمهوريّة نشأ مؤسّساها: “روموس” (771 – 753 ق.م) وتوأمه “رومولوس” (771 – 717 ق.م) على رضاعة ذئبة، والذئب أكثر الكواسر شراسة وغدرًا وعدوانًا، وأبوهما كما يذكر في الأسطورة “مارس” إله الحرب، وبعد التّأسيس تخلّص “رومولوس” من أخيه الضّحوك والمستهزئ الذي لا ينفع لشيْء وحكم البلاد لمدّة أربعين سنة وبدأ بتوسيع الحدود وزراعة المحاصيل وتطوير العمران. هذه بدايات روما، فماذا سنشهد في نهاياتها! وإذا عاش الظّلم الرّومانيّ في دائرة الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، فلا بدّ من نقيض يعايشه ويصارعه، كما يقضي ديالكتيك التّاريخ والحياة، وينسحب ذلك على المجتمع والطّبيعة والوجود الإنسانيّ. إذا كانت روما محتلّة وظالمة فلا بدّ من مواطنين مظلومين في الدّاخل وأعداء متربّصين في الخارج، وإذا كان أسياد روما يمارسون ظلمهم واستغلالهم الفعليّ كسلوك دنس، فلا بدّ من عبيد مستغَلّين سيحسّون بالظّلم والاستغلال وسيسلكون في طريق النّقاء والطّهارة والثّورة وسيقاومون وسينصرون.
تجربة معرفتي بالبطل:
سمعت بالاسم “سبارتاكوس” لأوّل مرّة وأنا في الصّفّ العاشر، كنت في الخامسة عشرة من عمري، عندما كان جزءًا من مادّة دروس تاريخ الممالك والشّعوب القديمة كاليونان والفرس والرّومان، كنت أجد متعة في طريقة سرد المدرّس لسيرة ذلك البطل الّذي استطاع أن يقاوم دولة عظمى امتازت بقوانينها الظّالمة واستعبادها للبشر. لقد كان العبيد لعبة مسلّية عندما يتصارعون في الحلبة مع الأسود والنّمور الشّرسة فينتصرون وفي الانتصار نشوة، أو عندما يتحوّلون إلى إرب من اللّحم الممزّق والممتزج مع الدّم، وفي ذلك متعة ملوكيّة منقطعة النّظير، وقد يكون موت الإنسان “المصارع العبد” أقلّ خسارة وتكلفة من موت أسد أو نمر، لأنّ الرّقيق في روما كانوا بكلّ الاختصار والدّقّة “لا شيء”، كانوا أقلّ من سقط متاع.
في سنة (1986) طرت بأوّل رحلة جويّة في حياتي، لأوّل مرّة أركب الطّائرة بلا خوف، فنقلتني إلى “بوخارست” عاصمة “رومانيا”، لم أخف على العكس كان الرّكوب في الطّائرة ووجوه المضيفات الجميلات المبتسمات دائمًا وقدودهنّ النّحيفة “والمنقيّات عَ الطّبليّة” والطّعام والشّراب وركوب السّحاب، كانت كلّها جزءًا من متعة السّفر. ويجول في خاطري “لماذا أخاف! فالطّائرة لا تسقط إذا كان يركب فيها مثل أولئك الجميلات. كان أخي “د. خالد هيبي” يدرس موضوع طبّ الأسنان في سنته الأخيرة، وكان من الطّبيعيّ أن يكون مضيفي مع مجموعة من أصدقائه الكرام من بلادنا، ويكون أحدهم “ع الفضاوة” في كلّ يوم دليلي ومرشدي السّياحيّ أيضًا. كانت إحدى الفقرات السّياحيّة زيارة مدينة “براشوف” ومنطقة “سينايا” اللّتيْن تتربّعان على أعلى القمم الرّومانيّة، وفي ذاك المكان الشّاهق والرّائع الجمال والطّبيعة الخلّابة دار للسّينما، ولأوّل مرّة أرى دارًا للسّينما بلا صالة، بل كان الجلوس إلى طاولات وتقدّم طعام الغداء أثناء العرض كمطعم كبير، وكان الفيلم المعروض ذلك اليوم لمحاسن الصّدف “سبارتاكوس” الذي أنتجته “هوليوود” سنة (1960) وهو من قصّة للكاتب “هوارد فاست”، وأمّا الإخراج فهو للمخرج “ستانلي كوبريك” وقام بدور البطولة، بدور “سبارتاكوس” الممثّل الشّهير “كيرك دوغلاس”، أمّا الممثّلة “جين سيمونز” فقامت بدور “فارينيا” العشيقة، وقام بدور القائد الرّومانيّ المستبدّ “كراسّوس” الممثّل “لورانس أوليفييه”. كان الفيلم رائعًا وناجحًا فنيًّا، ويقال إنّ تكلفة صناعته بلغت 12 مليون دولار أميركيّ بينما حقّق أرباحًا بمقدار 60 مليون دولار، وهذا وحده يدلّل على عظمة الفيلم وعظمة بطله العبد الثّائر. هذه هي المرّة الثّانية التي أتعرّف فيها على هذه الشّخصيّة العظيمة. لا يقلّ الفنّ عن التّعليم بل قد يزيد عنه في إكساب الفائدة العلميّة والمتعة الفنيّة. منذ كنت طالبًا في الخامسة عشرة تعلّقت بهذه الشّخصيّة المثيرة من التّعلّم في درس التّاريخ، وفي سنّ الثّلاثين تعلّقت بها أكثر من خلال الفنّ السّينمائيّ، والآن أكتب عنها بإعجاب وبحبّ وبشعور بالاعتزاز والانتماء إلى مشروعه الكفاحيّ ومسيرته الثّوريّة كمعذّبيْن في الأرض، وأنا في سنّ الخامسة والسّتّين.
ولذلك عندما قرّرت أن أتناول شخصيّة هذا العبد كأحد عظماء التّاريخ في العقد الكفاحيّ النّظيم وفي سلسلة الأفاضل المؤمنين بالإنسان وحرّيّته وكرامته كأعلى قيمة في الوجود، كان لا بدّ من البحث والتّنقيب عن تفاصيل سيرته وحلقات مسيرته النّضاليّة التي امتدّت على مدى ثلاث سنوات، وعلى ما فيها من أحداث دراماتيكيّة مصيريّة وإنجازات بطوليّة وانكسارات جدّ ماحقة لثورة اجتماعيّة وطبقيّة، ما زال أثرها الكفاحيّ يمتدّ منذ القرن الأخير قبل الميلاد حتّى القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد، استطاع فيها الرّقيق في الجمهوريّة الرّومانيّة بقيادة العبد المصارع العظيم “سبارتاكوس” من زعزعة أركانها كدولة ظالمة ونظام حكم مستبدّ وقياصرة متجبّرين وطبقة قليلة من الأسياد المستغِلّين والأغنياء الفاحشين. لقد رأيت في شخصيّته العظيمة كلّ عظماء التّاريخ منذ بدء الخليقة حتّى يومنا الرّاهن.
الرّقّ ليس قدرًا:
كان الجمهوريّة الرّومانيّة في القرنيْن الثّاني والأوّل قبل الميلاد تحت نظام حكم أوليغاركيّ، ينحصر بيد أقليّة تستأثر بالسّلطة السّياسيّة وتتميّز بالقدرة الماليّة أو النّسب لعائلات عريقة أو بيديْها السّلطة العسكريّة. وماذا بعد! سلطة تتركّز بيديْها قوّة الاقتصاد وقوّة العسكر وقوّة السّياسة، ألن يكون الظّلم والاعتداء والاستغلال والرّقّ نتيجة طبيعيّة! هذه هي الفترة نفسها التي نتحدّث فيها عن “سبارتاكوس” وثورته الطّبقيّة. كان الرّقيق تحت شبح حكم هذه السّلطة أشبه ما يكونون بالحيوانات ولهم نفس المصير، وليس لهم من الحقوق شيئًا لا بانتماء لأحد ولا بزواج وعائلة ولا بمُلك ولا بحرّيّة، كان العبد منهم مسلوب الإرادة، مملوكًا لسيّده، يفعل به ما يشاء، يؤجّره، يرهنه، يبيعه، يشغّله، يضربه وقد يقتله. لقد كان الرّقّ بالمفهوم الاجتماعيّ في الجمهوريّة الرّومانيّة في هذه الحقبة التّاريخيّة صورة بشعة لاستغلال الإنسان القويّ للإنسان الضّعيف. لقد تجذّر الرّقّ ورسخت مفاهيمه في المجتمع الرّومانيّ، بحيث صار بعض العبيد يرى بأنّ العبوديّة جزء عضويّ من كيانهم ووجدانهم، ولا يشعرون بأنّهم مظلومون. عبيد ويزيّنون عبوديّتهم!
في بعض حقب التّاريخ الرّومانيّ، كانت ثمّة عمالة مقايضة متمثّلة في شكل عبيد، وكانت أحد أهمّ أسس الاقتصاد، وكان شراء العبيد يتمّ بوسائل عديدة مثل: الشّراء من تجّار أجانب أو استعباد أجانب بعد أسرهم في الحروب، ولذلك هناك من قدّر أنّ ثلث سكّان الجمهوريّة الرّومانيّة من العبيد، وكان السّيّد من هؤلاء يتفاخر وهو يصطحب في موكب حاشيته 400 عبد. في القرنيْن الأوّل والثاني قبل الميلاد، اهتمّت روما اهتمامًا واسعًا بالغزو العسكريّ، وأدّى ذلك إلى تصدير مئات الآلاف من العبيد العاملين في النّواحي الاقتصاديّة في روما، جُلبوا من المناطق الأوروبيّة والشّرق الأوسطيّة التي استولى عليها الرّومان. قليل منهم عملوا خدمًا أو حرفيّين، أمّا الغالبية فعملت في المناجم وأراضي صقلية الزّراعيّة. على الغالب أنّ “سبارتاكوس” وزوجته كانا من أسرى الحروب واقتيدا كغنائم وبيعا كعبديْن في سوق العبيد، ولأنّ القانون الرّومانيّ يمنع زواج العبيد فقد فرّقت العبوديّة بينهما فرحلت الزّوجة “سورا” وكانت كاهنة مع تاجر سوريّ وبقي “سبارتاكوس” في روما.
عامل الأسياد عبيدهم بقسوة وظلم كبيريْن، وقد نصّ القانون الرّومانيّ على أنّ العبد ليس شخصًا قائمًا بذاته بل ملكًا لغيره، ويحقّ لسيّده حتّى قتله دون أن تطاله أيّ تبعات قانونيّة. كان العبيد على درجات وأنواع، أقلّهم في المستوى وأكثرهم انتشارًا هم الّذين كانوا يعملون في الحقول والمناجم، معتمدين على قوّة أبدانهم في أداء الأعمال الشّاقّة. هل قبل الرّقيق الرّومانيّ هذا الواقع المرّ والظّلم الوحشيّ كقدر مكتوب، تفرضه أقدار الآلهة وقوانين الجمهوريّة! لا! كان لا بدّ من مقاومة.
أدّى ذلك الظّلم والقمع العنيف إلى حركات تمرّد، فكانت ثورة العبيد الأولى سنة (135 ق.م) وثورة العبيد الثّانية في سنة (104 ق.م) بدأت كلّ من هاتيْن الثّورتيْن في “صقلية”، حيث شاركت مجموعات صغيرة من المتمرّدين المستعدّين للهرب من حياة العبوديّة الرّومانيّة المتوحّشة. لقد أخذ مجلس الشّيوخ الرّومانيّ هذه الحركات على محمل ما من الخطورة، وتدخّل سريعًا لقمعها، إلّا إنّها لمّا تشكّل تهديدًا خطيرًا. أيّ انتفاضة للرّقيق مثّلت قلقًا للنّظام الظّالم، إنّ أهمّيّة هاتيْن الحربيْن ليس فيما أنجزتاه من مكاسب يسيرة فقط بل في كونهما شكّلتا أرضيّة صلبة لاندلاع حرب العبيد الثّالثة سنة (73 ق.م) بقيادة العبد العظيم “سبارتاكوس”، وقد شكّلت فعلًا تهديدًا للجمهوريّة الرّومانيّة، لما كانت تنطوي عليه من مضامين ثوريّة وطبقيّة لعبيد أبوْا قبول الظّلم كأمر واقع من نظام روما أو كقدر محتوم من جبل “الألمبوس”. لقد مثّلت هذه الحرب الثّالثة منظورًا جديدًا، فكانت ثورة المستضعفين للحصول على الحرّيّة وضدّ نظام إقطاعيّ لدولة مستبدّة تقوم على استغلال الرّقيق واستعبادهم كالحيوانات، لذلك كان هدفهم هذه المرّة وهدف قائدهم إنهاء الرّقّ والعبوديّة في الجمهوريّة الرّومانيّة التي ارتكب نظامها الوحشيّ بحقّ هؤلاء المعذّبين أبشع الجرائم وأفظع المجازر.
من هو سبارتاكوس:
عظيم آخر يموت صغيرًا في سنّ الأربعين، ولد سنة (111 ق.م) ومات سنة (71 ق.م) كانت ثورته العظيمة في السّنوات الثّلاث الأخيرة من عمره العريض، فقد بدأت في سنة (73 ق.م) فماذا كان قبلها؟ وما هي جذوره؟ ومن أين منشأه؟ وكيف عاش هذه السّنوات السّبع والثّلاثين قبل ثورته؟ هل من علاقة بين ما كان في البدايات الطّويلة والنّهايات العريضة؟ لا بدّ من وشائج! لا نعرف الكثير عن طفولته وصباه إلّا أنّه ينتمي لقبيلة “مايدي” التي سكنت في “تراقيا” في الشّمال الشّرقيّ لمقدونيا، ولا نعرف شيئًا حتّى عن شبابه المبكّر وتكوينه الفكريّ، وقد نركّز في الكتابة عنه ليقتصر الموضوع على ثورته المجيدة: بداياتها ومسوّغاتها وأحداثها الجسام ونهاياتها المأساويّة بجرائم ارتكبها النّظام الرّومانيّ، أقلّ وصف يليق بها أنّها وحشيّة وهمجيّة بلا حدود.
تعود جذوره إلى دولة “تراقيا” القديمة جاء إلى روما وصار عبدًا من رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة، لا ندري إذا أدين بالعبوديّة لذنب ما أو صار عبدًا لأنّه أسر في حرب أم كان سلعة في صفقة مقايضة تجاريّة. لقد أحسّ “سبارتاكوس” بالظّلم وذلّ الاستعباد وبدأ يعي بفطرته الإنسانيّة معنى الحرّيّة وقيمة أن يعيش الإنسان حرًّا كريمًا، بعد أن فرّقت العبوديّة بينه وبين زوجته، وأدرك شيئًا فشيئًا أنّ الحرّيّة والكرامة لا تنزلان هبة من السّماء، ولا بالإيمان الكسيح بالقدرات الوهميّة الغيبيّة، لكنّه اقتنع في مرحلة متقدّمة بأنّ العبوديّة تأتي في ظروف اجتماعيّة وسياسيّة موضوعيّة يفرضها الظّالمون والأسياد على المستعبدين من الناس لاستغلالهم والكسب المادّيّ والسّلطويّ من كدّ أجسادهم وعرق جباههم، والرّجل العبد حالة موضوعيّة ناتجة عن تلك الأوضاع والظّروف، ولكنّ العبد العظيم مثل “سبارتاكوس” هو ذلك الذي لا يقبل بعبوديّته ولا يزيّنها بالطّبع ويسعى ضدّ ظالميه ومستعبديه، ومن أجل نيل الحرّيّة ولو كانت بشقّ الأنفس أو بالكفاح الدّامي، للوصول إلى الانتصار أو الموتُ دونه، وهذا هو المسار الذي سلكه العبد العظيم ورفاقه رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة.
كان “سبارتاكوس” وسيمًا قويّ البنية وافر الجسد واللياقة والقوّة البدنيّة، وكان يملكه تاجر فباعه لتاجر آخر، ومن ثمّ باعه الثّاني لمدرسة العبيد في “كابوا” حيث تعلّم المصارعة وصار مصارعًا من الوزن الثّقيل ومعه عدد كبير من العبيد المصارعين الأقوياء. ففي القرن الأوّل قبل الميلاد من تاريخ الجمهوريّة الرّومانيّة، كانت ألعاب المصارعة الرّومانيّة أحد أشكال التّرفيه والتّسلية في حلبات القصور وأكثرها شعبيّة بين النّاس، فأنشئت مدارس التّدريب في مختلف أنحاء الجمهوريّة لتأمين المصارعين للمباريات. في هذه المدارس/ السّجون احْتُجز أسرى الحرب والمجرمون المدانون من العبيد وتمرّنوا وتعلّموا المهارات المطلوبة للقتال حتّى الموت. كان “سبارتاكوس” أحد هؤلاء العبيد، وكان محاربًا قويًّا في حلبة المصارعة، وفي عام (73 ق.م) خطّط 200 مصارع للهرب من مدرسة “لينتولوس باتياتوس” في “كابوا”، فاكتشفت خطّتهم، استولى حوالي 70 منهم على أدوات المطبخ وقاتلوا في طريقهم للهرب من المدرسة واستولوا على عدّة عربات من الأسلحة والدّروع. كانت هذه الحركة نواة حرب العبيد الثّالثة، وكانت بداية لبروز أحد أهمّ قادتها “سبارتاكوس” والّتي اعتبرت أكبر انتفاضة كفاحيّة تقوم على أساس التّفاوت الاجتماعيّ والطّبقيّ، قام بها رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة على مدى ثلاث سنوات.
الثّورة الثّالثة، البداية والنّهاية:
هذه الثّورة الاجتماعيّة الطّبقيّة العارمة بدأت برجل وانطلقت من مدرسة العبيد بسبعين عبدًا استطاع “سبارتاكوس” تجنيدهم لفكرة الحرّيّة وضرورة الكفاح والمواجهة، في المدرسة ثاروا على أوضاع الحياة غير الآدميّة التي عاشها وعايشها ليلة بليلة أولئك العبيد المصارعون، هاجموا حرّاس المدرسة وهي في الحقيقة سجن لا يستطيع العبد مغادرته، هاجموا وكانت أسلحتهم القتاليّة هي السكّاكين وأدوات المطبخ المختلفة، وبها استطاعوا قتل كلّ الحرّاس وغنيمة أسلحتهم الشّخصيّة ومندفعين إلى الأبواب فتحوها وتمكّنوا من الفرار. لاقت حركتهم تعاطفًا وتضامنًا في كلّ أرجاء الجمهوريّة، حيث عبروا كان ينضمّ إليهم أعداد من العبيد والفقراء حتّى غدت الثّورة التي بدأت برجل آلافًا مؤلّفة من المقاتلين، وهذا ما يثبت أمريْن: الأوّل أنّ نظام الظّلم الاجتماعيّ والسّياسيّ والقانونيّ الرّومانيّ لا يطاق لوحشيّته، والثّاني أنّ الإحساس بالظّلم لدى العبيد والمستضعفين المضطهدين كان عاليّا وكان شائعًا في أنحاء الجمهوريّة كلّها، وكأنّ أولئك العبيد انتظروا الشّرارة فكان “سبارتاكوس” تلك الشّرارة الأولى لاندلاع الثّورة وصارت الألوف المؤلّفة من العبيد المناضلين لهيبها المندلع والمنتشر. من هذه المدرسة/ السّجن انطلقت الثّورة منذ بداية سنة (73 ق.م) ودامت ثلاث سنوات حتّى (71 ق.م) وصار “سبارتاكوس” زعيمًا لعبيد روما ومحرّرًا لهم.
استطاعت هذه الثّورة كما قلت سابقًا أن تزعزع النّظام الرّومانيّ المستبدّ، لدرجة أن أحسّ هذا النّظام بالخطورة الّتي قد تصل إلى اهتزاز عروش القياصرة، في البداية اعتقد قادة النّظام في الجمهوريّة ونظروا إلى ثورات أولئك العبيد المصارعين الّذين اعتادوا الذّلّ والاستعباد باستهانة كبيرة، لأنّهم لم يقدّروا حجم الخطورة في البداية، وقد يكون لانشغالاتهم بحروب وأمور عظمى دور في هذه النّظرة المستخفّة، وثمّة منهم من رأى بهذه الثّورات “لا أكثر من وخزات خفيفة لحشرات”! وبالنّظر والانتباه إلى الوصف! نرى بعين العقل نظرة الاحتقار التي يكنّها النّظام الرّومانيّ وتعلنها قوانينه صراحة، فليس الإنسان من العبيد إنسانًا بل يقارن بالحشرة. ولكن سرعان ما جعلتهم نجاحات الثّورة ينظرون إلى أولئك “الحشرات” كخطر محدق وكشوكة قويّة تهدّد كيان الجمهوريّة الرّومانيّة يالتسوّس والخراب، ولذا صار من اللازم وضع حدّ لها مهما كلّف الأمر.
هزم العبيد الهاربون مجموعة صغيرة من القوّات أُرسلت لملاحقتهم من “كابوا”، وتسلّحوا بالمعدّات العسكريّة التي استولوا عليها. هذه المجموعة من العبيد المصارعين الهاربين واصلت سيرها إلى المنطقة المحيطة بِ “كابوا”، فاستولت على كثير من الغنائم والتّموينات وجنّدت الكثيرين من العبيد ومن ثمّ هربوا نحو الجبال وتمركزوا على القمم العالية في جبل “فيزوف” متّخذينها مواقع دفاعيّة.
أرسلت الجيوش المنظّمة من قبل مجلس الشّيوخ الرّومانيّ (الحكومة الرّومانيّة) فانتصر العبيد على تلك القوّات مرّتيْن. قلنا إنّ نظرة الاستهانة بهذه الثّورة كما الثّورات التي سبقتها جعلت قادة النّظام يستهينون أيضًا بالنّاحية العمليّة، فقد رأوا أنّ مواجهتها لا تحتاج إلى تخطيط عسكريّ شامل ولا إلى قوّات حربيّة نظاميّة لأنّها مجرّد أعمال سرقة ونهب ولصوصيّة، مع أنّ العبيد حاولوا السّيطرة على مدن ومناطق لترسيخ صمودهم ونفوذهم، فأرسل مجلس الشّيوخ في البداية ميلشيات رومانيّة لمقاتلين تحت قيادة “كلاوديوس غلابر”، وصل عددها إلى 3000 غير منظّمين، وكانت قوّات العبيد بقيادة “سبارتاكوس” قد تسلّقت قمم جبل “فيزوف” وصنعوا الحبال والسّلالم بين الأشجار وتمترسوا بالأشجار العالية، فحاصرهم الجنود الرّومانيّون، فاستخدم العبيد الأشجار كمظلّات إنزال فوق الجنود الرّومانيّين حتّى تمكّنوا من إبادة الميليشيات الرّومانيّة عن بكرة أبيها. لقد حقّق “سبارتاكوس” ورفاقه في أوج تلك الحرب سنة (72 ق.م) تسعة انتصارات كبيرة ومتتالية على القوّات الرّومانيّة. ممّا جعل النّظام ينثر أوراقه ويعيد حساباته ويعجم عيدانه من جديد، وبشكل جديّ وبإحساس بالخطورة على الجمهوريّة برمّتها.
ثمّة من صلب قبل المسيح:
كان لا بدّ للجمهوريّة الرّومانيّة من أجل الحفاظ على الاستقرار والنّظام من محاولة أخرى للقضاء على العبيد وثوراتهم وخطرهم المتفاقم، لأنّ أعمال النّهب التي مارسوها كان معظمها في منطقة “كامبانيا” وهي أغنى وأجمل منطقة استجمام للأثرياء الرّومان، فأُرسلت قوّات أخرى أكبر عددًا وأكثر عدّة، لكنّ هذه القوّات باءت بالفشل والخزي، إذ انتصر العبيد المناضلون مع قائدهم البطل على قوّات النّظام الرّومانيّ وتمكّنوا من أسر قائد الحملة الرّومانيّ “بوبليوس فارينيوس” ومن اغتنام كلّ الأسلحة وأدوات الحرب التي بقيت في أرض المعركة بعد هزيمتهم النّكراء.
الجولة الثّالثة من “حرب الرّقيق الثالثة” كما سمّاها البعض أو “حرب المصارعين” أو “حرب سبارتاكوس”، وأيًّا كانت التّسمية فقد كانت هذه الثّورة المسلّحة والمجيدة آخر حرب في سلسلة التّمرّد والكفاح للعبيد الرّومانيّين الّذين وصل عددهم في بعض مراحلها إلى 120 ألفًا، هذه هي الثّورة الّتي بدأت بعبد واحد أو بمجموعة قليلة من العبيد. وقف على رأس هذه الجولة القائد الرّومانيّ الجديد “ماركوس كراسّوس” (115 – 55 ق.م) المشهور بقسوته وخشونته وخبثه وغناه الفاحش. بعد قتال طويل وعنيف أظهر فيه العبيد بطولات خارقة أمام جيش من ثمانية فيالق عسكريّة مدجّجة بكافّة وسائل القتال ومدرّبة على أعلى درجات التّدريب، استطاع “كراسّوس” سنة (71 ق.م) من إخماد هذه الثّورة ذات المطالب الاجتماعيّة والسّياسيّة العادلة بوحشيّة بلا حدود، وتمكّن من قتل قائدها الفذّ “سبارتاكوس” وعدد كبير من الرّقيق المقاتلين الّذين آمنوا بالنصر، ودونه الموت المشرّف والعظيم وليس الاستسلام المذلّ والمهين. لا حدود لوحشيّة دولة رضع مؤسّساها حليب ذئبة وأبوهما إله الحرب، كما تروي الأسطورة، وللأسطورة هنا وفي توظيفي لها دلالة على الوحشيّة والبطش الكبيريْن. لقد أراد “كراسّوس” وزميله “بومبيوس” أن يستثمر قمع الثّورة بهذه الوحشيّة بإحكام سيطرتهما على مقاليد السّياسة والحكم في الجمهوريّة الرّومانيّة وانتخبا أثرها لتسلّم الأمور بمشاركة الوجه السّياسيّ الجديد “يوليوس قيصر”، وهو ما عُرف فيما بعد بالحكم الثّلاثيّ الأوّل. لم تكفِ وحشيّة قمع الثّورة وقتل قائدها “سبارتاكوس” ولم يروِ غليل “كراسّوس” المتوحّش القتل ولم تشبع غروره وطموحاته، بل قام أيضًا كما يشير كثير من المصادر بتعليق من بقي حيًّا من العبيد المقاتلين على أعواد كالصّلبان على طول الطّريق من “روما” إلى “كابوا” ليكونوا عبرة للآخرين، وكانوا يعدّون بالآلاف، وهناك من المؤرّخين من ذكر “أنّهم كانوا ستّة آلاف من الرّقيق علّقوا وهم أحياء وظلّوا على الأعواد والصّلبان” حتّى قضوْا ببطء. من يشاهد فيلم “سبارتاكوس” يرَ بأمّ العين والدّموع تنهمل من عينيْه فزعًا على مصير هؤلاء الأبطال وبإحساس مأساويّ يُدمي القلب كيف أتقن المصوّر الفنّيّ وهو المخرج نفسه “ستانلي كوبريك” تصوير هؤلاء العبيد وهم يترنّحون على أعواد المشانق الّتي كانت على شكل صلبان. إنّها جريمة وحشيّة ارتكبها نظام “كراسّوس” الرّومانيّ المستبدّ بحقّ أطهر الناس وأنبلهم وأعلاهم عزّة وشرفًا وأكثرهم سطوعًا وخلودًا. لقد كسب المعلَّقون على الأعواد كالذّبائح المجد والخلود وكرامة الحياة وسؤددها، فماذا كسب الجزّار؟ سنرى!
وبالقضاء على هذه الثّورة في هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الجمهوريّة الرّومانيّة تحوّلت الدّولة إلى إمبراطوريّة وكان “يوليوس قيصر” أوّل من لُقّب بلقب الإمبراطور فيها. ومن ثمّ بدأت الحملات الاحتلاليّة العدوانيّة ضدّ المناطق المتاخمة والدّول الأخرى، وكان قد بدأها “كراسّوس” بحرب على “فارثيا” القريبة فمُني بهزيمة نكراء في الحملة ضدّها، ففي المعركة الفاصلة “كاراي” سنة (53 ق.م) قتل “كراسّوس” نفسه وابنه وسبعة النّسور وهم من خيرة قوّاده من أبطال الجيش الرّومانيّ وخسر كذلك معظم جنوده، كلّ ذلك الخزي يجلبه لِ “روما” كتاجر ذي عقليّة اقتصاديّة بحتة كي يشبع غناه وجشعه الّذي لا يعرف حدودًا. هذا الّذي خسر كلّ شيء: الملك والجاه والغنى والنّفوذ والسّلطة قدّرت ثروته بِ 200 مليون “سيستريوس” وهي عبارة عن صكوك برونزيّة وزن الواحد منها 20 – 30 غرامًا، والمبلغ الضّخم كما يبدو يشير إلى ثروة فاحشة وفق المعايير الاقتصاديّة الرّومانيّة القديمة.
الموت واحد ولكن كيف عشنا:
مات الاثنان: “كراسّوس” زعيم الأسياد وَ “سبارتاكوس” زعيم الرّقيق مقتوليْن في حروب ومعارك، ولكن “كراسّوس” مات مخزيًّا قاعدًا قعود الذّليل، معتديًا آثمًا، ومات “سبارتاكوس” واقفًا شامخًا شموخ الكريم، عاش “كراسّوس” خبيثًا، جشعُا، متجبّرًا، مستبدًّا، سفّاحًا ومجرمًا، وعاش “سبارتاكوس” نقيّ القلب، فقيرًا، مناضلًا ضدّ المتجبّرين والمستبدّين، مكافحًا ضدّ الظّلم والرّقّ والاستعباد. كيف يذكر النّاس “كراسّوس” وأمثاله من الطّغاة! أليس موصومًا بعار القتل والاضطهاد وسلب النّاس حقوقهم وحرّيّاتهم وبالاعتداء على الآخرين في المناطق والدّول القريبة، من أجل المال والرّبح والأطماع والنّفوذ لترسيخ ظلمه واضطهاده للبشر! وكيف يذكر النّاس “سبارتاكوس” وأمثاله من العظماء المكافحين والثّوريّين! أليس موسومًا بمجد الحياة والنّضال من أجل الحرّيّة والعدالة والمساواة، كي يكبح الظّلم والاضطهاد والعبوديّة ويستردّ العبيد المقهورون حقوقهم المسلوبة بقوّة الاقتصاد وحرّيّاتهم المصادرة بقوّة السّياسة وكراماتهم الإنسانيّة المهدورة بقوّة القانون الجائر والعسكر المستبدّ! الاستئثار بالاقتصاد والسّياسة والقانون والقوّة، هذا هو الرّابوع الدّنس.
فهل تسمّى فيلم باسْم “كراسّوس” وهل غنّى له أحد! وهل كرّموه بالتّماثيل والأيقونات والأعمال الفنيّة؟ لا أحد! هل من يذكر اسمه في العصور الحديثة من الأجيال النّاشئة؟ لا أحد! وبالمقابل من لا يعرف “سبارتاكوس” على مدى العصور؟ وكم من الفنّانين في السّينما والتّلفزيون والموسيقى والغناء والرّقص والباليه والرّسم والنّحت والتّأليف والأدب والشّعر، وعند الغرب والعرب والأرمن والرّوس والإنجليز والفرنسيّين والفلبّينيّين والأميركيّين. هؤلاء وغيرهم قدّموا أعمالًا فنيّة جليلة احتلّت مضامينها وأشكالها وأهدافها مآثرُ “سبارتاكوس” وثورته الخالدة ومسيرته الكفاحيّة المجيدة، الّتي قدّم فيها حياته ورفاقه من الرّقيق الرّومانيّ ضحيّة مقدّسة على مذبح النّضال الخالد من أجل حرّيّة الإنسان وحقوقه وكرامته في كلّ زمان ومكان.
خلود سبارتاكوس والفنّ:
في السّينما ذكرنا أشهر الأفلام الأميركيّة “سبارتاكوس” وما نال من شهرة جعلت الممثّل “كيرك دوغلاس” مشهورًا بعد بطولته لذلك الفيلم الذي حاز على أربع جوائز “أوسكار”. في التّلفزيون مسلسل أميركيّ من أربعة أجزاء يحمل اسم “سبارتاكوس” ويتناول مراحل حياته كلّها، أُنتج سنة (2010) وعرض سنة (2013) قام ببطولته الممثّل “أندي ويتفيلد” الّذي مات إثر مرض عضال سنة (2011) قبل انتهاء التّصوير، فخلفه في دور البطل الممثّل “ويليام ماكنتاير” وقامت الفنّانة “إيرين كامينغز” بدور الزّوجة الكاهنة “سورا” وقام الممثّل “مانو بينيت” بدور القائد الرّومانيّ الجبّار “كراسّوس”.
قام المثّال الفرنسيّ “دينيس فوياتير” سنة (1830) بنحت تمثال “سبارتاكوس” من الرّخام، وهو موجود في قاعة من القاعات المعدّة لمشاهير عظماء التّاريخ في متحف “اللّوفر” المشهور في وسط “باريس”. وفي الرّسم برع الرّسّام الفلبينيّ “جوان لونا” فقدّم سنة (1884) لوحة شهيرة سمّاها “أنا سبارتاكوس” موجودة في المتحف الوطنيّ في العاصمة الفلبينيّة “مانيلّا”، ولتسمية هذه اللّوحة بهذا العنوان قصّة رائعة تقول: “بعد أن انتصرت الفيالق الرّومانيّة على “سبارتاكوس” ورفاقه من الرّقيق الثّوّار وأسره مع السّتّة الآلاف منهم، أراد قادة بعض الفيالق أن يجعلوا “سبارتاكوس” عبرة لكلّ ثائر تسوّل له نفسه، ولكنّهم لا يعرفون شخصيّته. أوقفوا الأسرى في صفوف وسأل أحدهم: “من هو سبارتاكوس”؟ أجاب “سبارتاكوس” بشموخ: “أنا سبارتاكوس”! أدرك الثّوار أنهم سيعذّبونه وينكّلون به، وإذا برجل ثانٍ يصيح من الخلف: “أنا سبارتاكوس”! ثمّ ثالث ورابع ثمّ تعاقبت الأصوات: “أنا سبارتاكوس .. أنا سبارتاكوس”! ستّة آلاف عبد ثائر حرّ صرخوا: “أنا سبارتاكوس”! وبهذا حوّلوا الهزيمة إلى انتصار! ويا لحقد الأسياد على العبيد الأحرار! أمر القادة بقتلهم صلبًا. ماتوا كلّهم مصلوبين! ماتوا كلّهم رجلاً واحدًا ما زال يصيح: “أنا سبارتاكوس”! فيا لعظمة هؤلاء الأحرار غدت صرختهم “أنا سبارتاكوس” قولًا مأثورًا تتداوله شعوب مظلومة شتّى، ويتردّد في الأعمال الفنّيّة كثيرًا. وينتصب عاليًا وشامخًا شموخ العزّة الإنسانيّة في وسط “موسكو” العاصمة السّوفييتيّة سابقًا والروسيّة اليوم تمثال للبطل المقاوم “سبارتاكوس” في أحد ميادينها المشهورة.
أمّا الرّسام البريطانيّ “بول كارسيلك” فقد قدّم أحدث لوحة للبطل سنة (2010) عُرضت في “ماريبيون” في العاصمة “لندن”. ولعلّ الموسيقى والباليه كانا من أبرز الفنون التي خلّدت “سبارتاكوس” برفيع المستوى، فقد قام المؤلّف الموسيقيّ الأرمنيّ السّوفييتيّ “آرام خاتشادوريان” سنة (1958) بتقديم عمل فنيّ عملاق بعنوان “رائعة سبارتاكوس”، قدّمتها فرقة الباليه الوطنيّة الأرمنيّة وعُرضت أكثر من 200 مرّة في أشهر مسارح العرض في معظم عواصم العالم. وفي “نيودلهي” عاصمة الهند أطلق اسمه على مؤسّسة مستقلّة “منتدى سبارتاكوس” وهو يدعو إلى الحوار والمناظرة والنّقاش بين شعوب العالم في مجالات الثّقافة والإدارة والعلوم الاجتماعيّة وقضايا أخرى تشغل بال الإنسانيّة.
للشّاعر العربيّ المصريّ الماركسيّ “أمل دنقل” قصيدة عنوانها “كلمات سبارتاكوس الأخيرة” كتبها سنة (1962) وهي عبارة عن ملحمة تستحضر مسيرة المناضل الثّائر “سبارتاكوس” من العبوديّة إلى الحرّيّة، وهو يلقي بظلالها ورموزها على الواقع العربيّ عامّة والمصريّ خاصّة. يقول في بدايتها:
“يا قيصر العظيم: قد أخطأت إنّي أعترفُ
دعني على مشنقتي ألثم يدَكْ
ها أنا ذا أقبّل الحبل الّذي في عنقي يلتفُّ
فهو يداك وهو مجدك الّذي يجبرنا أن نعبدَكْ”

ويقول فيها:
“لا تخجلوا! لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلّقون جانبي على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي لأنّكم رفعتم رأسكم مرّه
“سيزيف” لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الّذين يولدون في مخادع الرّقيق”
ويتابع:
“لا تحلموا بعالم سعيدْ
فخلف كلّ قيصر يموت قيصر جديد
وخلف كلّ ثائر يموت أحزان بلا جدوى
ويختمها بقوله:
“إنّي تركت زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الّذي تركته على ذراعها
بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءْ
علّموه الانحناءْ”
ختامًا:
هذا هو العبد المصارع الثّائر العظيم “سبارتاكوس” لم يعد رجلًا مناضلًا ولا قائدًا عسكريًّا ثائرًا كما كان في حياته، لقد صار بعد موته رمزًا للثّورة ضدّ التّمييز والاسترقاق ومن أجل الحقّ والعدل والمساواة، ما زال يعيش بيننا في شخصيّة كلّ ثائر يأبى الظّلم ويسعى للعدالة والحقّ، فهل عاش “كراسّوس” بعد أن مات؟ لا! كان موته نهاية ماحقة له ولاستبداده وأطماعه. هل عاش “سبارتاكوس” بعد موته؟ نعم عاش! وما زال يعيش وسيعيش بيننا ذكرًا خالدًا، سيكون موته بداية المسار في سارية السّناء والنّضال. لم ينتهِ الظّلم ولن تنتهي مقاومته، ألا يعيش الضّدّان في وحدة وصراع!
كنت حائرًا أفكّر كيف أختم كتابة مقالتي هذه، وفي ساعة صفاء ذهنيّ رأيت فيه القديم بالجديد والجديد بالقديم، زارت خاطري فكرة، رأت بِ “كراسّوس” الطّاغية الظّالم الجشع القديم هو نفسه الطّاغية الظّالم الجشع الجديد “ترامب”، ورأت بِ “سبارتاكوس” الثّائر المناضل القديم هو نفسه الثّائر المناضل الجديد “مارتن لوثر كينغ”. فما أشبه الطّغيان بالطّغيان والظّلم بالظّلم والجشع بالجشع! وما أشبه الثّورة بالثّورة والنّضال بالنّضال! هكذا توالد الطّغاة الظّالمون الجشعون من الطّغاة الظّالمين الجشعين، وتوالد الثّوّار المناضلون من الثّوّار المناضلين على مدى التّاريخ. فما أشبه اليوم بالأمس واللّيلة بالبارحة وما أشبه التّاريخ القديم بالتّاريخ الجديد! وما أشبه “كراسّوس” بِ “ترامب” وّ “سبارتاكوس” بِ “مارتن لوثر كينغ”! لقد ترك الطّغاةُ الثوّارَ بلا خيار! الانتصار موتًا أو الانتصار حياة. سيُمحَق بلا أثر “كراسّوس” القديم والجديد، وسيخلد إلى الأبد الأبيد “سبارتاكوس” القديم المتجدّد. ستبقى حياة العظماء ولو قصرت ومهما تعثّرت أقوى وأعرض وأخلد من حياة الأذلّاء وإن طالت لأنّ نهاياتهم كانت وستكون لا أكثر من جيف وحوش في قبور ذات نتن.

العظماء 17
سبارتاكوس المصارع الثّائر

المقدّمة أحيانًا ليست هامّة بل ضروريّة:
يحقّ لنا كعرب ننتمي إلى حضارتنا العربيّة الّتي نهلنا منها معارفنا، وفيها ومنها تشكّلت شخصيّاتنا الثّقافيّة، وعلى سطوع بدور علومها وانبثاق نور معارفها انبنت النّهضة الثّقافيّة في أوروبا في العصور الحديثة بعد أن كانت غارقة في ظلام وجهل دامسيْن. وأنا أحبّ أن أسمّي حضارتنا أو نعتها بالعربيّة لتكون أشمل إنسانيًّا وقوميًّا وأعمق مجدًا واعتزازا عربيًّا، مع أنّ الإسلام كدين وثقافة ولغة قرآن مركّبات أساسيّة في حضارتنا العربيّة وفي شخصيّتنا القوميّة. يحقّ لنا كعرب أن نعتزّ بالعظماء من علمائنا وفلاسفتنا وأدبائنا وهم كثر، والعالِم والمؤرّخ والفيلسوف “ابْن خلدون” (1332 – 1406) من أشهرهم وهو واضع الأسس العلميّة لكثير من العلوم الحديثة كعلم الاجتماع وعلم التّربية وعلم النّفس، ولكنّه برز في وضع الأسس العلميّة لمناهج بحث التّاريخ وكتابته، لتكون الحقيقة قد استوطنت فكرتنا ومعلومتنا تلك عنه استيطانًا جميلًا، وليس كاسْتيطان احتلاليّ ظالم وقذر كالاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين ومن على شاكلته من قاذورات.
وهي حقيقة مجد وفضل جاء على ذكرهما الفيلسوف “فريدريك أنجلز” (1820 – 1895) أحد أقطاب الفكر الماركسيّ فقال: “إنّ اكتشافات العرب في القرون الوسطى ولو كانت متقطّعة فإنّها بالغة الأهميّة في مجال الفلسفة الطّبيعيّة والتّاريخ”، وأظنّ وبميل إلى التّأكّد إنّه يقصد “ابن خلدون” الذي سبق “ماركس” (1818 – 1883) بخمسة قرون تقريبًا في وضع أسس المادّيّة التّاريخيّة، وتخليص الحقائق من الخرافات وجعل العلّة التّاريخيّة ترتبط جدليًّا مع معلولها، وهما أساسان علميّان لكتابة التّاريخ لخّصهما في مقدّمته الشّهيرة لكتابه الكبير، بعنوان “المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر”. وتظلّ “المقدّمة” هي مؤلّفه الأهمّ والأبرز علميًّا، دون إغفال للحضارات الإنسانيّة التي نهلت منها الحضارة العربيّة أيضًا، ولا شكّ أنّ للفكر الهيلينيّ: اليونانيّ والرّومانيّ أثرًا بارزًا في حضارتنا وقد شكّلت الهيلينيّة مركّبًا أساسيًّا من مركّبات الثّقافة الإسلاميّة مع بداية تكوّن المجتمع العبّاسيّ وتبلوره في القرون الوسطى، كما وصف “أحمد أمين” في كتابه الشّهير “ضحى الإسلام”. لا ننكر أثرهم وبصماتهم كما حاولوا أن ينكروا أثرنا العظيم ويمحوا بصمات ثقافاتنا العصيّة على التّغييب والمحو، المحفورة في صفحات علومهم ومعارفهم كنقوش على أخشاب وصخور.
الفكرة لا تولد من فراغ:
إنّ المصادر التي تستمدّ منها الأفكار ومضامينها كثيرة ومن أشهرها ستّة: الأسطورة والتّاريخ والواقع والخيال والتّجارب الشّخصيّة والعقل الباطن. في كتابتي عن العظماء قد اعتمد على جميعها ولكن بتفاوت ما في استخدامها وفي أهمّيّتها، لأنّني أرى في هذه الكتابة ثلاثيّة الأبعاد والأشكال والمضامين، ففيها موضوعيّة الدّراسة ونزاهة توخّي الحقائق والتي تتشابك مع فكريّة المقالة ومعطياتها الدّلاليّة العامّة ومن ثمّ تمتزجان مع ذاتيّة الخاطرة وما فيها من آراء ومواقف خاصّة، كلّ ذلك يدخل في ((mixer خلّاط وجداني أنا الدّاخلي وعقليّتي ولا شعوري كذلك، وليكن بعد الخلط والخفق ما يكون من خلق أدبيّ، واضعًا أمامي كالعادة وككلّ كاتب غايتي بتوصيل الإبداع إلى القارئ ساعيًا لإحداث الفائدة عنده وخلق الإمتاع فيه.
فالتّاريخ ودقّة أحداثه أهمّ عندي من الأسطورة دون إغفال أنّ الأسطورة كذلك قادرة أن تكشف عن حقائق وأوضاع ومعطيات على غاية من الأهميّة، والواقع أهمّ من الخيال في اكتشاف الأحداث كالحروب والثّورات والانتصارات والانكسارات، ولكنّ الخيال هو الآخر قادر على رفد صور ومعطيات مأمولة أو مخيفة، أمّا التّجارب الشّخصيّة سواء كانت للكاتب أو للمكتوب عنهم فهي مصدر على قدر هائل ومفيد لتلمّس التّميّز والعظمة التي جعلت العظيم متألّقًا في الأمجاد والأفعال والمشاريع والإنجازات. فهناك كثير من المسيحيّين المؤمنين الملاحقين ولكنّ “المسيح” الذي صلب واحد، وهنالك كثير من المسلمين المعذّبين والمنتصرين ولكنّ “محمّدًا” صاحب الكهف والنبوءة واحد، وكثير من السّود المضطهدين والمناضلين ولكنّ “مارتن لوثر كينغ” القائد واحد وَ”نيلسون مانديلا” أعظم السّجناء واحد، وكثير من الرّؤساء والملوك العرب ولكنّ العروبيّ حتّى الموت “جمال عبد النّاصر” واحد، وعبيد روما الثّائرون كثيرون ولكنّ “سبارتاكوس” المصارع المتميّز الثّائر واحد.
ولقد قضت التّجارب التّاريخيّة والنّظريّات الدّيالكتيكيّة بأنّ الصّراع واحد، وأنّ أحد أبرز قوانينه “وحدة الأضداد وصراعها”، الجمهوريّة الرّومانيّة ظالمة ومنذ قيامها امتازت بالتّوحّش نحو الخارج ونحو الدّاخل بالأساس. ماذا تريد من جمهوريّة نشأ مؤسّساها: “روموس” (771 – 753 ق.م) وتوأمه “رومولوس” (771 – 717 ق.م) على رضاعة ذئبة، والذئب أكثر الكواسر شراسة وغدرًا وعدوانًا، وأبوهما كما يذكر في الأسطورة “مارس” إله الحرب، وبعد التّأسيس تخلّص “رومولوس” من أخيه الضّحوك والمستهزئ الذي لا ينفع لشيْء وحكم البلاد لمدّة أربعين سنة وبدأ بتوسيع الحدود وزراعة المحاصيل وتطوير العمران. هذه بدايات روما، فماذا سنشهد في نهاياتها! وإذا عاش الظّلم الرّومانيّ في دائرة الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، فلا بدّ من نقيض يعايشه ويصارعه، كما يقضي ديالكتيك التّاريخ والحياة، وينسحب ذلك على المجتمع والطّبيعة والوجود الإنسانيّ. إذا كانت روما محتلّة وظالمة فلا بدّ من مواطنين مظلومين في الدّاخل وأعداء متربّصين في الخارج، وإذا كان أسياد روما يمارسون ظلمهم واستغلالهم الفعليّ كسلوك دنس، فلا بدّ من عبيد مستغَلّين سيحسّون بالظّلم والاستغلال وسيسلكون في طريق النّقاء والطّهارة والثّورة وسيقاومون وسينصرون.
تجربة معرفتي بالبطل:
سمعت بالاسم “سبارتاكوس” لأوّل مرّة وأنا في الصّفّ العاشر، كنت في الخامسة عشرة من عمري، عندما كان جزءًا من مادّة دروس تاريخ الممالك والشّعوب القديمة كاليونان والفرس والرّومان، كنت أجد متعة في طريقة سرد المدرّس لسيرة ذلك البطل الّذي استطاع أن يقاوم دولة عظمى امتازت بقوانينها الظّالمة واستعبادها للبشر. لقد كان العبيد لعبة مسلّية عندما يتصارعون في الحلبة مع الأسود والنّمور الشّرسة فينتصرون وفي الانتصار نشوة، أو عندما يتحوّلون إلى إرب من اللّحم الممزّق والممتزج مع الدّم، وفي ذلك متعة ملوكيّة منقطعة النّظير، وقد يكون موت الإنسان “المصارع العبد” أقلّ خسارة وتكلفة من موت أسد أو نمر، لأنّ الرّقيق في روما كانوا بكلّ الاختصار والدّقّة “لا شيء”، كانوا أقلّ من سقط متاع.
في سنة (1986) طرت بأوّل رحلة جويّة في حياتي، لأوّل مرّة أركب الطّائرة بلا خوف، فنقلتني إلى “بوخارست” عاصمة “رومانيا”، لم أخف على العكس كان الرّكوب في الطّائرة ووجوه المضيفات الجميلات المبتسمات دائمًا وقدودهنّ النّحيفة “والمنقيّات عَ الطّبليّة” والطّعام والشّراب وركوب السّحاب، كانت كلّها جزءًا من متعة السّفر. ويجول في خاطري “لماذا أخاف! فالطّائرة لا تسقط إذا كان يركب فيها مثل أولئك الجميلات. كان أخي “د. خالد هيبي” يدرس موضوع طبّ الأسنان في سنته الأخيرة، وكان من الطّبيعيّ أن يكون مضيفي مع مجموعة من أصدقائه الكرام من بلادنا، ويكون أحدهم “ع الفضاوة” في كلّ يوم دليلي ومرشدي السّياحيّ أيضًا. كانت إحدى الفقرات السّياحيّة زيارة مدينة “براشوف” ومنطقة “سينايا” اللّتيْن تتربّعان على أعلى القمم الرّومانيّة، وفي ذاك المكان الشّاهق والرّائع الجمال والطّبيعة الخلّابة دار للسّينما، ولأوّل مرّة أرى دارًا للسّينما بلا صالة، بل كان الجلوس إلى طاولات وتقدّم طعام الغداء أثناء العرض كمطعم كبير، وكان الفيلم المعروض ذلك اليوم لمحاسن الصّدف “سبارتاكوس” الذي أنتجته “هوليوود” سنة (1960) وهو من قصّة للكاتب “هوارد فاست”، وأمّا الإخراج فهو للمخرج “ستانلي كوبريك” وقام بدور البطولة، بدور “سبارتاكوس” الممثّل الشّهير “كيرك دوغلاس”، أمّا الممثّلة “جين سيمونز” فقامت بدور “فارينيا” العشيقة، وقام بدور القائد الرّومانيّ المستبدّ “كراسّوس” الممثّل “لورانس أوليفييه”. كان الفيلم رائعًا وناجحًا فنيًّا، ويقال إنّ تكلفة صناعته بلغت 12 مليون دولار أميركيّ بينما حقّق أرباحًا بمقدار 60 مليون دولار، وهذا وحده يدلّل على عظمة الفيلم وعظمة بطله العبد الثّائر. هذه هي المرّة الثّانية التي أتعرّف فيها على هذه الشّخصيّة العظيمة. لا يقلّ الفنّ عن التّعليم بل قد يزيد عنه في إكساب الفائدة العلميّة والمتعة الفنيّة. منذ كنت طالبًا في الخامسة عشرة تعلّقت بهذه الشّخصيّة المثيرة من التّعلّم في درس التّاريخ، وفي سنّ الثّلاثين تعلّقت بها أكثر من خلال الفنّ السّينمائيّ، والآن أكتب عنها بإعجاب وبحبّ وبشعور بالاعتزاز والانتماء إلى مشروعه الكفاحيّ ومسيرته الثّوريّة كمعذّبيْن في الأرض، وأنا في سنّ الخامسة والسّتّين.
ولذلك عندما قرّرت أن أتناول شخصيّة هذا العبد كأحد عظماء التّاريخ في العقد الكفاحيّ النّظيم وفي سلسلة الأفاضل المؤمنين بالإنسان وحرّيّته وكرامته كأعلى قيمة في الوجود، كان لا بدّ من البحث والتّنقيب عن تفاصيل سيرته وحلقات مسيرته النّضاليّة التي امتدّت على مدى ثلاث سنوات، وعلى ما فيها من أحداث دراماتيكيّة مصيريّة وإنجازات بطوليّة وانكسارات جدّ ماحقة لثورة اجتماعيّة وطبقيّة، ما زال أثرها الكفاحيّ يمتدّ منذ القرن الأخير قبل الميلاد حتّى القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد، استطاع فيها الرّقيق في الجمهوريّة الرّومانيّة بقيادة العبد المصارع العظيم “سبارتاكوس” من زعزعة أركانها كدولة ظالمة ونظام حكم مستبدّ وقياصرة متجبّرين وطبقة قليلة من الأسياد المستغِلّين والأغنياء الفاحشين. لقد رأيت في شخصيّته العظيمة كلّ عظماء التّاريخ منذ بدء الخليقة حتّى يومنا الرّاهن.
الرّقّ ليس قدرًا:
كان الجمهوريّة الرّومانيّة في القرنيْن الثّاني والأوّل قبل الميلاد تحت نظام حكم أوليغاركيّ، ينحصر بيد أقليّة تستأثر بالسّلطة السّياسيّة وتتميّز بالقدرة الماليّة أو النّسب لعائلات عريقة أو بيديْها السّلطة العسكريّة. وماذا بعد! سلطة تتركّز بيديْها قوّة الاقتصاد وقوّة العسكر وقوّة السّياسة، ألن يكون الظّلم والاعتداء والاستغلال والرّقّ نتيجة طبيعيّة! هذه هي الفترة نفسها التي نتحدّث فيها عن “سبارتاكوس” وثورته الطّبقيّة. كان الرّقيق تحت شبح حكم هذه السّلطة أشبه ما يكونون بالحيوانات ولهم نفس المصير، وليس لهم من الحقوق شيئًا لا بانتماء لأحد ولا بزواج وعائلة ولا بمُلك ولا بحرّيّة، كان العبد منهم مسلوب الإرادة، مملوكًا لسيّده، يفعل به ما يشاء، يؤجّره، يرهنه، يبيعه، يشغّله، يضربه وقد يقتله. لقد كان الرّقّ بالمفهوم الاجتماعيّ في الجمهوريّة الرّومانيّة في هذه الحقبة التّاريخيّة صورة بشعة لاستغلال الإنسان القويّ للإنسان الضّعيف. لقد تجذّر الرّقّ ورسخت مفاهيمه في المجتمع الرّومانيّ، بحيث صار بعض العبيد يرى بأنّ العبوديّة جزء عضويّ من كيانهم ووجدانهم، ولا يشعرون بأنّهم مظلومون. عبيد ويزيّنون عبوديّتهم!
في بعض حقب التّاريخ الرّومانيّ، كانت ثمّة عمالة مقايضة متمثّلة في شكل عبيد، وكانت أحد أهمّ أسس الاقتصاد، وكان شراء العبيد يتمّ بوسائل عديدة مثل: الشّراء من تجّار أجانب أو استعباد أجانب بعد أسرهم في الحروب، ولذلك هناك من قدّر أنّ ثلث سكّان الجمهوريّة الرّومانيّة من العبيد، وكان السّيّد من هؤلاء يتفاخر وهو يصطحب في موكب حاشيته 400 عبد. في القرنيْن الأوّل والثاني قبل الميلاد، اهتمّت روما اهتمامًا واسعًا بالغزو العسكريّ، وأدّى ذلك إلى تصدير مئات الآلاف من العبيد العاملين في النّواحي الاقتصاديّة في روما، جُلبوا من المناطق الأوروبيّة والشّرق الأوسطيّة التي استولى عليها الرّومان. قليل منهم عملوا خدمًا أو حرفيّين، أمّا الغالبية فعملت في المناجم وأراضي صقلية الزّراعيّة. على الغالب أنّ “سبارتاكوس” وزوجته كانا من أسرى الحروب واقتيدا كغنائم وبيعا كعبديْن في سوق العبيد، ولأنّ القانون الرّومانيّ يمنع زواج العبيد فقد فرّقت العبوديّة بينهما فرحلت الزّوجة “سورا” وكانت كاهنة مع تاجر سوريّ وبقي “سبارتاكوس” في روما.
عامل الأسياد عبيدهم بقسوة وظلم كبيريْن، وقد نصّ القانون الرّومانيّ على أنّ العبد ليس شخصًا قائمًا بذاته بل ملكًا لغيره، ويحقّ لسيّده حتّى قتله دون أن تطاله أيّ تبعات قانونيّة. كان العبيد على درجات وأنواع، أقلّهم في المستوى وأكثرهم انتشارًا هم الّذين كانوا يعملون في الحقول والمناجم، معتمدين على قوّة أبدانهم في أداء الأعمال الشّاقّة. هل قبل الرّقيق الرّومانيّ هذا الواقع المرّ والظّلم الوحشيّ كقدر مكتوب، تفرضه أقدار الآلهة وقوانين الجمهوريّة! لا! كان لا بدّ من مقاومة.
أدّى ذلك الظّلم والقمع العنيف إلى حركات تمرّد، فكانت ثورة العبيد الأولى سنة (135 ق.م) وثورة العبيد الثّانية في سنة (104 ق.م) بدأت كلّ من هاتيْن الثّورتيْن في “صقلية”، حيث شاركت مجموعات صغيرة من المتمرّدين المستعدّين للهرب من حياة العبوديّة الرّومانيّة المتوحّشة. لقد أخذ مجلس الشّيوخ الرّومانيّ هذه الحركات على محمل ما من الخطورة، وتدخّل سريعًا لقمعها، إلّا إنّها لمّا تشكّل تهديدًا خطيرًا. أيّ انتفاضة للرّقيق مثّلت قلقًا للنّظام الظّالم، إنّ أهمّيّة هاتيْن الحربيْن ليس فيما أنجزتاه من مكاسب يسيرة فقط بل في كونهما شكّلتا أرضيّة صلبة لاندلاع حرب العبيد الثّالثة سنة (73 ق.م) بقيادة العبد العظيم “سبارتاكوس”، وقد شكّلت فعلًا تهديدًا للجمهوريّة الرّومانيّة، لما كانت تنطوي عليه من مضامين ثوريّة وطبقيّة لعبيد أبوْا قبول الظّلم كأمر واقع من نظام روما أو كقدر محتوم من جبل “الألمبوس”. لقد مثّلت هذه الحرب الثّالثة منظورًا جديدًا، فكانت ثورة المستضعفين للحصول على الحرّيّة وضدّ نظام إقطاعيّ لدولة مستبدّة تقوم على استغلال الرّقيق واستعبادهم كالحيوانات، لذلك كان هدفهم هذه المرّة وهدف قائدهم إنهاء الرّقّ والعبوديّة في الجمهوريّة الرّومانيّة التي ارتكب نظامها الوحشيّ بحقّ هؤلاء المعذّبين أبشع الجرائم وأفظع المجازر.
من هو سبارتاكوس:
عظيم آخر يموت صغيرًا في سنّ الأربعين، ولد سنة (111 ق.م) ومات سنة (71 ق.م) كانت ثورته العظيمة في السّنوات الثّلاث الأخيرة من عمره العريض، فقد بدأت في سنة (73 ق.م) فماذا كان قبلها؟ وما هي جذوره؟ ومن أين منشأه؟ وكيف عاش هذه السّنوات السّبع والثّلاثين قبل ثورته؟ هل من علاقة بين ما كان في البدايات الطّويلة والنّهايات العريضة؟ لا بدّ من وشائج! لا نعرف الكثير عن طفولته وصباه إلّا أنّه ينتمي لقبيلة “مايدي” التي سكنت في “تراقيا” في الشّمال الشّرقيّ لمقدونيا، ولا نعرف شيئًا حتّى عن شبابه المبكّر وتكوينه الفكريّ، وقد نركّز في الكتابة عنه ليقتصر الموضوع على ثورته المجيدة: بداياتها ومسوّغاتها وأحداثها الجسام ونهاياتها المأساويّة بجرائم ارتكبها النّظام الرّومانيّ، أقلّ وصف يليق بها أنّها وحشيّة وهمجيّة بلا حدود.
تعود جذوره إلى دولة “تراقيا” القديمة جاء إلى روما وصار عبدًا من رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة، لا ندري إذا أدين بالعبوديّة لذنب ما أو صار عبدًا لأنّه أسر في حرب أم كان سلعة في صفقة مقايضة تجاريّة. لقد أحسّ “سبارتاكوس” بالظّلم وذلّ الاستعباد وبدأ يعي بفطرته الإنسانيّة معنى الحرّيّة وقيمة أن يعيش الإنسان حرًّا كريمًا، بعد أن فرّقت العبوديّة بينه وبين زوجته، وأدرك شيئًا فشيئًا أنّ الحرّيّة والكرامة لا تنزلان هبة من السّماء، ولا بالإيمان الكسيح بالقدرات الوهميّة الغيبيّة، لكنّه اقتنع في مرحلة متقدّمة بأنّ العبوديّة تأتي في ظروف اجتماعيّة وسياسيّة موضوعيّة يفرضها الظّالمون والأسياد على المستعبدين من الناس لاستغلالهم والكسب المادّيّ والسّلطويّ من كدّ أجسادهم وعرق جباههم، والرّجل العبد حالة موضوعيّة ناتجة عن تلك الأوضاع والظّروف، ولكنّ العبد العظيم مثل “سبارتاكوس” هو ذلك الذي لا يقبل بعبوديّته ولا يزيّنها بالطّبع ويسعى ضدّ ظالميه ومستعبديه، ومن أجل نيل الحرّيّة ولو كانت بشقّ الأنفس أو بالكفاح الدّامي، للوصول إلى الانتصار أو الموتُ دونه، وهذا هو المسار الذي سلكه العبد العظيم ورفاقه رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة.
كان “سبارتاكوس” وسيمًا قويّ البنية وافر الجسد واللياقة والقوّة البدنيّة، وكان يملكه تاجر فباعه لتاجر آخر، ومن ثمّ باعه الثّاني لمدرسة العبيد في “كابوا” حيث تعلّم المصارعة وصار مصارعًا من الوزن الثّقيل ومعه عدد كبير من العبيد المصارعين الأقوياء. ففي القرن الأوّل قبل الميلاد من تاريخ الجمهوريّة الرّومانيّة، كانت ألعاب المصارعة الرّومانيّة أحد أشكال التّرفيه والتّسلية في حلبات القصور وأكثرها شعبيّة بين النّاس، فأنشئت مدارس التّدريب في مختلف أنحاء الجمهوريّة لتأمين المصارعين للمباريات. في هذه المدارس/ السّجون احْتُجز أسرى الحرب والمجرمون المدانون من العبيد وتمرّنوا وتعلّموا المهارات المطلوبة للقتال حتّى الموت. كان “سبارتاكوس” أحد هؤلاء العبيد، وكان محاربًا قويًّا في حلبة المصارعة، وفي عام (73 ق.م) خطّط 200 مصارع للهرب من مدرسة “لينتولوس باتياتوس” في “كابوا”، فاكتشفت خطّتهم، استولى حوالي 70 منهم على أدوات المطبخ وقاتلوا في طريقهم للهرب من المدرسة واستولوا على عدّة عربات من الأسلحة والدّروع. كانت هذه الحركة نواة حرب العبيد الثّالثة، وكانت بداية لبروز أحد أهمّ قادتها “سبارتاكوس” والّتي اعتبرت أكبر انتفاضة كفاحيّة تقوم على أساس التّفاوت الاجتماعيّ والطّبقيّ، قام بها رقيق الجمهوريّة الرّومانيّة على مدى ثلاث سنوات.
الثّورة الثّالثة، البداية والنّهاية:
هذه الثّورة الاجتماعيّة الطّبقيّة العارمة بدأت برجل وانطلقت من مدرسة العبيد بسبعين عبدًا استطاع “سبارتاكوس” تجنيدهم لفكرة الحرّيّة وضرورة الكفاح والمواجهة، في المدرسة ثاروا على أوضاع الحياة غير الآدميّة التي عاشها وعايشها ليلة بليلة أولئك العبيد المصارعون، هاجموا حرّاس المدرسة وهي في الحقيقة سجن لا يستطيع العبد مغادرته، هاجموا وكانت أسلحتهم القتاليّة هي السكّاكين وأدوات المطبخ المختلفة، وبها استطاعوا قتل كلّ الحرّاس وغنيمة أسلحتهم الشّخصيّة ومندفعين إلى الأبواب فتحوها وتمكّنوا من الفرار. لاقت حركتهم تعاطفًا وتضامنًا في كلّ أرجاء الجمهوريّة، حيث عبروا كان ينضمّ إليهم أعداد من العبيد والفقراء حتّى غدت الثّورة التي بدأت برجل آلافًا مؤلّفة من المقاتلين، وهذا ما يثبت أمريْن: الأوّل أنّ نظام الظّلم الاجتماعيّ والسّياسيّ والقانونيّ الرّومانيّ لا يطاق لوحشيّته، والثّاني أنّ الإحساس بالظّلم لدى العبيد والمستضعفين المضطهدين كان عاليّا وكان شائعًا في أنحاء الجمهوريّة كلّها، وكأنّ أولئك العبيد انتظروا الشّرارة فكان “سبارتاكوس” تلك الشّرارة الأولى لاندلاع الثّورة وصارت الألوف المؤلّفة من العبيد المناضلين لهيبها المندلع والمنتشر. من هذه المدرسة/ السّجن انطلقت الثّورة منذ بداية سنة (73 ق.م) ودامت ثلاث سنوات حتّى (71 ق.م) وصار “سبارتاكوس” زعيمًا لعبيد روما ومحرّرًا لهم.
استطاعت هذه الثّورة كما قلت سابقًا أن تزعزع النّظام الرّومانيّ المستبدّ، لدرجة أن أحسّ هذا النّظام بالخطورة الّتي قد تصل إلى اهتزاز عروش القياصرة، في البداية اعتقد قادة النّظام في الجمهوريّة ونظروا إلى ثورات أولئك العبيد المصارعين الّذين اعتادوا الذّلّ والاستعباد باستهانة كبيرة، لأنّهم لم يقدّروا حجم الخطورة في البداية، وقد يكون لانشغالاتهم بحروب وأمور عظمى دور في هذه النّظرة المستخفّة، وثمّة منهم من رأى بهذه الثّورات “لا أكثر من وخزات خفيفة لحشرات”! وبالنّظر والانتباه إلى الوصف! نرى بعين العقل نظرة الاحتقار التي يكنّها النّظام الرّومانيّ وتعلنها قوانينه صراحة، فليس الإنسان من العبيد إنسانًا بل يقارن بالحشرة. ولكن سرعان ما جعلتهم نجاحات الثّورة ينظرون إلى أولئك “الحشرات” كخطر محدق وكشوكة قويّة تهدّد كيان الجمهوريّة الرّومانيّة يالتسوّس والخراب، ولذا صار من اللازم وضع حدّ لها مهما كلّف الأمر.
هزم العبيد الهاربون مجموعة صغيرة من القوّات أُرسلت لملاحقتهم من “كابوا”، وتسلّحوا بالمعدّات العسكريّة التي استولوا عليها. هذه المجموعة من العبيد المصارعين الهاربين واصلت سيرها إلى المنطقة المحيطة بِ “كابوا”، فاستولت على كثير من الغنائم والتّموينات وجنّدت الكثيرين من العبيد ومن ثمّ هربوا نحو الجبال وتمركزوا على القمم العالية في جبل “فيزوف” متّخذينها مواقع دفاعيّة.
أرسلت الجيوش المنظّمة من قبل مجلس الشّيوخ الرّومانيّ (الحكومة الرّومانيّة) فانتصر العبيد على تلك القوّات مرّتيْن. قلنا إنّ نظرة الاستهانة بهذه الثّورة كما الثّورات التي سبقتها جعلت قادة النّظام يستهينون أيضًا بالنّاحية العمليّة، فقد رأوا أنّ مواجهتها لا تحتاج إلى تخطيط عسكريّ شامل ولا إلى قوّات حربيّة نظاميّة لأنّها مجرّد أعمال سرقة ونهب ولصوصيّة، مع أنّ العبيد حاولوا السّيطرة على مدن ومناطق لترسيخ صمودهم ونفوذهم، فأرسل مجلس الشّيوخ في البداية ميلشيات رومانيّة لمقاتلين تحت قيادة “كلاوديوس غلابر”، وصل عددها إلى 3000 غير منظّمين، وكانت قوّات العبيد بقيادة “سبارتاكوس” قد تسلّقت قمم جبل “فيزوف” وصنعوا الحبال والسّلالم بين الأشجار وتمترسوا بالأشجار العالية، فحاصرهم الجنود الرّومانيّون، فاستخدم العبيد الأشجار كمظلّات إنزال فوق الجنود الرّومانيّين حتّى تمكّنوا من إبادة الميليشيات الرّومانيّة عن بكرة أبيها. لقد حقّق “سبارتاكوس” ورفاقه في أوج تلك الحرب سنة (72 ق.م) تسعة انتصارات كبيرة ومتتالية على القوّات الرّومانيّة. ممّا جعل النّظام ينثر أوراقه ويعيد حساباته ويعجم عيدانه من جديد، وبشكل جديّ وبإحساس بالخطورة على الجمهوريّة برمّتها.
ثمّة من صلب قبل المسيح:
كان لا بدّ للجمهوريّة الرّومانيّة من أجل الحفاظ على الاستقرار والنّظام من محاولة أخرى للقضاء على العبيد وثوراتهم وخطرهم المتفاقم، لأنّ أعمال النّهب التي مارسوها كان معظمها في منطقة “كامبانيا” وهي أغنى وأجمل منطقة استجمام للأثرياء الرّومان، فأُرسلت قوّات أخرى أكبر عددًا وأكثر عدّة، لكنّ هذه القوّات باءت بالفشل والخزي، إذ انتصر العبيد المناضلون مع قائدهم البطل على قوّات النّظام الرّومانيّ وتمكّنوا من أسر قائد الحملة الرّومانيّ “بوبليوس فارينيوس” ومن اغتنام كلّ الأسلحة وأدوات الحرب التي بقيت في أرض المعركة بعد هزيمتهم النّكراء.
الجولة الثّالثة من “حرب الرّقيق الثالثة” كما سمّاها البعض أو “حرب المصارعين” أو “حرب سبارتاكوس”، وأيًّا كانت التّسمية فقد كانت هذه الثّورة المسلّحة والمجيدة آخر حرب في سلسلة التّمرّد والكفاح للعبيد الرّومانيّين الّذين وصل عددهم في بعض مراحلها إلى 120 ألفًا، هذه هي الثّورة الّتي بدأت بعبد واحد أو بمجموعة قليلة من العبيد. وقف على رأس هذه الجولة القائد الرّومانيّ الجديد “ماركوس كراسّوس” (115 – 55 ق.م) المشهور بقسوته وخشونته وخبثه وغناه الفاحش. بعد قتال طويل وعنيف أظهر فيه العبيد بطولات خارقة أمام جيش من ثمانية فيالق عسكريّة مدجّجة بكافّة وسائل القتال ومدرّبة على أعلى درجات التّدريب، استطاع “كراسّوس” سنة (71 ق.م) من إخماد هذه الثّورة ذات المطالب الاجتماعيّة والسّياسيّة العادلة بوحشيّة بلا حدود، وتمكّن من قتل قائدها الفذّ “سبارتاكوس” وعدد كبير من الرّقيق المقاتلين الّذين آمنوا بالنصر، ودونه الموت المشرّف والعظيم وليس الاستسلام المذلّ والمهين. لا حدود لوحشيّة دولة رضع مؤسّساها حليب ذئبة وأبوهما إله الحرب، كما تروي الأسطورة، وللأسطورة هنا وفي توظيفي لها دلالة على الوحشيّة والبطش الكبيريْن. لقد أراد “كراسّوس” وزميله “بومبيوس” أن يستثمر قمع الثّورة بهذه الوحشيّة بإحكام سيطرتهما على مقاليد السّياسة والحكم في الجمهوريّة الرّومانيّة وانتخبا أثرها لتسلّم الأمور بمشاركة الوجه السّياسيّ الجديد “يوليوس قيصر”، وهو ما عُرف فيما بعد بالحكم الثّلاثيّ الأوّل. لم تكفِ وحشيّة قمع الثّورة وقتل قائدها “سبارتاكوس” ولم يروِ غليل “كراسّوس” المتوحّش القتل ولم تشبع غروره وطموحاته، بل قام أيضًا كما يشير كثير من المصادر بتعليق من بقي حيًّا من العبيد المقاتلين على أعواد كالصّلبان على طول الطّريق من “روما” إلى “كابوا” ليكونوا عبرة للآخرين، وكانوا يعدّون بالآلاف، وهناك من المؤرّخين من ذكر “أنّهم كانوا ستّة آلاف من الرّقيق علّقوا وهم أحياء وظلّوا على الأعواد والصّلبان” حتّى قضوْا ببطء. من يشاهد فيلم “سبارتاكوس” يرَ بأمّ العين والدّموع تنهمل من عينيْه فزعًا على مصير هؤلاء الأبطال وبإحساس مأساويّ يُدمي القلب كيف أتقن المصوّر الفنّيّ وهو المخرج نفسه “ستانلي كوبريك” تصوير هؤلاء العبيد وهم يترنّحون على أعواد المشانق الّتي كانت على شكل صلبان. إنّها جريمة وحشيّة ارتكبها نظام “كراسّوس” الرّومانيّ المستبدّ بحقّ أطهر الناس وأنبلهم وأعلاهم عزّة وشرفًا وأكثرهم سطوعًا وخلودًا. لقد كسب المعلَّقون على الأعواد كالذّبائح المجد والخلود وكرامة الحياة وسؤددها، فماذا كسب الجزّار؟ سنرى!
وبالقضاء على هذه الثّورة في هذه الحقبة الأخيرة من تاريخ الجمهوريّة الرّومانيّة تحوّلت الدّولة إلى إمبراطوريّة وكان “يوليوس قيصر” أوّل من لُقّب بلقب الإمبراطور فيها. ومن ثمّ بدأت الحملات الاحتلاليّة العدوانيّة ضدّ المناطق المتاخمة والدّول الأخرى، وكان قد بدأها “كراسّوس” بحرب على “فارثيا” القريبة فمُني بهزيمة نكراء في الحملة ضدّها، ففي المعركة الفاصلة “كاراي” سنة (53 ق.م) قتل “كراسّوس” نفسه وابنه وسبعة النّسور وهم من خيرة قوّاده من أبطال الجيش الرّومانيّ وخسر كذلك معظم جنوده، كلّ ذلك الخزي يجلبه لِ “روما” كتاجر ذي عقليّة اقتصاديّة بحتة كي يشبع غناه وجشعه الّذي لا يعرف حدودًا. هذا الّذي خسر كلّ شيء: الملك والجاه والغنى والنّفوذ والسّلطة قدّرت ثروته بِ 200 مليون “سيستريوس” وهي عبارة عن صكوك برونزيّة وزن الواحد منها 20 – 30 غرامًا، والمبلغ الضّخم كما يبدو يشير إلى ثروة فاحشة وفق المعايير الاقتصاديّة الرّومانيّة القديمة.
الموت واحد ولكن كيف عشنا:
مات الاثنان: “كراسّوس” زعيم الأسياد وَ “سبارتاكوس” زعيم الرّقيق مقتوليْن في حروب ومعارك، ولكن “كراسّوس” مات مخزيًّا قاعدًا قعود الذّليل، معتديًا آثمًا، ومات “سبارتاكوس” واقفًا شامخًا شموخ الكريم، عاش “كراسّوس” خبيثًا، جشعُا، متجبّرًا، مستبدًّا، سفّاحًا ومجرمًا، وعاش “سبارتاكوس” نقيّ القلب، فقيرًا، مناضلًا ضدّ المتجبّرين والمستبدّين، مكافحًا ضدّ الظّلم والرّقّ والاستعباد. كيف يذكر النّاس “كراسّوس” وأمثاله من الطّغاة! أليس موصومًا بعار القتل والاضطهاد وسلب النّاس حقوقهم وحرّيّاتهم وبالاعتداء على الآخرين في المناطق والدّول القريبة، من أجل المال والرّبح والأطماع والنّفوذ لترسيخ ظلمه واضطهاده للبشر! وكيف يذكر النّاس “سبارتاكوس” وأمثاله من العظماء المكافحين والثّوريّين! أليس موسومًا بمجد الحياة والنّضال من أجل الحرّيّة والعدالة والمساواة، كي يكبح الظّلم والاضطهاد والعبوديّة ويستردّ العبيد المقهورون حقوقهم المسلوبة بقوّة الاقتصاد وحرّيّاتهم المصادرة بقوّة السّياسة وكراماتهم الإنسانيّة المهدورة بقوّة القانون الجائر والعسكر المستبدّ! الاستئثار بالاقتصاد والسّياسة والقانون والقوّة، هذا هو الرّابوع الدّنس.
فهل تسمّى فيلم باسْم “كراسّوس” وهل غنّى له أحد! وهل كرّموه بالتّماثيل والأيقونات والأعمال الفنيّة؟ لا أحد! هل من يذكر اسمه في العصور الحديثة من الأجيال النّاشئة؟ لا أحد! وبالمقابل من لا يعرف “سبارتاكوس” على مدى العصور؟ وكم من الفنّانين في السّينما والتّلفزيون والموسيقى والغناء والرّقص والباليه والرّسم والنّحت والتّأليف والأدب والشّعر، وعند الغرب والعرب والأرمن والرّوس والإنجليز والفرنسيّين والفلبّينيّين والأميركيّين. هؤلاء وغيرهم قدّموا أعمالًا فنيّة جليلة احتلّت مضامينها وأشكالها وأهدافها مآثرُ “سبارتاكوس” وثورته الخالدة ومسيرته الكفاحيّة المجيدة، الّتي قدّم فيها حياته ورفاقه من الرّقيق الرّومانيّ ضحيّة مقدّسة على مذبح النّضال الخالد من أجل حرّيّة الإنسان وحقوقه وكرامته في كلّ زمان ومكان.
خلود سبارتاكوس والفنّ:
في السّينما ذكرنا أشهر الأفلام الأميركيّة “سبارتاكوس” وما نال من شهرة جعلت الممثّل “كيرك دوغلاس” مشهورًا بعد بطولته لذلك الفيلم الذي حاز على أربع جوائز “أوسكار”. في التّلفزيون مسلسل أميركيّ من أربعة أجزاء يحمل اسم “سبارتاكوس” ويتناول مراحل حياته كلّها، أُنتج سنة (2010) وعرض سنة (2013) قام ببطولته الممثّل “أندي ويتفيلد” الّذي مات إثر مرض عضال سنة (2011) قبل انتهاء التّصوير، فخلفه في دور البطل الممثّل “ويليام ماكنتاير” وقامت الفنّانة “إيرين كامينغز” بدور الزّوجة الكاهنة “سورا” وقام الممثّل “مانو بينيت” بدور القائد الرّومانيّ الجبّار “كراسّوس”.
قام المثّال الفرنسيّ “دينيس فوياتير” سنة (1830) بنحت تمثال “سبارتاكوس” من الرّخام، وهو موجود في قاعة من القاعات المعدّة لمشاهير عظماء التّاريخ في متحف “اللّوفر” المشهور في وسط “باريس”. وفي الرّسم برع الرّسّام الفلبينيّ “جوان لونا” فقدّم سنة (1884) لوحة شهيرة سمّاها “أنا سبارتاكوس” موجودة في المتحف الوطنيّ في العاصمة الفلبينيّة “مانيلّا”، ولتسمية هذه اللّوحة بهذا العنوان قصّة رائعة تقول: “بعد أن انتصرت الفيالق الرّومانيّة على “سبارتاكوس” ورفاقه من الرّقيق الثّوّار وأسره مع السّتّة الآلاف منهم، أراد قادة بعض الفيالق أن يجعلوا “سبارتاكوس” عبرة لكلّ ثائر تسوّل له نفسه، ولكنّهم لا يعرفون شخصيّته. أوقفوا الأسرى في صفوف وسأل أحدهم: “من هو سبارتاكوس”؟ أجاب “سبارتاكوس” بشموخ: “أنا سبارتاكوس”! أدرك الثّوار أنهم سيعذّبونه وينكّلون به، وإذا برجل ثانٍ يصيح من الخلف: “أنا سبارتاكوس”! ثمّ ثالث ورابع ثمّ تعاقبت الأصوات: “أنا سبارتاكوس .. أنا سبارتاكوس”! ستّة آلاف عبد ثائر حرّ صرخوا: “أنا سبارتاكوس”! وبهذا حوّلوا الهزيمة إلى انتصار! ويا لحقد الأسياد على العبيد الأحرار! أمر القادة بقتلهم صلبًا. ماتوا كلّهم مصلوبين! ماتوا كلّهم رجلاً واحدًا ما زال يصيح: “أنا سبارتاكوس”! فيا لعظمة هؤلاء الأحرار غدت صرختهم “أنا سبارتاكوس” قولًا مأثورًا تتداوله شعوب مظلومة شتّى، ويتردّد في الأعمال الفنّيّة كثيرًا. وينتصب عاليًا وشامخًا شموخ العزّة الإنسانيّة في وسط “موسكو” العاصمة السّوفييتيّة سابقًا والروسيّة اليوم تمثال للبطل المقاوم “سبارتاكوس” في أحد ميادينها المشهورة.
أمّا الرّسام البريطانيّ “بول كارسيلك” فقد قدّم أحدث لوحة للبطل سنة (2010) عُرضت في “ماريبيون” في العاصمة “لندن”. ولعلّ الموسيقى والباليه كانا من أبرز الفنون التي خلّدت “سبارتاكوس” برفيع المستوى، فقد قام المؤلّف الموسيقيّ الأرمنيّ السّوفييتيّ “آرام خاتشادوريان” سنة (1958) بتقديم عمل فنيّ عملاق بعنوان “رائعة سبارتاكوس”، قدّمتها فرقة الباليه الوطنيّة الأرمنيّة وعُرضت أكثر من 200 مرّة في أشهر مسارح العرض في معظم عواصم العالم. وفي “نيودلهي” عاصمة الهند أطلق اسمه على مؤسّسة مستقلّة “منتدى سبارتاكوس” وهو يدعو إلى الحوار والمناظرة والنّقاش بين شعوب العالم في مجالات الثّقافة والإدارة والعلوم الاجتماعيّة وقضايا أخرى تشغل بال الإنسانيّة.
للشّاعر العربيّ المصريّ الماركسيّ “أمل دنقل” قصيدة عنوانها “كلمات سبارتاكوس الأخيرة” كتبها سنة (1962) وهي عبارة عن ملحمة تستحضر مسيرة المناضل الثّائر “سبارتاكوس” من العبوديّة إلى الحرّيّة، وهو يلقي بظلالها ورموزها على الواقع العربيّ عامّة والمصريّ خاصّة. يقول في بدايتها:
“يا قيصر العظيم: قد أخطأت إنّي أعترفُ
دعني على مشنقتي ألثم يدَكْ
ها أنا ذا أقبّل الحبل الّذي في عنقي يلتفُّ
فهو يداك وهو مجدك الّذي يجبرنا أن نعبدَكْ”

ويقول فيها:
“لا تخجلوا! لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلّقون جانبي على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي لأنّكم رفعتم رأسكم مرّه
“سيزيف” لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الّذين يولدون في مخادع الرّقيق”
ويتابع:
“لا تحلموا بعالم سعيدْ
فخلف كلّ قيصر يموت قيصر جديد
وخلف كلّ ثائر يموت أحزان بلا جدوى
ويختمها بقوله:
“إنّي تركت زوجتي بلا وداعْ
وإن رأيتم طفليَ الّذي تركته على ذراعها
بلا ذراعْ
فعلّموه الانحناءْ
علّموه الانحناءْ”
ختامًا:
هذا هو العبد المصارع الثّائر العظيم “سبارتاكوس” لم يعد رجلًا مناضلًا ولا قائدًا عسكريًّا ثائرًا كما كان في حياته، لقد صار بعد موته رمزًا للثّورة ضدّ التّمييز والاسترقاق ومن أجل الحقّ والعدل والمساواة، ما زال يعيش بيننا في شخصيّة كلّ ثائر يأبى الظّلم ويسعى للعدالة والحقّ، فهل عاش “كراسّوس” بعد أن مات؟ لا! كان موته نهاية ماحقة له ولاستبداده وأطماعه. هل عاش “سبارتاكوس” بعد موته؟ نعم عاش! وما زال يعيش وسيعيش بيننا ذكرًا خالدًا، سيكون موته بداية المسار في سارية السّناء والنّضال. لم ينتهِ الظّلم ولن تنتهي مقاومته، ألا يعيش الضّدّان في وحدة وصراع!
كنت حائرًا أفكّر كيف أختم كتابة مقالتي هذه، وفي ساعة صفاء ذهنيّ رأيت فيه القديم بالجديد والجديد بالقديم، زارت خاطري فكرة، رأت بِ “كراسّوس” الطّاغية الظّالم الجشع القديم هو نفسه الطّاغية الظّالم الجشع الجديد “ترامب”، ورأت بِ “سبارتاكوس” الثّائر المناضل القديم هو نفسه الثّائر المناضل الجديد “مارتن لوثر كينغ”. فما أشبه الطّغيان بالطّغيان والظّلم بالظّلم والجشع بالجشع! وما أشبه الثّورة بالثّورة والنّضال بالنّضال! هكذا توالد الطّغاة الظّالمون الجشعون من الطّغاة الظّالمين الجشعين، وتوالد الثّوّار المناضلون من الثّوّار المناضلين على مدى التّاريخ. فما أشبه اليوم بالأمس واللّيلة بالبارحة وما أشبه التّاريخ القديم بالتّاريخ الجديد! وما أشبه “كراسّوس” بِ “ترامب” وّ “سبارتاكوس” بِ “مارتن لوثر كينغ”! لقد ترك الطّغاةُ الثوّارَ بلا خيار! الانتصار موتًا أو الانتصار حياة. سيُمحَق بلا أثر “كراسّوس” القديم والجديد، وسيخلد إلى الأبد الأبيد “سبارتاكوس” القديم المتجدّد. ستبقى حياة العظماء ولو قصرت ومهما تعثّرت أقوى وأعرض وأخلد من حياة الأذلّاء وإن طالت لأنّ نهاياتهم كانت وستكون لا أكثر من جيف وحوش في قبور ذات نتن.

علي هيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة