شتّان ما بين نخلة تَحترق؛ ومسكنٍ يُهدم// بقلم الكاتبة؛ جميلة شحادة

تاريخ النشر: 12/10/20 | 11:36

وكأنه لا ينقص سكّان الناصرة ونوف هجليل والقرى المجاورة لهما في زمن جائحة الكورونا سوى ألسنة نيران تمسكُ بأذيال بيوتهم، فتثير في نفوسهم الذعّر والخوف على سلامتهم، والخشية من فقدان بيوتهم وممتلكاتهم.
بسبب الرياح الشرقية الشديدة التي هبّت صباح يوم الجمعة الموافق التاسع من شهر أكتوبر 2020 والجو شديد الحرارة؛ اندلعت الحرائق في أماكن مختلفة من البلاد. غير أن أشدّها كانت تلك التي اندلعت في غابة “تشرتشل” المتاخمة لمدينة نوف هجليل* (نتسيرت عليت سابقا) والتي امتدّت لاحقا الى بعض الأحياء السكنية في المدينة؛ ممّا أدى الى إجلاء عشرات السكان عن بيوتهم إما الى فنادق في الناصرة وعلى نفقة البلدية، وإما كما اختار البعض، الى بيوت أقربائهم الذين يسكنون في الناصرة أو في أحياء أخرى من المدينة بعيدة عن الحرائق.
أسكنُ في نوف هجليل، وقد ولدتُ فيها. أما الحي الذي أقطنه؛ فبعيد عن مركز الحرائق، ولم يَطلْه منها سوى الرائحة، ودخان كثيف أدى بمَن يعاني من الأسمة أو من علّة أخرى في مجرى التنفس والرئتين، الى التوجه الى المشفى لتلقّي العلاج اللازم. أنا، لستُ من هذه الشريحة، ولا أحد من أفراد عائلتي؛ لكنّ هذا لا يعني أن القلق والخشية لم يقبضا على روحي. قلقتُ أولا على مصير المعارِف والأصدقاء الذين يسكون الأحياء القريبة من الحرائق، وحزنتُ على المكان الطبيعي الجميل بنباتاته وأشجاره وحيواناته، الذي أتت عليه النيران بألسنتها الجهنمية. ثانيا؛ خشيتُ من أن يطلَّ علينا رئيس الحكومة السيد نتانياهو، ليصرِّح بأن الحريق مفتعل قد قام به المواطنون العرب ليحرقوا البلاد؛ كما صرّح قبل أربع سنوات عندما التهمت النيران أحراش الكرمل ومنطقة حيفا. لكنه لم يفعل هذه المرة؛ ربما، لأنه مشغول بتطفئة حرائق المظاهرات ضده في محيط مقره في بلفور في القدس.
وكما الكثيرين غيري الذين تجنّدوا لمدِّ يد العون والمساعدة للسكان في الأحياء القريبة من الحرائق، واستقبالهم في بيوتنا إذا لزم الأمر، هاتفتُ صديقة لي تسكن في حي من هذه الأحياء في نوف هجليل لأطمئن على سلامتها وسلامة أقراد عائلتها ولأقدم لها المساعدة إذا احتاجتها. ردّت عليَّ صديقتي هذه وهي تبكي، ذعرتْ، إذ حسبتُ ان الحريق تسبّب في أذى كبيرا لبيتها، أو أنه قد أصاب أحد أفراد عائلتها بأذى. لكنه عندما تابعتْ صديقتي حديثها، عرفت أنها تبكي نخلةً أمام بيتها، أو للدقّة، نخلة خارج حديقة فيلاتها قد احترقت كلياً، وبحمد الله استطاع رجال الإطفاء أن يسيطروا على الحريق في محيط بيتها، وأن يحولوا دون وصوله الى فيلاتها.
لا أقلل من شعور صديقتي بالحزن على النخلة التي احترقت أمام بيتها؛ وإنما لا أستطيع أن أساوي شعورها بشعور هؤلاء الذين يفقدون بيوتهم كل يوم في الضفة الشرقية أو في غزة أو في سوريا أو في ليبيا أو اليمن أو العراق نتيجة للحروب والمعارك أو الغارات وغيرها. بل لا يمكنني أن أساوي شعورها بشعور المواطنين العرب في قلنسوة وسخنين والنقب وجسر الزرقا وعارة وعرعرة وغيرها من المدن والقرى المهدّدة بيوتهم بالهدم من قِبل السلطات الإسرائيلية، أو أن أساويه مع هؤلاء الذين هدمت السلطات الإسرائيلية بيوتهم، كما لا يمكنني أبدا ان أساوي مشهد نخلة تحترق، مع المشاهد المؤلمة والمثيرة للقهر في هذه البلدات، وبالذات، مشاهد المواطنين فيها وهم يهدمون بيوتهم بأيديهم توفيرا للمال، وحتى لا تطالبهم السلطات الإسرائيلية بتكلفة عمليات الهدم، في حال نفذّتها هي.
إن هدم المواطن لبيته بيده، لهو من أقسى الأمور وأمرّها على الأنسان؛ فبفعلته هذه يفقد مُرغما الأمن والأمان، باعتبار البيت هو المكان الدافئ والملجأ الآمن، أو لنقُلْ، من المفروض أن يكون كذلك. كما أن البيت هو المأوى الذي يوفّر جميع الاحتياجات الجسدية والعاطفية لسكّانه، ويمنحهم كذلك الأمن والاستقرار والاستقلال.
إن سياسة هدم البيوت كارثية؛ فكيف إذا كانت لم تتوقف في فترة جائحة الكورونا ووجوب الحظر في البيوت؟! إن عدم التوقف عن هدم البيوت حتى في هذه الفترة الصعبة، فترة جائحة الكورونا، لا تنتهك حق المواطنين الأساسي في المسكن فقط، بل تحرمهم أيضا من حماية أنفسهم من وباء الكورونا، هذا الوباء اللعين.
فيا صديقتي؛ هوّني عليكِ. فشتّان ما بين الذي يده في النار، وذاك الذي يده في الماء. وشتّان ما بين نخلة تحترق، ومسكن يُهدم.
لا شكّ أن احتراق النخلة مؤسف؛ لكنَّ هدم البيت والمسكن موجع، ومؤلم، وقاسٍ، ومبكٍ.
******************************************
* نوف هجليل هي نتسيرت عليت (وترجمتها: الناصرة العليا) وقد تغيّر اسمها من نتسيرت عليت الى نوف هجليل في سنة 2019 بناء على استفتاء أجري بين سكان المدينة. كان الهدف من تغيير الاسم هو للمحافظة على اسم الناصرة خاصا لمدينة الناصرة العريقة وحتى لا يضطر الأفراد لترجمة نتسيرت عليت بالناصرة العليا؛ فالناصرة واحدة ووحيدة ولا يمكن ان تكون ناصرة عليا استكبارا على الناصرة.
المدينة؛ تأسست عام 1957 بعد مصادرة حكومة إسرائيل لأراضي شرق مدينة الناصرة وأراضٍ للقرى المحيطة بمدينة الناصرة وهي: الرينة وعين ماهل، وكفر كنا.
****************************************************
بقلم جميلة شحادة، كاتبة وقاصّة من الناصرة// الجليل.
كُتب النص بتاريخ 10.10.2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة