متنفَّس عبرَ القضبان(14)

تاريخ النشر: 08/09/20 | 14:47

بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ زرت أحمد وأحمد، باسم، حسام، سامر وسامر، سائد، شادي، طيون، عاصم، كريم، كميل، مروان، ناصر، هيثم، وائل ووائل، وليد، معتز، منذر، وموسى وغيرهم ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
“لقاء في ظلّ الكورونا”
التقيته (للمرّة الرابعة) صباح الخميس 27 آب 2020 في سجن “هداريم”، بعد انقطاع كورونيّ، قابلني بتلك الابتسامة السرمديّة البريئة التي ترافقني منذ اللقاء الأوّل؛ عانقتُ الأسير ناصر حسن عبد الحميد أبو سرور[1] عبر ذاك الحاجز الزجاجيّ الكريه، أمسك كلٌّ منّا سمّاعته وأكملنا حديثًا حكايته لها شرح يطول.
تحدّثنا عن الكورونا التي هزّت العالم هزّة قويّة لتثبت لنا أن فقاعة العالم الافتراضي التي صارت الخيار الوحيد هي وهم وهشّة وأعادتنا إلى فكرة الدولة، كشفت زيف القرن العشرين سياسيًا واجتماعيًا وبيئيًا، وجدته متصالحًا مع الكورونا!
أخبرني أنّ الأسير يبحث بإبرة وفتيلة عن هموم، فالكورونا قلق جديد، ولا يريد زيارة مزيونة له حتى لا تُصاب، لا سمح الله، بالكورونا في طريقها إليه ويشعر بالذنب وأنّه السبب!!
تحدثنا عن مشروعه الشعريّ، فهو يكتب السجن، وما زال يكتب السجن وأشياء أخرى، خلق عوالمه في ذلك المكان الضيّق المنعزل ليسرح ويمرح، رجع للقراءة بعد انقطاع طويل، ليكتب ولا يتوقّف عن الكتابة. لم يتوقّف الحديث عن علاقته بمزيونة والزيارة المنتظرة، رغم أنفه، التي هدّدته بعد أن أبرق لها بأّنّه لن ينزل للزيارة: “كنّك مش ابن مزيونة تنزلش!”.
لك عزيزي ناصر أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، نلتقي قريبًا في حيفانا كما تواعدنا!
“فرحة مؤقّتة”
رتّبت لزيارة الأسير نائل صالح عبدالله البرغوثي[2] منذ فترة، وأكّد لي شمعون من إدارة السجون عصريّة الثلاثاء، وكنت متحمّسًا بعد محادثة هاتفيّة مع صديقي الحرّ خالد عز الدين (الذي يقوم بدور جبّار من أجل إيصال صوت أسرانا بعيدًا عبر صفحة “صوت الأسير” الذي يشرف عليها وعبر تعميم أدب أسرانا وأخبارهم في الصحافة الجزائريّة وغيرها، وتوّج عمله بملحق شهريّ يخصّ أسير، وكان الملحق الثاني لنائل). وصلت بوّابة السجن وبعد الإجراءات الروتينيّة عادت إليّ السجّانة (نون) لتزفّ لي بشرى تحرير نائل! طارت مشقّة السفر وفرحت كثيرًا ولكن بعد لحظات “راحت السكرة وإجت الفكرة”، طلبت منها التأّكّد من الأمر لأنها تحمل بين يديها نسخة من تصريح الزيارة، وبعد دقائق رجعت لتقول لي : “أسفة، نائل نُقِل أمس إلى سجن إيشل!” وهكذا باتت الفرحة المؤقّتة خيبة… يرافقها أمل بلقاء قريب في إيشل… أو خارج القضبان.
للحظات تخيّلت الحاجّة فرحة البرغوثي قادمة لزيارة نائل ليبشّرها السجّان على البوابّة: “نائل مش هون. تحرّر ليلًا!”، وفي مخيّلتي ما كتبه الصديق بسام الكعبي في كتابه “جمر المحطات” تحت عنوان “فرحة تزرع الأمل” على لسان المرحومة: “سلامي لكل أسرى وأسيرات الحريّة، والأمل كبير بقهر السجّان والإفراج العاجل يا أحبّائي”.
لك عزيزي نائل أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، نلتقي قريبًا في حيفانا أو في إيشل!
حين شاهدت السجّانة (نون) خيبة أملي، قالت: “سأعوّضك بلقاء أسير آخر دون ترتيب مسبق”. وفعلًا التقيت الأسير المقدسيّ شادي محمد رجائي أحمد الشرفا[3] وابتسامته وطلب منّي أن أصحّح ما نسبته إليه بعد لقائنا بالنسبة لمقولة “نحن نلعب الشيش بيش وهم يلعبون الشطرنج”، فصاحبها الأسير المرحوم ميسرة أبو حمديّة الذي توفّي في قسم العناية المكثّفة في مستشفى سوروكا يوم 02.04.2013 وهو رهن الاعتقال.
“أجراس إنسانيّة معطوبة”
التقيت الروائي الأسير باسم محمد صالح أديب خندقجي[4] صباح الاثنين 7 أيلول 2020 في سجن “الجلبوع” وابتسامته الباهرة تلازمه وكأنّه بيّتها منذ اللقاء الأوّل يوم 12 حزيران الفائت؛ هذا اللقاء السادس به ومعه، تعانقنا عبر الزجاج، وانقضّ كلّ منّا على تلك السمّاعة البغيضة.
تحدّثنا بدايةً عن (اللوك) المتجدّد مع اللحية الطويلة تزامنًا مع مشروع أدبيّ جديد، عن صحتّه ليطمئنني بأنّه تعافى أخيرًا من أمراض المعدة التي عانى منها سنين عديدة وتحدّيات الآنسة ياسمين وطموحاتها، روايته الأخيرة “أنفاس امرأة مخذولة” ولقائي الأخير بالصديق الأديب محمود شقير وتفاعل قرّاءه معها، فهناك ناس تبكي حين القراءة وفي كوكب آخر هناك من بكى حين الكتابة، ولا بدّ من التطرّق لحياة السجن، فهو عبارة عن عالم مصغّر ومستنقع كبير يأخذه إلى الاغتراب.
تحدّثنا عن مشروعة الأدبيّ، عن الجدل بين الذات والموضوع، ذات الطفل الفلسطيني الذي يكبر في ظلّ الاحتلال وعلاقته بالكيان، وطقوسه في الكتابة وسيجارة ما بعد النشوة!
ناقشنا إمكانيّة ترجمة روايته الأخيرة إلى العبريّة ولغات أخرى لهدم الجدار السياسي وأنسنة القلم الأسير الحرّ، أهميّة التثاقف وموضوع التطبيع على أبعاده المتشعبّة.
تحدّثنا عن مشاريعه حين تحرّره قريبًا، حلمه بمقهى ثقافي فاعل وزيارة حيفا المشتهاة “لنسرح ونمرح ونرقص”.
كان اللقاء مثيرًا، ولكن مرّت ساعتان بسرعة مذهلة وأنهيناه لألتقي بنادر وأسامة.
لك عزيزي الباسم أحلى التحيّات، على أمل أن يكون اللقاء القادم في حيفانا لنحقّق معًا ذاك الحلم.
حسن عبادي
أيلول 2020
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] الأسير ناصر أبو سرور من مواليد 1966، أُعتقل يوم 4 كانون الثاني 1993، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.
[2] الأسير نائل البرغوثي من مواليد 1957، أُعتقل يوم 4 نيسان 1978، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد و 18 عامًا.
[3]الأسير شادي الشرفا من مواليد 1977، أُعتقل يوم 6 نيسان 2002 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن لعشرين عامًا.
[4] الأسير باسم خندقجي من مواليد 1983، أُعتقل يوم 2 تشرين الثاني 2004، حكمت محكمة سالم العسكريّة بحقّه حكماً يقضي بالسجن المؤبد ثلاث مرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة