توظيف الألوان في شعر راشد حسين

تاريخ النشر: 10/06/20 | 19:10

د. نبيل طنّوس
“لـــــــــــــــــــــونُ عينيكِ نخيلْ، لون عينيك دوالي، لـــــــــــــون عينيك كحبّي القــــدس غـــــالٍ، وجريحٌ لونُ عينيكِ كشِعري، وجميلٌ مثلُ حبّي، وطويلٌ كاعتقالي، لونُ عينيكِ صلاح الدّين من دون رجـــــالِ، وعـــــــذابٌ لونُ عينيكِ لأشباه الرّجالِ، لونُ عينيكِ حصادٌ، لون عينيك بيادرْ، لون عينيك كفاحٌ، وطني فيه مسافرْ، وصـــبورٌ لــــــــــــون عينيك كأمّي وكريمٌ كسهولي، وأبيٌّ كجــــبالي، لـــــون عينيك حمامٌ ونسورٌ في نضالي” (1. حسين 2004، 433 -434.)
مقدّمة:
خلال قراءتي لأشعار راشد حسين أدهشني تكرار الألوان وتساءلت عن جدوى استعمالها بهذه الكمّيّة، فقمت بِقراءة أشعاره ثانية وثالثة، عددتها وفحصت أيّ الألوان تتكرّر عنده بصورة لافتة. أثارني هذا للبحث حول توظيف الألوان في الشّعر العربيّ القديم والحديث ووجدت أنّ الأمر كان شائعًا، إذ شكَّلت الألوان مصدرًا دلاليًّا للتّعبير عن المعاني الإضافيّة الكامنة وراء المعاني المعجميّة، لذلك توجّب علينا البحث في تطور المعاني داخل السّياقات الشّعريّة. تحاول هذه الدّراسة الإجابة عن الأسئلة التّالية: ما هو تطوّر المعاني المجازيّة عند الشّاعر الحديث؟ وكيف وظّف الشّاعر راشد حسين الألوان في شعره؟ ما هي أسباب ودلالات هذا التّوظيف؟ وهل عنده من جديد؟
الألوان ودلالاتها:
اللّوْن هو صِفَة الشَّيء وهَيْئَتُه مِن البياض والسَّواد والحُمْرة وغير ذلك. وهي حَصيلة الأثر الَّذي يُحْدِثُه في العَيْن النُّور الَّذي تَبُثُّه الأجسام.” (2. قاموس المعاني 2020.) وتعتبر الألوان واحدة من الأدوات التّعبيريّة المجازيّة الّتي يوظّفها الشّاعر قديمًا وحديثًا ويستعين بها في شعره، وهي دالّ عمليّ وحيويّ ومثير للمتلقّي تعمل على تقريب النّصّ الأدبيّ إليه، وذلك لأنّ الألوان موجودة في كلّ ما يحيط به، في مأكله وملبسه ومحتويات بيته وحديقته وغيرها الكثير. وهكذا تشكّل الألوان كنزًا لا يستهان به، وقد شكَّل استعمالها سمة أسلوبية بارزة، فما يكاد ديوان شعريّ يخلو من الألوان، وقد تمكّن الشّعراء بفضلها من عرض الحالات الشّعريّة في صور أدبيّة جميلة.
منذ البدء استعمل الإنسان الألوان في القصص والحكايات، وقد ظهر لكلّ حالة لونها الخاصّ والمميّز: للسّلم لون، للفرح لون، للرّضى لون، للاطْمِئْنان، للحبّ، للسّكون، للطَرَب، للمصالحة، للمصافحة، للمَحَبَّة، للهُدوء، للحرب، للموت، للغضب، للانْفِعَال، للاهْتِيَاج، للحِقْد، للحدَّة، للقُوّة، للحُزْن، للسّخْط، للنَقْمَة وغيرها.
بحث العلماء بدايات استعمال الألوان وحاول علماء النّفس فهم وتحديد التّأثير الّذي تتركه الألوان على الإنسان. لقد تعدّدت استعمالات الألوان في الفنون والطّقوس المختلفة في عقائد الإنسان منذ القدم، فزخرف جدران كهوفه وأسلحته وجسده معتقدًا أنّ هذا يمنحه القوّة ويجلب له النصر على أعدائه، ويبعد عنه الأرواح الشّرّيرة، وقد انعكس كلّ هذا في إنتاجه الشّعريّ.
يقول عبد الإله نبهان: “لقد استطاع الشّاعر العربيّ إبداع لغة مرنة للتّعبير عن الألوان بدرجاتها المختلفة كما نلحظ في الألفاظ المعبّرة عن ألوان الخيل على سبيل المثال. اللّون الأحمر في الشّعر العربيّ قبل الإسلام اعتُبر مثيرًا لروح الهجوم والغزو والثّأر، وهو يخلق نوعًا من التّوتّر العضليّ، ويثير المخّ، وله خواصّه العدوانيّة ويرتبط بالرّغبات البدائيّة، ويبعث على البهجة والانشراح. كما ذكرت الألفاظ المعبّرة عن هذا اللّون الّذي اكتسب أهمّيّة ميثولوجيّة لارتباطه بلون الدّم، والدّم يعني أيضًا النّفس والرّوح، وكأنّ هذه اللّفظة تمثّل العلاقة بين الدّم والحياة، وقد دخل الدّم عنصرًا أساسيًّا في طقوس عرب الجاهليّة، فقد كانوا يخضّبون أصنامهم بالدّم أي باللّون الأحمر، وكانوا يقسمون بالدّم، ويسفحون دم النّوق على القبور ويخضّبون نحر الفرس السّابق بالدّم، وكأنّ سكب الدّم على الحيوانات يكسبها قوّة كبرى، وقد ارتبطت بعض الأساطير العربيّة القديمة باللّون الأحمر كالأسطورة المرتبطة بشقائق النّعمان ودم الأخوين إضافة إلى ارتباط اللّون الأحمر بلون الخمر وبالخصوبة، وقد انعكس هذا كلّه في الشعر الجاهليّ.
يعتبر اللّون الأصفر من عائلة الألوان السّاخنة، ويمثّل قمّة التّوهّج والإشراق لارتباطه بلون الشّمس، والفاقع منه ينشّط الذّهن، لذلك يقترن اليوم الغائم بالخمول والكآبة، وقد وضع العرب عددًا من الألفاظ للتّعبير عن هذا اللّون، وربطوا في شعرهم بين اللّون الأصفر وبين الشّمس، كما ارتبط اللّون الأصفر بجمال المرأة المرتبط بالشّمس، وقد قال قيس بن الخطيم:
فرَأيْتُ مثْل الشّمْسِ عندَ طُلوعهِا – في الحُسْنِ أو كَدُنُوّها لِغُروبِ
صَفْراءُ أعْجَلَها الشّبَابُ لِدَاتِها – مَوْسُومة بالحُسْنِ غيرُ قَطوبِ (3. موقع أدب 2020).
وهنا يجب ألّا ننسى الوجه الآخر للشّمس، وهو وجه يمثّل القسوة والجبروت بنيرانه اللّافحة، فالشّمس نار ونور، واقترن اللّون الأصفر أيضًا بالقحط والجدب والجبن والغدر، وقد أسهم هذا اللّون في تشكيل الصّور الشّعريّة حسب دلالاته المختلفة.
اللّون الأبيض وهو أوّل الألوان البسيطة، ويمثّل الضّوء الّذي لا يمكن رؤية لون آخر بدونه، وكلّ الألوان الأُخْرَى مضمّنة في هذا اللّون، وهو من الألوان الباردة الّتي تبعث حالة من الهدوء والطّمأنينة والاسترخاء، وهو لون الطّهارة والنّقاء والثّقة والتّواضع والرّقة والسّلام، وقد يكون رمزًا للكآبة والحزن باعتباره من الألوان الباردة، وقد وضعت له العربيّة العديد من الألفاظ، وشكَّل هذا اللّون بألفاظه الأساسيّة والثّانويّة عددًا من الصّور الشّعرية النّمطيّة، فقد ارتبط كوكب الزّهرة ببياض السّماء كما ارتبط بالأنوثة وبرز كثيرًا في الشّعر الجاهليّ، فالمرأة بيضاء أو هي بيضاء مشربة بالصّفرة أو زهراء وأسنانها ناصعة البياض، أمّا الرّجل الموصوف بالبياض فهو نقيّ العرض من الدّنس، كما ارتبط اللّون الأبيض باللّون الفضّيّ للقمر، وارتبط القمر بالثّور الوحشيّ الأبيض الذي كان من الحيوانات المقدّسة عند بعض الشّعوب، والممدوح في الشّعر العربيّ هو دائمًا أبيض اللّون «البياض المعنويّ» ويشبه القمر أو الثّور، وهكذا فإنّ اللّون الأبيض يندمج في الصّور الشّعريّة بدءًا بصورة المرأة وانتهاء بدلالات الموت والجدب في صورة الشّيب.
اللّون الأسود هو أغمق الألوان ويمثّل الظّلام الكامل وانعدام الرّؤية، ويعدّ رمزًا للحزن والألم والموت والخوف من المجهول والعدميّة والفناء، وخصّصت له العربيّة عددًا من الألفاظ، وقد شُحن هذا اللّون في الشّعر العربيّ بدلالات عديدة، وارتبط باللّيل بكلّ ما فيه من رهبة ومخاوف وخيالات مرعبة وإحساس بالعدميّة والضّعف. وارتبط هذا اللّون بالتّشاؤم، وكان الغراب رمزًا للتّشاؤم نظرًا لسواده فهو رمز الفراق، كذلك ارتبطت صورة الافعى السّوداء بالشّرّ والموت.
صُنّف اللّون الأخضر في المرتبة الأخيرة مع اللّون الأزرق، لأنّ الزّرقة درجة من درجات الخضرة، وخصّصت له العربيّة عددًا من الألفاظ لتحديد نقائه أو اختلاطه بالألوان الأُخْرَى، وارتبط هذا اللّون بعدد من الأساطير لارتباطه بلون الشّجر والنّبات، كما أنّ بعض الأساطير قد وحّدت بين المرأة والشّجرة. وكانت البقعة الخضراء أجمل ما تقع عليه عين العربيّ، وارتبط هذا اللّون في الصّور الشّعرية بالنّعمة المرتبطة بالشّدّة، والخضرة في العربيّة كانت تتّسع لتشمل درجات من الكدرة والزّرقة، وارتبط اللّون الأزرق بالعين، وكانوا يتشاءمون بالعين الزّرقاء، لأنّ زرقة العين صفة مذمومة مكروهة مخيفة في نظرهم” (4. نبهان 2002.)
الألوان في الشّعر:
لعب اللّون عند أبي الطّيّب المتنبّي، من أكبر شعراء العصر العبّاسيّ، دورًا كبيرًا في شعره، مثلّا يمدح المتنبّي كافور الإخشيديّ ويرفع من شأن أخلاقه والّتي يعتبرها أهمّ من لون بشرته السّوداء، وفي الأبيات التّالية يعطي الشّاعر النّور للّون الأسود في قوله:
“يفضَح الشمس کُلَّما ذَرَّت الشّمسُ بِشَمسٍ مُنيرةٍ سَودَاءِ
إِنَّ فِي ثَوبِكَ الّذي المَجدُ فِيهِ لَضِياءً يُزرِي بِکُلّ ضِياءِ
إِنَّما الجِلدُ مَلبَسٌ وابيِضَاضُ النَّفسِ خَيرٌ مِن ابيِضَاضِ القبَاءِ”
واللّون الأبيض عند المتنبّي يرمز إلى النّقاء والطّهارة:
“إِذا الشُرُفاءُ البِيضُ مَتُّوا بِقتوِهِ أتي نَسَبٌ أعلی مِنَ الأبِ و الجَدِّ”
ويرمز اللّون الأحمر إلى دم القتلى في الحروب:
“وَلَطالَمَا انهَمَلَت بِماءٍ أحمَرٍ في شَفرَتَيهِ جَماجِمٌ وَ نحُورُ”
واللّون الأخضر عند المتنبّي يرمز إلى السّيادة:
“لهم أوجهٌ غُرٌّ، وأيدٍ کَريمةٌ وَمَعروفةٌ عِدٌ، وألسنةٌ لُدُّ
وأردِيَةٌ خُضرٌ وَمُلكٌ مُطاعَةٌ وَمَرکوزَةٌ سُمرٌ ومُقرَبَةٌ جُردُ”
واللّون الأصفر يشير إلى الذبّول والشّحوب والجفاف والمرض:
“قالَت وَقَد رأتِ اصفِرارِي مَن بهِ و تَنَهَّدَت فَأجِبتُها المُتَنَهِّدُ” (5. زاده وأحمدی 2014.)
أمّا الشّاعر بدر شاكر السّيّاب، كما يقول الزيود والزّواهره: “فقد وظَّف الألوان بشكل كبير خاصّة الأسود، والأحمر، والأخضر، والأبيض، والأصفر في ديوانه أنشودة المطر. فاللّون عنده منح النّصّ الشّعريّ طاقة فنّيّة عالية، ارتفعت به من الدّلالة اللّونيّة العاديّة إلى دلالات لونيّة متعدّدة وخصبة، وأفضت إلى إغناء النّصّ الشّعريّ دلاليًّا وفنّيًّا. فالأسود، مثلًا، يرمز إلى المعاناة والمرض والألم والحزن في بلاده وفي الغربة. يقول السّيّاب في قصيدة أغنية في شهر آب:
“تمّوز يموت على الأفُقِ
وتغور دماه على الشّفقِ
في الكهف المعتم، والظّلماء
نقّالة إسعاف سوداءْ
وكأنّ اللّيل قطيع نساءْ
كحلٌ وعبا ارتٌ سودُ
اللّيل خباءْ
اللّيل نهار مسدود”
ومن النّاحية الأخرى يصف السّيّاب جمال العيون باللّون الأسود، كما يقول الزيود والزواهرة، وهذا الرّبط منح العيون صفة جماليّة، وإذا كانت العيون موطن الجمال والاستشراف والتّأمّل، فإنّ العيون السود أكثر جمالًا، وربّما هذا ما جعل الكثير من الشّعراء يتغنّون بها، وكأنّ هذه الصّفة الّتي لازمت العيون أصبحت رمزًا.
يرمز اللّون الأحمر عند السّيّاب إلى الدّم والقتل والحرب. واللون الأخضر جاء ليدلّ على البعث والحياة، وقد ارتبط برمز الخصب، واللّون الأبيض عند السّيّاب يرمز إلى ضدّين، فمن ناحية يرمز إلى الأمل والتّفاؤل، والصّفاء، والتّسامح، والنّقاء، والنّور والخير، ومن ناحية أخرى يرمز إلى الموت، والتّشاؤم، والخروج من الدنيا، ويرتبط ذلك التّشاؤم بلون الشّيب. أمّا اللّون الأصفر عند السّيّاب فارتبط بالخوف والمرض والتّعب والشّقاء، كما جاء في قصيدة غريب على الخليج:
“ما زلتُ أضرب، مُتربَ القدمين أشعثَ، في الدّروب
تحت الشّموس الأجنبيّة،
متخافت الأطمار، أبسطُ بالسّؤال يدًا نديّة
صفراء من ذلٍّ وحمّى: ذلِّ شحاذٍ غريبْ
بين العيون الأجنبيّة” (6. الزّيود والزّواهرة 2014.)
وظّف نزار قبّاني الألوان بكثرة، فاللّون الأحمر عنده يرمز إلى الحبّ الشّديد، والعاطفة، والرّغبة، والشّهوة، والتّمرّد، والثّورة، يقول نزار:
“هذا قميص أحمر
كالنّار لا يقاوم
وثمّ ثوب قاتم
وثمّ ثوب فاقع … ”
سمراء…يا سمراء.. بي
إليك شوق ظالم” (7. قبّاني 1993، ص 148.)
الأسمر عند نزار هو لون المرأة العربيّة، والعاشق العربيّ، ولون التّراب والأرض.
والأبيض هو رمز الطّهارة، والنّقاء:
“إذا كان الوطن منفيًّا مثلي
ويفكّر بشراشف أمّه البيضاء مثلي…..” (8. قبّاني 1993، ص 63.)
واللّون الأخضر عند نزار هو رمز للطّبيعة الجميلة والتّجدّد والحياة:
“حبّك طير أخضر
يكبر يا حبيبتي كما الطّيور تكبر” ( 9.قبّاني 1993، ص 474.).
الشّعر والرّسم:
نجد في كثيرٍ من القصائد توجّهًا بصريًّا مفعمًا بالألوان والأشكال، ونجد عند بعض الشّعراء أساليب من فنّ الرّسم. يقول نزار قبّاني: “إذا كانت تجربتا الرّسم والموسيقا قد فشلتا وانتهيتا بالخيبة فإنّهما لعبتا بعد ذلك دورًا أساسيًّا في تكويني الفنّيّ وفي تشكيل لغتي الشّعريّة” ( 10 قبّاني 2000، ص 6.)وسيمونيديس من كاوس، شاعر غنائيّ يونانيّ (556–468 ق. م) يقول: “الرّسم هو شعر صامت والشّعر هو صورة تتكلّم”. وليئة غولدبرغ، شاعرة عبريّة وباحثة في الأدب (1911 – 1970) تقول في مدخل كتابها خمسة فصول في أساسيّات الشّعر: “للكلمة في القصيدة دور مضاعف في اللّون والأنغام، الكلمة ترسم وتعزف في الوقتِ نفسه”. ونحن نرى أنّ الشّعر مجرّد وخفيف أكثر من الموادّ الّتي يستعملها الرّسّام والنّحّات، لكنّه محسوسٌ أكثر عندما يصفُ عالمَنا الواقعيّ–الحقيقيّ أو الحسّيّ أكثرَ من نوتات النّغمات. الشّعر يكثّف ويرصّ المعاني في الكلمات، نجد في الشّعر معاني للكلمات أكثر من معانيها المعجميّة، لذلك يستعمل الشاعر الألوان ليخفّف من حدّة التّراصّ والتّكثيف، ويُقرّب شعره إلى القارئ.
يحاول الشّاعر في شعره طرحَ خفايا قلبه، إنّه يطرح في شعره عوالمَ كثيرةً وكبيرةً وأحيانًا ليس واعيًا لها، إنّها مختبئة في لاوعيه ولكنّه ساعة الكتابة يخترق ذاته، يتمعّن ويتأمّل في عوالمه الحسّيّة والفكريّة وكأنّه يخوض مسارًا من البحث الذّاتيّ، وتكون النّتيجة عن كلّ هذا شعرًا، إنّه يطرح أمامنا اتّجاهاته الفكريّة وكلّ ما يخطر في باله من ذلك المسار الّذي خاضه.
يصلنا النّاتجُ الشّعريّ بعد محاولاتٍ عديدةٍ يستعمل فيها الشّاعر الرّمزيةَ والتّشبيهَ والاستعارةَ وأنواع المجاز الأخرى، وفي اللّغة: المجاز هو التّجاوز والتّعدّي. وفي الاصطلاح اللّغويّ هو استعمال الكلمة في غير ما وُضعت له، مع وجودِ علاقةٍ بين المعنى الأصليّ والمعنى المُراد، وقرينةٍ تمنع من إرادة المعنى الحقيقيّ، على نحو ما يحدث في الاستعارة والتّشبيه والكناية، أي أنّ اللّفظ يُقصد به غير معناه الحرفيّ، بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفيّ.
أشكال وأساليب التّعبير الشعريّ المتعددة تعبّر وتعكس حالات نفسيّة ومزاجًا عامًّا واتّجاهات مختلفة وشعورًا معيّنًا. إنّ التّأمّل والتّمعّن الذّاتيّ، الإصغاء إلى ما يجول ويختلج في القلب، والتّفكير فيها وتخيّلها من أجل تبصّرها – كلّ هذه هي محاولات للتّعرف إلى كينونة الذّات، فكلّ هذه العمليّات تخلق عند الشّاعر حالة عاطفيّة وإدراكًا عميقًا لوجود كلّ التّفاصيل وكلّ دقائق الأمور المطروحة في القصيدة، ومن هنا فإنّ استعمال التّقنيات المتعدّدة والّتي فيها كلّ شارة وكلُ علامة ترقيم وكلُ حرف وكلُ كلمة وجملة وكلُ مضمون وشكل ما هي إلّا مقولات ورسائل معلنة ومرئيّة، خفيّة وغامضة. الشّعر كباقي الفنون هو وسيلة لتفريغ الشّحنات الّتي تراكمت عند المبدع، فالشّاعر يريد أن يعرض أمامنا لحظات تجاربه الحسّيّة الّتي مرّ بها واقعًا أو افتراضيًّا. وهكذا يخوض الشّاعر سيرورات فيها أفكار يعبّر عنها بكلمات في قصيدته، ولكنّه في نفس الوقت يرسم ويعزف. (11. طنّوس 2017.)
علم الدّلالة اللّغوية:
علم الدِّلالة اللّغويّة هو العلم المختصّ بدراسة معاني الألفاظ والعبارات والتَّراكيب اللّغويّة في سياقاتها المختلفة، وهي حالة تقتضي وجود دالّ ومدلول، أي أنّ غرضًا ما يوضِّح غرضًا آخرَ (12. معجم المعاني.)
في أغلب النّصوص الأدبيّة وخاصّة الشّعر نجد مضامين واضحة ونجد بينها تعابير لها معنى معجميّ ومعنًى رمزيّ سياقيّ يتحدّد من السّياق ذاته وهي الدّال والمدلول. المعنى السّياقيّ هو المفهوم الإضافيّ الانزياحيّ المحدّد الّذي يقصده الكاتب أو يفهمه المتلقّي، والحالة أو السّياق هو ما يحدّد المعنى.
من الجدير ذكره أنّ الألوان جميعا لها معنى معجميّ يدلّ على معناها الحقيقيّ، ومعنى إضافيّ- دلاليّ تكوّن من جرّاء البيئة والحالات الاجتماعيّة والتّاريخيّة والسّياسيّة وغيرها. ونجد أحيانًا أنّ نفس التّعبير يحمل دلالات مختلفة أو ضدّيّة. فمثلًا اللّون الأحمر مرتبط بالدّم حينًا، وبألوان المسرّة والفرح حينًا آخر، بما فيه من توهّج وحرارة تنبعث من صوتها الرّئيس (الحاء). (13. حمدان 2008، ص 28.)
يقول بن الدّين بخولة: “لكلّ كلمة معنًى أساسيّ هو معناها المعجميّ الذي وضعت له أساسًا، والبعض يدعوه المعنى الحرفيّ أو المعنى الدلاليّ، وهو المعنى الّذي تدلّ عليه الكلمة أساسًا. ويتحقّق المعنى الأساسيّ بالالتزام باستعمال الكلمة وفقًا لسماتها الدلالية، فمثلًا نقول: “شرب الولد الماء” فهنا نستخدم كلّ كلمة وفقًا لسماتها الدّلاليّة، ولكن عندما نقول “شرب الولد الثّقافة” يصبح استخدام “شرب” هنا مجازيًّا، لأنّ مفعولها ممّا ليس يُشرب أساسًا، وعليه فإنّ معاني الكلمات تأتي على النّحو التّالي:
1. المعنى الحرفيّ المعجميّ وهو المعنى الأساسي للمفردة.
2. المعنى المجازيّ للكلمة وهو استعمال الكلمة لتدلّ على معنًى جديد غير المعنى الحرفيّ لها، فعندما نقول “إنّ فلان أسد” فإنّنا نقصد أنّه شجاع.
3. المعاني المختلفة للكلمة مثل كلمة “عين” يتحدّد معناها بالسّياق الّذي ترد فيه.
4. العلاقات بين المفردات كالتّرادف والتّضادّ والاشتمال.
5. السّمات الدّلالية للكلمة، فلكلّ كلمة معانٍ عدّة تميّزها عن غيرها، فكلمة مربّع مثلًا تشمل السّمات الآتية: سطح مستوٍ له أربعة أضلاع متساوية، وزواياه قائمة.
6. المعنى الاجتماعيّ.
7. المعنى الوجدانيّ.
إنّ خرق قوانين السّمات الدّلاليّة يُخرج الاستعمال من معناه الأساسيّ المعجميّ إلى معناه المجازيّ، والاستعارة والمجاز يتحققان على هذا النحو: إخراج الكلمة من معناها الأساسيّ إلى معناها المجازيّ عن طريق خرق قوانين التّتابع الأفقيّ العاديّة”.(14.بخولة 2012.)

دلالات الألوان في أشعار راشد حسين
ولد راشد حسين إغبارية في قرية مصمص سنة 1936، وانتقل مع عائلته إلى حيفا سنة 1944، ورحل مع عائلته عن حيفا بسبب الحرب عام 1948 وعاد ليستقرّ في قرية مصمص مسقط رأسه. واصل تعليمه في مدرسة أمّ الفحم، ثمّ أنهى تعليمه الثّانويّ في ثانويّة النّاصرة.
بدأ كتابة الشعر في سنّ مبكّرة. وفي مدة وجيزة أصبح شاعر السّاحة الفلسطينيّة الأوّل في الدّاخل الفلسطينيّ. وأصدر ديوانه الأوّل في سنّ العشرين. بعد تخرّجه عمل معلّمًا لمدّة ثلاث سنوات ثمّ فُصل من عمله بسبب نشاطه السّياسيّ. عمل محرّرًا لمجلّات الفجر، المرصاد والمصوّر. ترك البلاد عام 1967 إلى الولايات المتّحدة، وعندئذ سحبت منه الجنسيّة الإسرائيليّة ومنع من زيارة أهله. اِنضمّ إلى منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وعمل ممثّلًا ثقافيًّا لها في الأمم المتّحدة هناك. عمل في وكالة الأنباء الفلسطينيّة “وفا”. سافر إلى سوريا خلال حرب 1973 وعمل محرّرًا في الإذاعة السّوريّة للقسم العبريّ، وشارك في تأسيس مؤسّسة الدّراسات الفلسطينيّة. عاد إلى نيويورك عام 1973. تمّ اغتياله في في الأوّل من فبراير عام 1977 عن طريق حرق منزله في نيويورك، وقد أعيد جثمانه إلى مسقط رأسه في قرية مصمص حيث ووري الثّرى هناك.
أعماله الشّعريّة: مع الفجر، صواريخ، أنا الأرض لا تحرميني المطر، قصائد فلسطينيّة.

الألوان في أشعار راشد حسين: دراسة إحصائيّة:
1. اللّون كعنوان قصيدة: ورد اللّون في عناوين القصائد عند راشد حسين كما يلي:
اللّون الأحمر ورد في قصيدتين: المنديل الأحمر (15. حسين 1957، ص 56.)
، والغلّة الحمراء (16. حسين 1958، ص25- 26.)
أ‌. اللّون الأزرق ورد في قصيدتين: الثّوب الأزرق (17.حسين 1957، ص 41.)، والمعطف الأزرق (18. حسين 2004، ص 353 – 355.)
اللّون الأصفر ورد في قصيدتين: الخيمة الصّفراء ( 19. حسين 1957، ص 25.)،
ومقاطع من الخيمة الصّفراء. (20. حسين 1958، ص 12- 16.)
اللّون الأخضر ورد في قصيدة واحدة: النّظّارة الخضراء.( 21. حسين 1958، ص 70 – 71.).
توظيف الألوان مجازًا مرتبطة بتعابير مجازيّة ذات دلالة لونيّة في قصيدة واحدة هي القدس في عينين (22. حسين 2004 ص 433 – 435). في هذه القصيدة وردت التّعابير التّالية: اللّون: نخيل، دوالي، حبّي القدس، جريح شِعريّ، جميل مثل حبّي، طويل كاعتقالي، أبي كجبالي، صلاح الدّين، عذاب لأشباه الرّجال، حصاد، بيادر، كفاح، صبور كأمّي، كريم كسهولي، حمام ونسور في نضالي.

2. إحصاء الألوان في كلّ أشعاره:
الكتاب

اللون مع
الفجر صواريخ قصائد
فلسطينية أنا
الأرض لا تحرميني المطر قصائد في “الأعمال الشّعريّة” مجموع (23. حسين 2004. كل الكتاب)
المجموع الكلي 158
أحمر 9 13 10 0 1 33
أخضر 4 16 11 0 2 31
أسمر 7 13 8 0 0 28
أسود 8 5 7 0 0 20
أبيض 1 4 8 0 0 13
أزرق 3 2 6 0 0 11
أشقر 1 4 3 0 0 8
أصفر 4 1 0 0 0 5
فستقيّ 0 1 3 0 0 4
ورديّ 0 0 2 0 0 2
باهت 0 1 0 0 0 1
رماديّ 0 0 1 0 0 1
أغبر 0 0 1 0 0 1

قراءة المعطيات الإحصائيّة:
نظرة فاحصة إلى المعطيات الإحصائيّة نجد سبع قصائد من ثماني قصائد تحمل عنوانًا فيه أحد الألوان وردت في كتبه الثّلاثة الأولى، و- 155 مرّة من 158 مرّة ذُكرت فيها ألوان أثناء إقامته في وطنه، وعند انتقاله إلى الغربة في الولايات المتّحدة وفي سوريا يتقلّص العدد إلى قصيدة واحدة لا يذكر فيها ألوانًا، إنّما يذكر كلمة “لون” وهي قصيدة “القدس في عينين” يوظّف فيها هذه الكلمة ولا نجد أيّ لون من الألوان، يقول راشد حسين:
“لونُ عينيكِ نخيلْ، لون عينيك دوالي، لون عينيك كحبّي القدس غالٍ، وجريحٌ لونُ عينيكِ كشِعري، وجميلٌ مثلُ حبّي، وطويلٌ كاعتقالي، لونُ عينيكِ صلاح الدّين من دون رجالِ، وعذابٌ لونُ عينيكِ لأشباه الرّجالِ، لونُ عينيكِ حصادٌ، لون عينيك بيادرْ، لون عينيك كفاحٌ، وطني فيه مسافرْ، وصبورٌ لون عينيك كأمّي وكريمٌ كسهولي، وأبيٌّ كجبالي، لون عينيك حمامٌ ونسورٌ في نضالي” (24. حسين 2004 ص 433-434.).
ويتقلّص أيضًا عدد الألوان كما في اللّائحة إلى ثلاثة: اثنين خضراوين وواحد أحمر (القاني):
الأخضر في قصيدة إلى أمّي (25. حسين 2004، ص 519.)
“ويمشي دمي، حاملًا قبلةً
ليافا.. فيُضحي دمُ الجرحِ أخضرْ”
…………
تمدّينَ جرحًا على الجرحِ لكن،
منَ الجرحِ، زيتونةٌ سوفَ تخضرْ”
والأحمر مستعملًا كلمة “القاني” في قصيدة بالأغاني (26. حسين 2004، ص 524.).
بالأغاني حّرروني…بالأغاني
رسموني بدمي القاني، على كُلِّ المباني”
هذه الظّاهرة، في رأينا، ليست عفويّة وإنّما لها دلالات، فعندما كان الشّاعر يعيش في وطنه كانت المواجهة والتّوتّر من الأحداث اليوميّة تحت الاحتلال، وعبّر عنها من خلال دلالات مجازيّة للألوان، أمّا عندما عاش في الولايات المتّحدة وفي دمشق فقد خفّ الجوّ المشحون، ولم يعد يحتاج إلى توظيف الألوان مجازًا، وحين ذكر الألوان تكرّر الأخضر مرّتين مقابل الأحمر مرّةًّ واحدةً، والأخضر رمز معروف للأمل والتّفاؤل والحبّ، وليس عبثًا جاء الأخضر في قصيدته إلى أمّي، وحتى الأحمر جاء مع كلمات: حرّروني بالأغاني، رسموني بدمي القاني، على كلّ المباني.
تكرار الألوان:
اللّون الأحمر أكثرهم تكرارًا، وقد ورد بنسبة 21%، الأخضر 19.6%، الأسمر 17.7%، الأسود 12.6%، الأبيض 8.3%، الأزرق 7%، الأشقر 5.1%، الأصفر 3.2%، الفستقيّ 2.5%، الورديّ والباهت والرّماديّ والأغبر معًا 3%.
دراسة الألوان السّائدة عند راشد حسين تكشف أنّه بقي في نفس الحقل الدّلاليّ اللّغويّ لمن سبقه من الشّعراء، ولكن التّوظيف لديه كان لحالات خاصّة ومميّزة لشاعر مقاومة عاش تحت نير الاحتلال والتّشرد واللّجوء، من هنا نجده غاضبًا وثائرًا وواصفًا مروج وروابي وأشجار وطنه المفقود.
دلالات الألوان عند الشّاعر راشد حسين:
1. الأحمر: الأحمر أحد الألوان الحارّة أو الدّافئة، لأنّها تميل إلى الضّوء. نرى عادةً هذه الألوان في النّار وفي مصادر الحرارة، مثل الأصفر والبرتقاليّ والقرمزيّ. إنّ الشّعارات والصّور الّتي تستعمل العديد من الألوان الدّافئة تهدف إلى توصيل الغضب، والكره، والحقد.
الأحمر هو أكثر الألوان تكرارًا عند راشد حسين وقد ورد في حقلين دلاليّين مختلفين: الأوّل ذو دلالة سلبيّة والثّاني ذو دلالة إيجابيّة.
أ‌. دم، نقمة، شعلة، حشرجات الموت، غضب، ثورة:
• “أمن خدود الورد يا غادتي
أم من دمي منديلك الأحمرُ؟” (27. حسين 1957، ص 56.).
• “وسمعت يا أختاه أقوال الطبيب.. سمعتُها:
“بصقتْ دمًا؟” قال الطبيب لصَحْبِهِ: بصقَتْ دمًا” (28. حسين 1957، ص 68.)
• “إن يفخروا بالمال حين تُغيظهمْ
فدماؤك الحمراء أكرمُ محتدا!” (29. حسين 1957، ص74.).
• “والشمس لي، ولإخوتي، ولطفلتي
والنّقمةُ الحمراءُ من أتباعي” (30. حسين 1957، ص77.)
• “يا غلّة حمراء كنتِ براعمًا
خضراء.. فيها للشّبابِ دلائلُ” (31. حسين1958،ص 25.)
• “لأحرقنَّ الّذي قالوا بأُغنيةٍ
حمراءَ ما انتسبتْ إلّا لأحرار” (32. حسين 2004، ص 278).
ب‌. ياقوت وزينة، لواء، زهرة، علم.
• “ومن طِلَّسم هذا المسجد المصنوع من مرمرْ
بمئذنتين زُينتا بياقوتِها الأحمرِ” ( 33. حسين 1957، ص45).
• نحن اشترينا عيدنا بدمائنا
فلواؤنا الخفّاق أحمرُ، ينطقُ!” (34. حسين 1957، صر88).
• وقبلة شقراء من أمريكيا
وزهرة حمراء من أفريقيا” ( 35.حسين1957، ص 93).
• “هناك لا يعرفنَ ما تعرفينْ
من زينة حمراء ومن مُغْرِياتْ” (36. حسين 1957، ص 47).
2. الأخضر: الأخضر أحد الألوان الباردة، ومعه الأزرق والبنفسجيّ. تميل هذه الألوان إلى العتمة أو الدّكانة، وسمّيت بالباردة لارتباطها بالفضاء العاتم وعمق مياه البحر وانتشار اللّيل. نرى هذه الألوان عادةً في الطّبيعة، مثل: الماء، النّباتات، الأعشاب وغيرها. تستعمل الألوان الباردة عادةً لإظهار الهدوء. وتستعمل المستشفيات اللّون الأزرق والأخضر مدموجين مع بعضهما البعض على الجدران لإبقاء المرضى بأعلى درجة من الهدوء.
جاء الأخضر بعد الأحمر تكرارًا عند راشد حسين وورد مع تعابير هادئة، جميلة وإيجابيّة وفي أغلبها مع صور من الطّبيعة، مثل: التّين، الزّيتون، مروج، دوحة، روابي، أغصان، براعم الأزهار، سنبلة، الأولاد، نظّارة، بساط للصّلاة، موعد، منديل، شفاء. أمثلة:
• “ولك اخضرار التّين والزّيتون والأمل الوفيرْ” (37.حسين 1958، ص 26).
• “وقفوا يصلّون المساء على بساط أخضرِ” (38. حسين 1958، ص 35).
• و”جميلة” تحيا وتحيا في القلوب وفي الجراحْ
كالدّوحة الخضراء.. في نظراتها لهبُ الرّماحْ” (39. حسين1958، ص 58-59).
• “لِمَ لم تكن خضراءَ مثل براعم الأزهارْ؟” (40. حسين 1958، ص 69).
• “أمدينةَ الزّيتونِ! خَيمة حُبِّنا خضراءْ” (41. حسين 1958،ص74).
• “إنّ تلكَ اليد خضراءُ كحبّي” (42. حسين 2004، ص 300-301).
• “من سفح مُثلّثنا الأخضرْ” (43. حسين2004، ص 313)
• “ما زالت البيّارةُ الخضراء مغمضةَ الجفونْ” (44. حسين 2004، ص 320).
• “قُل لي أتخضرُّ الجراحُ على يدٍ
إن طوّقتها خرقةٌ خضراءُ” ( 45. حسين 2004، ص 381).
3. الأسمر: الأسمر هو لون محايد، لكنّه هامّ جدًّا عند الشّاعر راشد حسين، فهو لون الأخ والصّديق والحبيبة الحلوة والفارس العربيّ والزّنود السّمر والعزّة ولون التّراب والجبال.
• حيِّ الملاحَ السّمرَ يا شعرَ المحبّة حيِّهنهْ” (46. حسين 1957، ص 38).
• تركّزت في الزّنودِ السّمْرِ مشنقةٌ” (47.حسين 1958، ص 52).
فيها تأرجح رأس الغاضب القذرُ”
• “مهما صنعتم من النّيرانِ نخمدها
ألم تروا أنّنا من لفحها سُمُرُ؟” (48.حسين 1958، ص 54).
• “وعصّبْتِهِ بلظى محبّة فارسٍ أسمر” (49. حسين 1958، ص 73).
• “تلكَ اليد….إنّها سمراءُ كالزّيتون في قريتنا” (50.حسين 2004، 300).
• “فرأيت نفسي في زحامِ قوافلٍ سُمْرٍ أسيرْ
وجميعنا.. لثمِ التّرابُ وجوهنا” (51.حسين 2004، ص 344).
4. الأسود: الأسود هو لون محايد. عند معظم الشّعوب هو لون الحداد، ويتمّ ارتداؤه في الجنازات. ويُنظر إليه عند البعض بأنّه اللّون الخاصّ بالتّمرّد والعصيان، لذلك سمّيت، على سبيل المثال، حركات ثوريّة باسم “الفهود السّود” أو “اليد السّوداء” وغيرها. ارتبط اللّون الأسود عند الشّاعر راشد حسين بحالات ملائمة لما حدث مع الشّعب الفلسطينيّ، وقد ورد مع تعابير مثل: خيمة، قدر، قبر، عار، تهمة، ظلام وكلمات أخرى من نفس الحقل الدّلاليّ.
• “في الخيام السّود، في الأغلال، في ظل جهنّم
سجنوا شعبي وأوصَوْه بألّا يتكلّم” (52. حسين 1957، ص 20).
• “لا عاش حبّ تخلّت عنه عزّته
ولُطِّخَتْ بسوادِ العار جبهته” (53. حسين 1957، ص 35).
• “عيونها عاصفة كالخريف
وشعرها أسودُ مثل القدرْ” (54. حسين 1957، ص 61).
• “اللّيل يا ربّاه ثلج أسود قد هدّ جسمي(55.حسين 1958، ص 9).
• “في تهمة سوداء تلصق بي الحماقة والغباء” (56. حسين 1958، ص 30).
• “جاءَت لِتَحْمِلَ برتقالَ بلادِنا
للشّقْرِ في بلدِ الضّباب الأسودِ” (57. حسين 2004، ص 319).
• “وبِعِ الكنيسةَ فهي من أملاكهِ
وبِعِ المؤذِّنِ في المزادِ الأسودِ” (58. 2004، ص 389).
• “تبتاعُ بهِ من كشكِ الموتى تذكرةً للموتْ
أو تبحث في السّوقِ السّودا
عن دورٍ للموتْ”! (59. حسين 2004، ص 403).
5. الأبيض: الأبيض من الألوان المحايدة. هو لون النّظافة، والنّقاء، والبراءة، والأمل والتّجدّد، والسّلام، والهدوء، والحكمة وغيرها. اقترن عند راشد حسين بالتّعابير التّالية: ورد، مطر، خبز، ولتبييض غيره.
• “والوردة البيضاء كيف تخضّبتْ بدم السّماءْ؟” (60. حسين 1957، ص 82).
• “أَمطارك البيضاء تُنصب في الأزقَّةِ مقصفًا…
“أَمطارك البيضاء غابت وانزوى المتفرّجونْ” (61. حسين 1958، ص 203_204).
• “أحمامة.. يا علمًا أبيض
في ليل لجوئي رفرفتِ” (62. حسين 2004، ص325).
• “كوني لي كأذان الصّبحِ
فبياضُكِ قطنٌ في جرحي” (63.حسين 2004، ص 326).
• “خلّ الغريرَ وهات لي
ذا حكمة أفعالهُ بيضاءُ” (64. حسين 2004، ص 379).
6. الأزرق: الأزرق أحد الألوان الباردة. وهو لون السّماء والبحار والأنهر. ورد هذا اللّون عند راشد حسين مع التعابير التّالية: ثياب، نقاء، السّماء، والميّت:
• “الثّوب الأزرق” (65. حسين 1957، ص 41).
• “وعروقنا دمها نقيٌّ أزرقُ” (66. حسين 1957، ص 86).
• “وتدفّقوا والشّمس في خدّ السّما الزّرقاء شامةْ(67. حسين 1958، ص 14).
• “يستلّ الشّهوة من عظمِ الميّتِ الأزرقْ” (68. حسين2004، ص 314).
• “ماذا أقول لمعطفي الأزرق” (69. حسين 2004، 353-355).
7. الأشقر: الأشقر هو درجة من درجات اللّون الأصفر، ويُستعمل غالبًا للون الشّعر. ورد اللّون الأشقر عند الشّاعر في سياق تحدّثه عن الإنسان الغربيّ والعربيّ، يقول الشّاعر:
• “لي مثلكم وبمثل طهركم النّقيّ أخ صغير…
خصلاته شقراء والعينان في لون الغدير” (70. حسين 1958، ص 20).
• “أنا الّذي قد اشترى بقلبه
أُغنية هنديّة من آسيا
وقبلة شقراء من أمريكا” (71. حسين 1957، ص 93).
• “نستحلفكم بحضارة تقديس الأشقرْ
وسيادته عَلَقًا يمتصّ دمَ الأسمرْ” (72. حسين 2004، ص 314).
• “جاءَت لِتَحْمِلَ برتقالَ بلادِنا
للشّقْرِ في بلدِ الضّباب الأسودِ” (73. حسين 2004، ص 319).
8. الأصفر: الأصفر من الألوان الدّافئة. أهمّيّته عند راشد حسين في سياقاته، إذ ورد خمس مرّات، في كتابه الأوّل مع الفجر 1957 أربع مرّات: مع كلمة خيمة ثلاث مرّات، ومرّة مع المرض، وفي كتاب صواريخ 1958 ورد مرّة واحدة مع الحاجة، (74. حسين 1957 ص 25-27 وحسين 1958، ص 159). هذا السّياق يعكس الحالة الفلسطينيّة الصّعبة.
9. باقي الألوان: وردت كما يلي:
الفستقيّ أربع مرّات متعلّقة بلون ملابس حبيبته ، ( 75. حسين 1958، ص 38 وحسين 2004، ص 327-329).وهو توظيف شخصيّ.
الورديّ مرّتين يدلّ على الخجل والتّأثّر (76. حسين 2004،ص 371-373).
الباهت مرّة واحدة يدلّ على الحزن (77. حسين 1958، ص 21).
الرّماديّ مرّة واحدة يدلّ على الحزن (78. حسين 2004، ص 375).
الأغبر مرّة واحدة يدلّ على لون التّراب. (79. حسين 2004، ص 401).
خلاصة
كشفت الدّراسة عن أمرين مهمّين: الأوّل، وظّف راشد حسين الألوان في شعره قبل تركه وطنه، عندما عاش تحت الاحتلال، وهي الفترة الّتي تشرّد فيها الشّعب الفلسطينيّ وصودرت أرضه، فاستعمل الألوان كتعبير مجازيّ عن أفكاره وعن أحاسيسه، إذ نجد في شعره أربعة ألوان أساسيّة: الأحمر والأخضر والأسود والأسمر. جاء الأحمر والأسود في أكثر الحالات ليدلّا على قسوة ما حدث للشّعب الفلسطينيّ، والأسمر جاء ليتغنّى بلون التّراب ولون الإنسان الفلسطينيّ، والأخضر ليبثّ الأمل والرّجاء عند أبناء شعبه. الثّاني، في الفترة الّتي ترك راشد حسين وطنه لم يوظّف الألوان، وكانت مخاطبته لوطنه مباشرة غير مجازيّة ممّا يدلّ على أنّ الوطن في الشّتات أصبح أكثر حضورًا عنده، فلا حاجة للمجاز.
الغياب عن الوطن هو ما جعله بكلّ محتوياته من أناس وبيوت وأشجار ونباتات وأحجار وروائح وذكريات أكثر جاذبيّة، ممّا يعني أكثر حضورًا، والشّتات هو حالة أصعب من الغياب، فهو التّفرّق والبعثرة. الشّتات هو من يحوّل المكان-الأصل إلى رمز، والرّمز كثير القوّة. الشّتات يبرز قوّة وعظمة المكان-الأصل، لأنّه يجعله أكثر حضورًا، فكلّما غاب المكان، أو أيّ شيء، يصبح أكثر حضورًا في بصيرتنا. إنّ الرّمزية هي الّتي تجعل الحديث عن الحضورِ ساعةَ الغيابِ ممكنًا بسببِ حالتِهِ.
قمنا في هذه الدّراسة بفحص مدى تكرار الألوان في أشعار راشد حسين مع دراسة أسباب توظيفها ودلالاتها. كما وعالجنا توظيف الألوان في الشّعر العربيّ القديم والحديث، ووجدنا أنّ الأمر كان شائعًا، وقد شكَّلت الألوان مصدرًا دلاليًّا للتّعبير عن المعاني الكامنة وراء المعاني المعجميّة. تطرّقنا إلى تطوّر المعاني لأنّ للسّياقات مكانة كبيرة فيها، وحاولنا تتبّع تطوّر المعاني المجازيّة عند الشّاعر الحديث، وبعدها تطرّقنا إلى الرّسم في الشّعر وإلى علم الدّلالات اللّغويّة ومن ثمّ إلى دلالات الألوان، وبعدها أعددنا لائحة تطرح تعداد الألوان ودلالاتها في أشعار راشد حسين. ما ميّز توظيفه الألوان هو ربط دلالة الألوان مع الحالة الفلسطينيّة تحت الاحتلال فنجد تعابير ومفردات تشير إلى الواقع الفلسطينيّ، مثل: الخيمة والمخيّم واللّاجئ والسّجن والفقر والمرض وغيرها.
نبيل طنوس [email protected]
المراجع المصادر
1. بخولة، بن الدّين. “دلالة اللّفظ بين المعجم والسّياق”، بقجة، رابط: https://www.bukja.net/archives/30491، 2012.
2. حسين، راشد. الأعمال الشّعريّة. حيفا: كلّ شيء، 2004.
3. حسين، راشد. أنا الأرض لا تحرميني المطر. بيروت: الاتّحاد العامّ للكتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين، 1976.
4. حسين، راشد. صواريخ. النّاصرة: مطبعة الحكيم، 1958.
5. حسين، راشد. مع الفجر. النّاصرة: مطبعة الحكيم، 1957.
6. حمدان، أحمد عبد الله محمّد. دلالات الألوان في شعر نزار قبّاني. أطروحة لنيل لقب الماجستير. جامعة النّجاح الوطنيّة في نابلس، فلسطين، 2008.
7. زاده، عيسی متقی، وأحمدي، خاطره. “دلالة الألوان فی شعر المتنبّي”، إضاءات نقديّة، 15، (2014)، 131-150.
8. الزّيود، عبد الباسط، والزّواهرة، ظاهر. “دلالات اللّون في شعر بدر شاكر السّيّاب، ديوان أنشودة المطر نموذجًا”، دراسات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، 41(2)، (2014)، 589- 598
9. طنّوس، نبيل. “كلمات، موسيقا وصور”، ملحق الاتّحاد، (17.8.2017)، 12-13.
10. قاموس المعاني، رابط: https://www.almaany.com ، 2020.
11. قبّاني، نزار. (2000). قصّتي مع الشّعر. بيروت: منشورات نزار قبّاني، 2000.
12. قبّاني نزار. الأعمال الشّعرية الكاملة. جزء 1. بيروت: منشورات نزار قبّاني، 1993.
13. موقع أدب، رابط: http://www.adab.com، 2020.
14. نبهان، عبد الإله. “اللّون في الشّعر العربيّ قبل الإسلام”، البيان، رابط: https://www.albayan.ae/five-senses/2002-03-04-1.1294010، 2002.

نُشر المقال في مجلة شذا الكرمل، إصدار الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين الكرمل 48
السنة السادسة، العددان 24-25 شتاء وربيع 2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة