العظماء (10) الرفيق آرنستو تشي جيفارا

تاريخ النشر: 11/07/20 | 19:26

بقلم: علي هيبي

كلمة أولى على مِيل الكلام:
مناضل ثوريّ عظيم من بلاد بعيدة، من وراء البحار كما يُقال، ولكنّه أقرب المناضلين العظماء إلى قلوب الناس، وبخاصّة الفقراء والبسطاء والمسحوقين بفعل آلة الاستغلال الإمبرياليّة وأنيابها المسنّنة ومخالبها الشرسة وجلودها الجاسية وَ “المتمسحة”، وأكثر المناضلين شهرة في العالم عبر مراحل التاريخ القديم والحديث. ونموذج الشباب بالمعنى الروحيّ والكفاحيّ في القرن العشرين، فلا غرابة وليس بالكثير على مسيرته التحرّريّة وتضحياته الجسام وإنجازاته البطوليّة أن تضعه مجلّة “التايم” واحدًا من أشهر مئة شخصيّة الأكثر تأثيرًا في العالم، وتعتبر صورته التي شاعت وانتشرت كثقافة ثوريّة في الأوساط الشعبيّة بعد استشهاده وهو يعتمر القبعة الحمراء التي تتوسطها فوق جبينه الوضّاء النجمة البيضاء، تعتبر رمزًا وشعارًا في كلّ مكان وفي كلّ وجدان وضمير إنسانيّ في هذه الأرض، وتعدّ شارة عالميّة ترمز إلى رفض الظلم والثورة ضدّه عند كلّ الطبقات الشعبيّة والفقيرة وعند كلّ الشعوب المستغلّة من حكّامها الذين يعيشون وأنظمتهم الفاسدة على التذيّل للمخابرات الأميركيّة والإمبرياليّة الغربيّة، يعيشون على حساب شعوبهم ومقدّراتهم وعلى بيع الثروات الوطنيّة لأسيادهم الرأسماليّين، ولقد اكتشف “جيفارا” بحسّه وإدراكه ومنذ وقت مبكّر من عمره: “أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة هي القوّة الاستعماريّة التي من شأنها أن تعارض وتحاول تدمير أيّ حكومة وطنيّة تسعى لمعالجة الظلم والفقر”، ولذلك يتوجّب على الشعوب المقهورة أن تقاومها وهي محمّلة بالكراهية، “لا يمكن لشعب بلا كراهية ولا يمتلئ حقدًا أن ينتصر على عدوّ وحشيّ وهمجيّ”.
كان مناضلًا، ثوريًّا، كوبيًّا، أرجنتينيًّا، بوليفيًّا، أمميًّا، ماركسيًّا وعالميًّا، وكان طبيبًا، كاتبًا، محاربًا، رجل اقتصاد، ورجل دولة، سياسيًّا ودبلوماسيًّا. ماذا لم يكن “جيفارا”! وفوق ذلك كان مقاتلًا وعاشقًا للحياة وللحرّيّة وللوطن وللإنسان وللفقراء وللمرأة وللفنون والثقافة والمعرفة وللثورة، التي نذر نفسه من أجلها، “منحاز أنا إلى الفقراء إلى الحدّ الذي جعلني أتعامل مع الأغنياء على أنّهم مذنبون”، وقال: “في حبّ بلادك لا تكن محايدًا، كن متطرّفًا حتّى الموت”. حبّ الوطن والفقراء أساس المعادلة ذات الحدّيْن النقيضيْن.
ابن العالم من الأرجنتين:
في الرابع عشر من حزيران سنة 1928 ولد طفل مختلف، نما يافع مختلف، ترعرع شابّ مختلف واكتمل وعيًا رجل مختلف، ليس كمثله أحد، ولد “تشي”، ولد “جيفارا” في “روساريو” في الأرجنتين لأب اسمه “آرنستو” وأمّ اسمها سيليا، تجري في دمائه أصول أيرلنديّة وأسبانيّة وباسكيّة، في أسرة ذات ميول يساريّة، كان والده مؤيّدًا للجمهوريّين في الحرب الأسبانيّة وقد لاحظ على ابنه منذ الصغر بوادر التمرّد والتعاطف فقال عنه: “ابني الصغير تجري في عروقه دماء المتمرّدين الأيرلنديّين”، لقد نمّى الأب في ابنه أحاسيس التعاطف مع الفقراء، وبهذه الأجواء والبيئة بدأ “تشي” يتكوّن فكريًّا وينمو بأحاسيسه التمرّديّة وينمّي إدراكه الثوريّ اليانع ويصقله بالملاحظة والرؤية والبحث والقراءة والتثقيف الذاتيّ، لأنّه آمن بأنّ “المثقّف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابًا من النظام الدكتاتوريّ القمعيّ الذي يمارس القتل ضدّ أبناء شعبه”، ولد “تشي” بانتماءات كثيرة، فكان ابن العالم بأسره، ينتمي للكرة الأرضيّة بكلّ بقاعها وأنحائها وأقطارها، وللإنسانيّة بكلّ أممها وشعوبها وقوميّاتها، رغم إحساسه بالانتماء الأساسيّ للقارّة اللاتينيّة “أميركا الجنوبيّة”، ولكنّه آمن إيمانًا لا شائبة تشوبه بأنّ: “أينما يوجد الظلم فهناك وطني”، فثار وحارب ضدّ الظلم في غواتيمالا والأرجنتين وكوبا والكونغو الأفريقيّة والجزائر العربيّة وبوليفيا والمكسيك، كان يجد له دورًا أمميًّا ومناضلًا وثورة عارمة في كلّ مكان يجد فيه ظلمًا وظالمين ومظلومين، “إنّ مقاومة الظلم لا يحدّدها الانتماء لدين أو عرق أو مذهب، بل يحدّدها طبيعة النفس البشريّة التي تأبى الاستعباد وتسعى للحرّيّة”، ولكنّه كان يعلم طبيعة المتاجرين بالدين والذين يهينون قيمه الروحيّة وقدسيّة تعاليمه من أجل استغلال الإنسان: “إنّ أبشع استغلال للإنسان هو استغلاله باسْم الدين، لذلك يجب محاربة المشعوذين والدجّالين حتّى يعلم الجميع أنّ كرامة الإنسان هي الخطّ الأحمر الذي دونه الموت”. ولذلك على “الثوّار أن يملأوا العالم ضجيجًا كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء”. سواء كان الظلم والاستغلال باسْم الدين أو تحت كابوس الهيمنة الاستعماريّة، هكذا آمن “تشي”، يجب أن يكون فعل الإنسان كقوله، كما قال “سقراط” منذ آلاف السنين.
دراجة ناريّة وصديق وحسّ طبقيّ:
الطالب الجامعيّ في جامعة العاصمة الأرجنتينيّة “بوينس آيرس” يلتحق بها سنة 1948، ولكنّه يوقف تعليمه قبيل تخرّجه طبيبًا بسنة واحدة! فهل هناك من أمر أهمّ عند طالب على وشك إنهاء الدراسة الجامعيّة؟ نعم عند “جيفارا” ثمّة أمر أهمّ كما يبدو! من أجمل ما كان يفعله “جيفارا” كتابة مذكّراته بل يوميّاته، لقد حفظت تلك اليوميّات أحداثًا كبيرة وفاصلة وتفاصيل صغيرة وهامّة، كان من الممكن أن تضيع، ولا ينشئ عليها كتاب مذكّراته الأهمّ في وصف رحلته الشهيرة إلى دول أميركا الجنوبيّة ممتطيًا درّاجته الناريّة وبصحبة صديقه “ألبرتو غرانادو”، وصدرت في كتاب “يوميّات درّاجة ناريّة”.
في سنة 1953 ترك “تشي” دراسته في كلّيّة الطبّ واستقلّ بصحبة رفيقه المذكور درّاجته الناريّة، وكان “تشي” هو السائق، بالرغم من مرض الربو الذي رافقه على مدى عمره، ولكنّه بالمقابل كان يتمتّع بقدرة جسديّة كبيرة مكّنته منها ممارسته لكثير من أنواع الرياضة كالسباحة والركض، ولكنّه امتاز لتنمية جسده بلعبة “الروغبي” وكان بطلًّا من أبطالها المحلّيّين، وكذلك كان يتميّز بحبّه للعبة “الشطرنج” التي نمّى بها تفكيره، وبهذا النشاط والتوثّب ومن هذه الرحلة ومن على متن هذه الدرّاجة انطلق قطار الكفاح والثورة، فشملت الرحلة معظم أنحاء أميركا اللاتينيّة. لا يهمّني ما الدافع والمحفّز الذي جعل “تشي” الطالب الذي على وشك أن يتخرّج طبيبًا في بلاد ينتشر فيها المرض كما الفقر والجوع والظلم، ولكنّه عاد وتخرّج طبيبًا بعد رحلته تلك! ولكنّ أهمّ ما يهمّني أنّ في هذه الرحلة بدأ “تشي” يتكوّن فكريًّا مناضلًا ثوريًّا وأمميًّا، ويرى في أميركا الجنوبيّة من خلال الظلم الواقع على شعوبها البسيطة والفقيرة، ومن خلال نهب ثرواتها من قبل الإمبرياليّين، وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأميركيّة، يرى فيها ويستنتج “أنّها ليست مجموعة من الدول المنفصلة بل هي كيان واحد يتطلّب إستراتيجيّة تحرير على نطاق القارّة كلّها”، واستنتج أنّ بين الفقر والجوع والمرض اتّصال وثيق، ومن أصعب الصور التي نقلها في يوميّاته: “ما معنى أن ترى طفلًا مريضًا يموت لعدم وجود مال لعلاجه، والأب يتصرّف مع فقدان فلذة كبده كأنّ الحدث عاديّ جدًّا”، ومثل هذه القصص والحكايات الكثير الكثير عند هؤلاء الفقراء المعدمين العاملين في قطع من الأرض، التي يملكها الملّاك الأثرياء، بظروف أشبه ما تكون بالسخرة والعبوديّة يعملون، وقد أحسّ وهو بالقرب من هؤلاء الفلّاحين بالفقر المتجذّر نتيجة نهب كدّهم من الرأسماليّة الاحتكاريّة والاستعمار الجديد. هؤلاء الفقراء المسحوقون وهؤلاء الملّاك الأغنياء هما قطبا المعادلة الاجتماعيّة (المستغَلّ بفتح الغين والمستغِلّ بكسرها) والذين عناهم “جيفارا عندما قال ساخرًا: “من قال إنَّ الفقر ليس عيبًا كان يريد أن يكملها بل جريمة، لكنّ الأغنياء قاطعوه بالتصفيق الحارّ”.

غواتيمالا شرارة على طريق اللهيب:
كانت غواتيمالا محطّة أولى مهمّة في بداية طريقه النضاليّ الحقيقيّ، هناك كان رئيس الجمهوريّة الوطنيّ “جاكوبو آربينيز” يسعى لإجراء إصلاح زراعيّ ووضع حدّ لنظام الإقطاع، قوامه اقتطاع 225 ألف فدّان كخطوة أولى، كان المتضرّر الأكبر من هذا الإصلاح “شركة الفواكه المتّحدة” وكانوا يسمّونها “الأخطبوط” لأنّها تنهب معظم أراضي الدولة التي يبغي الرئيس توزيعها على الفلّاحين. استطاعت الولايات المتّحدة الأميركيّة بمساعدة قوى محلّيّة عميلة إسقاط هذا الرئيس الوطنيّ وتنصيب الرئيس “كاستيلو أرماس” اليمينيّ الموالي للولايات المتّحدة ليرعى مصالح الرأسماليّين المتذيّلين للشركات الاقتصاديّة الكبرى والعملاء للولايات المتّحدة الأميركيّة، وما زالت أميركا تقوم بالدور القذر نفسه فأقالت بمساعدة عملائها الرئيس البوليفيّ الوطنيّ المنتخب “أيفو موراليس” والذي قدّم لشعبه الفقير الكثير من الخدمات على مستوى فرص العمل والإصلاحات الاقتصاديّة الهائلة والخدمات والرفاه، ونصّبت مكانه دمية موالية لها تلعب بها كما تشاء وتعيد الشعب البوليفيّ ليرزح تحت ربقة الذلّ والفقر والظلم، وهكذا ما زالت تتربّص بفنزويلا وَ “مادورو” الوطنيّ كما تربّصت بسلفه العظيم “هوجو شافيز”، وكثيرًا ما حاولت مع كوبا وَ “كاسترو” ونظامها الاشتراكيّ، ولمّا فشلت لجأت إلى الحصار والتجويع بوحشيّة وشراسة حيوانيّة، وذلك لإبقاء أميركا اللاتينيّة حديقة خلفيّة لاقتصادها واستغلالها البشع المغموس بدماء شعوبها المسحوقة، والدنس الذي يمتصّ أجسادهم المنهكة بالظلم والجوع والمرض، ولكنّ الفكر الثوريّ الذي تشبّع به ضمير “تشي” ووجدانه المتفتّح يرى “ما زال الأغبياء يتصوّرون أنّ الثورة قابلة للهزيمة”، ولا يجب برأيه “عندما يحكم العالم حمقى من واجب الأذكياء عدم الطاعة”، وما أكثر الحكّام الحمقى في أقطارنا العربيّة! لأنّ هؤلاء الأذكياء المناضلون والمؤمنون بحتميّة انتصار الثورة، “خير لهم أن يموتوا وهم واقفون، مرفوعي الرأس من أن يموتوا وهم راكعون”.
وضع “تشي” كلّ خبراته المعرفيّة في الاقتصاد تحت خدمة الرئيس الوطنيّ في غواتيمالا، وعندما حدث الانقلاب اليمينيّ نجا “تشي” بأعجوبة وتمكّن من الهرب إلى المكسيك، ولجأ إلى السفارة الأرجنتينيّة التي أعادته آمنًا إلى بلاده سنة 1955. وعلى حدّ تعبير “هيلدا” الفتاة التي أصبحت زوجته: “لقد كانت غواتيمالا هي المحطّة التي أقنعته أخيرًا بضرورة الكفاح المسلّح وعلى أخذ زمام المبادرة في العمل والثورة ضدّ الإمبرياليّة”.

فيدل وتشي في المكسيك:
تعرّف “تشي” في المكسيك على “هيلدا جاديا أكوستا” من البيرو سنة 1955، كانت ناشطة في حزب “التحالف الشعبيّ الثوريّ”، أحبّها وتزوّجها واستفاد من علاقاتها ببعض المناضلين الكوبيّين الذين نفاهم نظام الدكتاتور العميل “باتيستا” إلى المكسيك، وكان على رأسهم “راؤول كاسترو” ومجموعة من الرفاق الماركسيّين والذين كانوا ينتظرون خروج “فيدل” من السجن والانضمام إليهم ومتابعة الثورة ضدّ نظام “باتيستا” العميل، وصار “جيفارا” الرفيق “تشي” بالمفهوم التنظيميّ الماركسيّ، وعندما حضر “فيدل” إلى المكسيك والتقاه “جيفارا”، سرّع هذا اللقاء انتماءه للثورة الكوبيّة وصار عضوًا في حركة ” 26 يوليو”، وقد أعجب بشخصيّته الملهمة والثوريّة القائد “فيدل”، وخاصّة أنّ الثورة كانت بحاجة إلى طبيب، حتّى أصبح “تشي” الرجل الثاني بعد “فيدل كاسترو” في قيادة الثورة.
لقد شكّلت أرض المكسيك انطلاقة للعمل الثوريّ الكوبيّ المسلّح لحركة “26 يوليو” وأوّل خطوة على طريق الانتصار ودخول “هافانا” العاصمة في يناير سنة 1959، بعد معارك صعبة في الجبال والوديان والغابات، وإسقاط النظام العميل والدكتاتور “باتيستا”، تحت شعارات ثوريّة وماركسيّة. كتب “تشي” حول تجربة حركة “26 يوليو” منذ انطلاقتها وحتّى انتصارها مرورًا بالمعارك في الجبال كتابه “مذكّرات الحركة الثوريّة”، وكتب كتابًا آخر عن التجربة بعنوان “مبادئ حرب الغوار”.
قارئ نهم وفكر منير:
يقرأ قصائد حبّ “بابلو نيرودا” الرومانسيّة والثوريّة، في “أسبانيا في القلب” ويقرأ أغنيات الشاعر الإنجليزيّ “جون كيتس” الرومانسيّة القصيرة وللشاعر المأساويّ “لوركا” يقرأ مسرحيّة “عرس الدم”، وللشاعر الأميركيّ والت ويتمان يقرأ ديوانه “أوراق العشب”، كان “تشي” يحبّ الشعر وقارئًا متحمّسًا له، وقرأ إلى جانب الشعر الكتب الفكريّة والفلسفيّة، قرأ فلسفة “بوذا” وفلسفة “أرسطو” وفكر “برتراند راسل”، وقرأ الفكر الماركسيّ: “رأس المال” لماركس وكتب فريدريك إنجلز، ومؤلّفات لينين ومؤلّفات نهرو وروايات كافكا وأندريه جيد وفوكنر وألبير كامو وسارتر وأناتول فرانس وفروست، ولم يهمل كتّاب قارّته الأميركيّة الجنوبيّة فقرأ “كيروغا، أليغريا، إيكازا، داريو وإستورياس”، وإلى جانب هذه القراءات أيضًا قرأ كتب الاقتصاد والعلوم وكتب المعرفة والثقافة العامّة، كان ذا فكر متفتّح على كلّ الثقافات ومصادر المعرفة، قارئًا نهمًا محبًّا للكتب، وفي مكتبته الخاصّة 3000 كتاب، وليس من الغريب أن يقرأ “تشي” بعضًا من التاريخ الإسلاميّ والحضارة العربيّة ويعجب بالإمام “الحسين” ويرى فيه نموذجًا للثوّار، وله فيه مقولة شهيرة: “على جميع الثوّار في العالم الاقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب الحسين العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والإطاحة برؤوسهم العفنة”، لقد نظر “تشي” إلى القراءة كرافد للمعرفة والخبرة وفي الوقت نفسه كصاقل للتجارب الكفاحيّة الميدانيّة التي تمكّن الإنسان من الوثوق بالقواعد النظريّة التي تساعده في المعارك والنضال العمليّ، والاستفادة من تجارب الآخرين من العظماء الذين سبقوه وتقرّبه من الانتصار. كما ذكر أثناء لقائه بِ “جمال عبد الناصر” حيث عبّر عن إعجابه بالقتال ضدّ الدول الاستعماريّة: فرنسا وبريطانيا وتابعهم إسرائيل وصدّ العدوان الثلاثيّ سنة 1956، وفي لقائه مع زعيم الثورة الجزائريّة “أحمد بن بللا” والاستفادة من تجارب الثورة هناك.
لقد تضافرت القراءة المتعدّدة والمتنوّعة مع التجارب العمليّة من خلال الانخراط في حياة الناس والإحساس بعذاباتهم لتُنشئ “تشي” المناضل المقاتل الذي كان يحمل في البداية صندوق اللوازم الطبيّة مسعفًا وطبيبًا للمصابين من المقاتلين، كما أراد له القائد “كاسترو”، ثمّ تحوّل إلى مشارك في التدريبات العسكريّة، وفي النهاية تخلّى عن الطبّ ورمى بصندوق اللوازم الطبّيّة وحمل صندوق الذخيرة، ليصبح هذا المثقّف والمفكّر مقاتلًا في صفوف الثورة، بل أصبح “عقل الثورة” كما وصفته مجلّة “التايم”، وصار يمتلك بثقافته العسكريّة ومن خلال قراءاته القدرة على إقامة مصانع لصنع الأسلحة الخفيفة والقنابل، ومن ثقافته تلك كان يعلّم المجنّدين بعض التكتيكات العسكريّة الضروريّة في حرب العصابات أو حرب الغابات والجبال، أصبح “تشي” قائدًا عسكريًّا برتبة عقيد، ولم يعد طبيبًا على الإطلاق، بل أكثر من ذلك صار “جيفارا” هو مخطّط المعارك الميدانيّة وقائدها الميدانيّ في جبال “سييرا مايسترا”، وإلى جانب هذا آمن بنشر الثقافة المطلوبة في كلّ وسط إنسانيّ كان فيه، ولذلك يستحقّ لقب “المثقّف الثوريّ” بامتياز، وفتح مدارس بدائيّة لتعليم الفلّاحين البسطاء مبادئ القراءة والكتابة لمحو الجهل والأميّة الذي رسّخه الإقطاعيّون الأغنياء ونظام الحكم الدكتاتوريّ، وافتتح عيادات لشفاء المرضى المساكين في الأرياف لتحسين أوضاعهم الصحيّة، لقد أحبّ الفلّاحين البسطاء وأحبّوه وساعدوا قوّاته وأمدّوها بالقليل الذي استطاعوه، بل وصل حبّه لهم إلى درجة محاكمة من اعتدى عليهم بالسرقة أو بالاغتصاب، وقد وصل الأمر مرّة إلى إعدام منشقّيْن من فرقته، لقد كان شديدًا على المنشقّين والهاربين والمعتدين على الفلّاحين بوصفهم خونة للثورة.

التحوّل الثوريّ:
ولعلّ هذا التحوّل في حياة هذا الطبيب الثوريّ المقاتل هو ما يفسّر تخلّيه عن كلّ المناصب الرسميّة بعد انتصار الثورة الكوبيّة، ومن ثمّ يغادر كوبا للبحث عن مكان آخر فيه ظلم ليقاتل ضدّه، كما قال في عبارته الشهيرة: “أينما يوجد ظلم فهناك وطني”. وكتب عن ذلك كتاب “بعد انتصار الثورة” حول تجربة الحكم بعد الانتصار.
ولذلك لم تغرِه المناصب المرموقة والرتب العالية التي تبوّأها جميعًا بعد الإطاحة بنظام “باتيستا” الدكتاتور العميل والمدعوم أميركيًّا وبعد انتصار الثورة، فقد أسّس من خلال منصبه كوزير للصناعة إصلاحًا زراعيًّا عماده تأميم الأرض وتوزيعها بعدالة، من أجل إنصاف الفلّاحين والفقراء، ومن ثمّ عيّن في منصب مدير البنك المركزيّ، أعلى مؤسّسة اقتصاديّة وماليّة في كوبا الاشتراكيّة، وعيّن قائدًا للقوّات العسكريّة الكوبيّة، وكذلك كان مندوبًا لكوبا في هيئة الأمم المتّحدة، ومعروف خطابه الشهير أمام الجمعيّة العامّة الذي خاطب فيه المندوب الأميركيّ الذي ترك القاعة عندما صعد “تشي” إلى منبر الكلام: “أنا أعرف أنّك تسمعني الآن، على دولتك أن تدرك أنّنا سنقاوم إلى الأبد، وأمامنا خياران: الوطن أو الموت أو إمّا النصر أو النصر”! هذه المناصب التي تدلّ على سعة اطّلاعه في شؤون الدولة، وتدلّ في الوقت نفسه على مدى حاجة الدولة إلى خدماته الجليلة بعد الانتصار، كما كانت الثورة بحاجة إلى عقله وقيادته وكفاحه الدؤوب قبل الانتصار، لم تكن لتقنعه بالمكوث في المناصب والمكاتب لأنّه رأى فيها ثقلًا على روحه وكاهله، هو الذي خلق للنضال الفعليّ وحمل السلاح ضدّ الظلم في كلّ مكان. ومن أشهر ما قال: “إنّ الثورة تتجمّد والثوّار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي لبناء ما ناضلت من أجله الثورة، وأنا لا أريد أن أعيش ودماء الثورة مجمّدة في داخلي”.
“أحسّ على وجهي بألم كلّ صفعة توجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما يوجد ظلم فذاك هو وطني”، متسلّحًا بهذا المبدأ العظيم ترك المناصب والمكاتب، كما ترك الطبّ من قبل، الوسيلة هي الكفاح المسلّح، المسار إشعال الثورات، الهدف إنهاء الظلم وتحقيق الحرّيّة، مبدأ عظيم ووسيلة نبيلة ومسار واضح وغاية سامية، هذا هو “تشي جيفارا” العظيم. لقد آمن “تشي” بعولمة النضال الإنسانيّ. فقبل الانتصار كان يرى “الثورة قويّة كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبّنا الوحشيّ للوطن”، ولكنّه بعد الانتصار وتحوّل الثورة إلى دولة كان يخاف من أن تصبح “الثورة التي صنعها الشرفاء يتملّكها ويرثها ويستغلّها الأوغاد”.
في سنة 1965 غادر كوبا ليقاتل في أفريقيا السوداء البعيدة، في “الكونغو”، آمن “تشي” بالإمكانيات الهائلة في هذه القارّة لنموّ الثورة فيها، لأنّها كانت ترزح تحت ظلم استعماريّ واستغلاليّ كبير، يرهق كاهل شعوبها وينهب ثرواتها ويكتم أنفاسها، مع ذلك رأى أنّها الحلقة الإمبرياليّة الضعيفة، ولذلك إمكانيّة التحريض والتوعية والثورة هائلة، ومع كبر الأمل كان الألم كبيرًا هو الآخر، لقد فشلت هذه التجربة النضاليّة بسبب سوء الظروف وشحّ الإمكانيّات والصراعات الداخليّة بين القبائل المتناحرة.
وعاد السيف إلى قرابه وحلّ الليث منيع غابه، إلى أميركا اللاتينيّة من جديد: بيرو، الإكوادور، بنما، كوستاريكا، نيكاراغوا، الهندوراس، السلفادور وتشيلي، كلّها بلاده وكلّها يفتح أمامه مجالًا للنضال والثورة الأمميّة، فالظلم الأميركيّ والغربيّ واحد وواسع وماحق لا يشبع والكفاح المسلّح ضدّه واجب أخلاقيّ وإنسانيّ ووطنيّ، لأنّ “تشي” يؤمن “بلا أهمّيّة الفرد مقابل مكانة الوطن: “لا يهمّني أين ومتى سأموت، بقدر ما يهمّني أن يبقى الوطن”.
استراحة المحارب الأخيرة:
بوليفيا كان محطّة النضال الأخيرة بعد مسيرة طويلة وشائكة في غواتيمالا وكوبا والكونغو: “إنّ الطريق مظلم وحالك فإن لم تحترق أنت وأنا! فمن سينير الطريق”؟ ولذلك لم يُعر “تشي” وجوده على المستوى الذاتيّ أيّ اهتمام، وكان يقول: “لا أكترث إذا سقطت طالما هناك شخص آخر سيلتقط بندقيّتي ويواصل الإطلاق من بعدي”، وجاء “معين بسيسو” المناضل الفلسطينيّ والشاعر الشيوعيّ والتقط بندقيّة “تشي” الكفاحيّة وغنّى في قصيدة “المعركة”:
“أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحِ
واحملْ سلاحي لا يخفْكَ دمي يسيلُ منَ السلاحِ”
كانت عولمة الثورة تعني له أن العالم كله وطن واحد، فيه المظلومون والظالمون، والصراع هو الحَكَم الفاصل بينهما، والكفاح المسلّح هو وسيلة النضال، “إنّني أؤمن بأنَّ النضال المسلّح هو الطريق الوحيد أمام الشعوب الساعية إلى التحرّر، ويعتبرني الكثيرون مغامرًا”. ولم يرَ في ذلك أيّ تطرّف ولا مغامرة، وكان على حقّ!
“لقد تعلّمنا الماركسيّة من الممارسة العمليّة في الجبال”، هذا ما قاله وطبّقه الرفيق “تشي”، لو أنّ قيادات لأحزاب ماركسيّة لينينيّة اليوم تستعيد هذه المبادئ الأساسيّة للنضال الأمميّ ولا تخرج للقتال في الوديان والجبال، بل تترك مكاتبها في الهيئات العليا وتنزل إلى الناس في الأحياء وتعود لتنظيم قواعدها في الفروع والهيئات الدنيا. في غابات بوليفيا وبين وديانها وجبالها ومع 16 مقاتلًا، خاض “تشي” آخر معاركه، في بوليفيا حكومة متذيّلة للمخابرات والحكومة الأميركيّة، الظروف المعيشيّة سيئة، والظلم يستشري ويأكل الفقراء والمرض يفتك بأجسادهم الجائعة، لا بدّ من الثورة! قال “تشي”، وقاتل في معركته الأخيرة ستّ ساعات متواصلة، وأمام مجموعته كتيبة عسكريّة من 1500 جنديّ مدرّبة من قبل القوّات الأميركيّة، 15 مناضلًا سقطوا، ظلّ وحيدًا! يقاتل، لا يستسلم ولا يرمي سلاحه حتّى وقع في الأسر، فصار حاله كحال المناضل العربيّ الليبيّ “عمر المختار” الذي قال لِ “غراتسياني” القائد الإيطاليّ المحتلّ عند أسره وبشموخ لا يستطيعه إلّا الثوّار العظماء كَ “تشي”: “نحن لا نستسلم! ننتصر أو نموت، ولا تعتقد أنّها النهاية بقتلي، سوف يتوجّب عليكم أن تقاتلوا هذه الأجيال والأجيال التي تليها”، وانتصرت ليبيا على المستعمر. ويحكى أنّ راعي غنم بسيط فقير وشى به ودلّ الجنود على مخبئه، وعندما سئل: “لماذا فعلت ذلك برجل كان يدافع عنك”! أجاب ببساطة: “لقد كانت معاركه تدبّ الرعب في غنمي”! لِ” جيفارا” قول حول ذلك: “ما يؤلم الإنسان أن تموت على يد من يقاتل من أجلهم”، وحُمل مقيّدًا إلى المعتقل حيث أُلقيَ ليوم كامل بقصد إذلاله، جاء بعدها عميل للمخابرات الأميركيّة فصرخ “تشي” في وجهه: “أنا لا أحد يستجوبني”. وبعد أن يأسوا منه ولم يأخذوا منه “لا حقّ ولا باطل”، حضر الضابطان المكلّفان بقضيّة إعدامه: “ميجيل أيوروا” وَ “أندريس سيلنيش”، وبأمر من الرئيس البوليفيّ نفسه “رينيه باربينتوس” طلبا من الجنديّ “ماريو تيران” تنفيذ الجريمة بإعدام أطهر الرجال، المناضل المثال، البطل الهمام “تشي جيفارا” الثوريّ الماركسيّ في التاسع من أكتوبر سنة 1967، وغنّى الشيخ “إمام عيسى” من ألحانه ومن كلمات رائعة للشاعر المصريّ “أحمد فؤاد نجم” من قصيدة “جيفارا مات”: “مات المناضل المثال/ يا مية خسارة عَ الرجال/ مات البطل فوق مدفعو جوا الغابات/ دشّن نضالو بمصرعو ومن سكات”. يذكر أن الجنديّ كان خائفًا وهو يحمل سلاح القتل وكانت يده ترتجف على الزناد، وبنبرة رجوليّة صاح به: “لا أفكّر بخلود نفسي بل بخلود الثورة! أعلمُ أنّك جئت لقتلي! أطلق النار يا جبان! فأنت لن تقتل سوى رجل”. وكتب “تشي” كتاب “يوميّات بوليفيا”، وانتصرت كوبا وبوليفيا والكونغو على المستعمرين وذيولهم. مات الرفيق المناضل “تشي” فانطوت بذلك صفحة ناصعة البياض طهرًا، حمراء بلون الدم كفاحًا وبطولة، كتبت بسطور من مقاومة ودم، من عرق وذهب.
امتنعت الحكومة البوليفيّة لنذالة أو لعمالة أو لسفالة عن تسليم جثّته إلى أخيه، وامتنعت عن التنويه بمكان وجود جثّته أو مدفنه أو قبره، لئلّا يصبح “قبر تشي” ذو المقام العظيم مزارًا وملهمًا للثوّار من كلّ أقطار العالم. حتّى سعى الرئيس الكوبيّ “فيدل كاسترو” لاكتشاف مكانها وبجهود دبلوماسيّة تسلّمت كوبا الجثمان ودفن فيها بمراسم رسميّة وبتقدير عالٍ واحترام رفيع لثائر عظيم، وخطب الزعيم خطابًا شهيرًا دام حوالي 40 دقيقة، تعرّض فيه بالأساس لمسيرة “تشي” الكفاحيّة ومساندته الأمميّة للثورة الكوبيّة: “لم نحضر لوداع الرفيق “تشي” ورفاقه الأبطال بل جئنا لاستقبالهم، جئنا نستقبله كتعزيز لفرصة انتصارنا، ليس في كوبا فقط بل في القارّة اللاتينيّة كلّها، نستقبله كعملاق ثوريّ غزا بصوره وصوته القويّ والنقيّ جميع أنحاء الأرض، كي يكون في جزيرتنا الحبيبة مكانة للعالم الذي قاتل “تشي” من أجله ومن أجل حرّيّته ومن أجل كرامة الإنسان، كي يزول وللأبد شبح الظلم المخيف والفقر المدقع والبؤس المذهل والجوع القاتل لدى الشعوب الضعيفة والفقيرة، ومن أجل دحر الاستعلاء والاستغلال الإمبرياليّ الوحشيّ إلى الأبد وتسود المبادئ السامية التي دافع عنها “تشي” بقوّة وبإخلاص وبإنكار ذات”. .
كلمات ومواقف:
كانت الممرّضة “سوزانا أوسيناغا” آخر من رأى جثّته، وقد عبّرت عن ذلك الموقف المثير بهذه الكلمات: “ما أصابنا بالصدمة نحن الممرّضات أنّ عينيْه كانتا مفتوحتيْن وشعره طويلًا ولحيته مرسلة، كان يشبه المسيح، تقلبه على جنبه الأيمن فتبقى عيناه تنظران إليك وتقلبه على جنبه الأيسر فتبقى عيناه تنظران إليك”. يشبه المسيح المظلوم والمصلوب بهاء وسطوعًا وألمًا سيشرق أملًا وبشارة ثوريّة، له جملة شهيرة عن الأنبياء البسطاء الثائرين: “الأنبياء كلّهم فقراء مثلنا، راعٍ وحدّاد ونجّار وبائعٌ، لكنّ الأثرياء اختطفوا أديانهم وحوّلوها إلى مجرّد طقوس لامتصاص غضب المقهورين”. آمن “تشي” بالحبّ بالمفهوم العميق الذي يجعل كرامة الإنسان في المقدّمة “في دستوري الكرامة أوّلًا ثمّ الحبّ”، ولذلك كرّس حبّه للوطن وللثورة “إنّ حبّي الحقيقيّ الذي يرويني هي الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرّيّة والحقّ والعدالة”، لأنّ الوطن هو الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تحبّه بتطرّف كبير، “قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه، ولكن من الصعب نقل وطنه منه”.
لقد انغمس “تشي” بالنضال والثورة ممّا جعله يحسّ ببعده العاطفيّ عن أهله وزوجته وأولاده، وكثيرًا ما كان يعبّر عن إجحافه بحقّهم بسبب انشغالاته الكفاحيّة، فيرسل لهم الرسائل التي يشوبها شيء من الاعتذار، ولكنّ شوقه إليهم ما كان ليثنِه عن الدرب الذي اختطّه طوال حياته، ومع ذلك كان “تشي” يجد متّسعًا من الوقت لبثّ الحبّ والشوق لهم والتعاطف معهم، من خلال رسائله إليهم، ومنها ما يأتي: “عزيزتي تمسّكي بخيط العنكبوت ولا تستسلمي”، هذه الرسالة إلى زوجته الثانية “أليدا مارش” الكوبيّة. وإلى أهله كتب: “أهلي الأعزّاء! لقد أحببتكم كثيرًا، غير أنّي لم أحسن التعبير عن عطفي، فأنا صلب غاية الصلابة في أفعالي، وأعتقد أنّكم لم تفهموني أحيانًا، لم يكن فهمي سهلًا وإنّما كلّ ما أطلب اليوم هو أن تصدقوني”. وإلى والدتي أقول: “لا تخافي! إنَّ إرادتي القويّة والشعلة التي تحرقني باستمرار ستكون العكّاز الذي سيسند قدميَّ الضعيفتيْن ورئتي المتعبة وصدري الذي يزفر”. حتّى في رسائله العاطفيّة نحو أهله يكون للثورة والوطن دور كبير. ومن العجيب أن يكون لمناضل بهذه المسيرة الثوريّة الحاشدة بالقتال والمعارك والقراءة والكتابة والتجوّل اهتمامات بتربية الأطفال فيكتب: “علّموا أولادكم كيف يفكّرون بدلًا من بماذا يفكّرون، وعلّموهم أنّ الأنثى هي الرفيقة، هي الوطن، هي الحياة”.
حياة متشعّبة، علاقات كثيرة، سفر وتجوال، زيارات ودبلوماسيّة، تبادل خبرات، قراءة وكتابة، فكر وفعل، وقتال وموت، حياة عريضة بكلّ معنى الكلمة، أعجب بها وبعنفوانها الرئيس “جمال عبد الناصر”، وحظي بالتقدير والاحترام في كلّ الأوساط، وعبّر كثيرون عن شخصيّة “تشي” ونضاله، المناضل الرئيس “نلسون مانديلّا” في ذكرى رحيل “تشي” قال: “لقد كان “تشي جيفارا” مصدر إلهام لكلّ محبّي الحرّيّة في العالم”، أمّا الفيلسوف الفرنسيّ “سارتر” فقد وصفه: “بأكمل إنسان في عصرنا”، الكاتب الإنجليزيّ غراهام غرين: “يمثّل جيفارا فكرة الشهامة والفروسيّة والمغامرة”، وقد اعتبره الفيلسوف “فرانتس فانون”: “عالم كامل في رجل واحد”، وفي طوابير الصباح يهتف تلاميذ كوبا: “سنكون مثل تشي”، أمّا فلاحو بوليفيا فينادونه بِ “القدّيس آرنستو”، زعيم حزب الفهود السود الأميركيّ “ستوكلي كارمايكل” اعتبر “تشي جيفارا لم يمت وأفكاره ما زالت معنا”، ما أجمل أن يموت الإنسان ويبقى خالدًا في الوجدان والضمائر والقلوب! ما أروع أن تنطفئ الشرارة وتشتعل لتبشّر باندلاع اللهيب الآتي لينهي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، لينهي الاستعباد والاستغلال والهيمنة والجشع الرأسماليّ.
كلمة قد يكون منها بدّ:
لا الكلمات الكثيرة ولا السطور الطويلة ولا الصفحات الكبيرة ولا الكتب السميكة تفي يومًا واحدًا من حياة مناضل ثوريّ مثل “تشي جيفارا”، إنّ قطرة عرق واحدة من جبينه أو قطرة دم نازفة من جسده أشدّ تعبيرًا وأصدق مقالًا من كلّ الكتب، فالعظماء كما رأيت من خلال ما بحثت وكتبت يتماثلون في نقاط عدّة تشكّل منطلقًا لعظمتهم وخلودهم، ولعلّ القدرة على العطاء والتضحية والتفاني من أجل الآخر هي سمتهم الأساسيّة جميعًا، وبخاصّة عندما يكون الآخر وجودًا جماعيًّا، وطنًا يئنّ تحت احتلال أو شعبًا يرزح تحت ظلم، فالانتماء للشعب والانبثاق منه والكفاح من أجل مصالحه متشابه عندهم، ورأيت أنّ هؤلاء العظماء الذين عاشوا حياة عريضة طافحة بالقيم السامية والأفعال المجيدة يموتون صغارًا، 39 عامًا عاش “تشي” ولكنّ اليوم منها يساوي مئات الحيوات الطويلة الخالية والخاملة، يموتون بوقت مبكّر ولكنّهم يخلدون إلى الأبد الأبيد، لأنّهم حملوا رسالة سامية وتركوا أثرًا عزيزًا للأجيال القادمة التي ستواصل المسار العظيم، ومن المؤسف أنّ معظمهم يموتون بوشاية أو خيانة أو مؤامرة من مقرّبين، إمّا عن غباء وبساطة، مثل راعي الغنم في حالة :تشي”، أو عن حقد يظهر الوداد والخير ويضمر القلى والشرّ، مثل يهوذا في حالة المسيح (ع.س) ويا لمساوئ الصدف! المحرّك واحد دائمًا، الغنم والفضّة.
كرّمت السينما العالميّة “تشي” بنضاله وحياته وشخصيّته، أو قد تكرّمت السينما العالميّة بأن تناولت عظمة “تشي” فعظم الفنّ السينمائيّ به، في كثير من الأفلام الروائيّة والوثائقيّة، التي أخرجها كبار المخرجين وقام ببطولتها وبتجسيد شخصيّة الثائر العظيم مشاهير الفنّانين والممثّلين العالميّين، وعلى رأسهم الممثّل العربيّ والعالميّ “عمر الشريف”، الذي قام بالدور بفنيّة ومهارة عاليّة، في فيلم “تشي” من إخراج “ريتشارد فليشر”، سنة 1969، وقام الممثّل الأسبانيّ “فرانسيسكو رابيل” بدور “تشي” في فيلم “تشي جيفارا” سنة 1968، وممثّل أسبانيّ آخر اسمه “إدواردو نورييجا” لعب دور “تشي” في فيلم من إخراج “جوش إيفانر” سنة 2005، والممثّل “بينيشيو ديل تور” مثّل شخصيّة “تشي” في فيلم من قسميْن، من إخراج “ستيفان سودربرج” سنة 2008، وللمخرج نفسه فيلم وثائقيّ، هو عبارة عن سيرة ذاتيّة عن “تشي” خلال التجربة الكفاحيّة في بوليفيا، وثمّة فيلمان وثائقيّان آخران عن مسيرته الثوريّة، أحدها هولنديّ بعنوان “يد تشي جيفارا”، سنة 2006، وفيلم أسبانيّ بعنوان “الارتفاع والسقوط”. وهذا غيض من فيض الأعمال الفنيّة المختلفة: مسرحيّات وأغانٍ وأعمال تلفزيونيّة وبرامج ومقالات وكتب حول هذه الشخصيّة العظيمة والمثيرة حقًّا، التي إن ذكر الظلم والثورة أينما ذكرا، فلا بدّ من أن يكون الرفيق “تشي” في صدارة السؤدد والمجد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة