تألق بالهايتك لكريم فنادقة من كفرقرع

تاريخ النشر: 24/12/19 | 17:50

المرّة الأولى التي رأيت فيها حاسوبًا كانت سنة 1996. كنت حينها في الحادية عشرة من عمري أقوم بزيارة إبن عمي وصديقي العزيز، الذي كان والده معلّمي للعلوم في المدرسة الابتدائيّة. كان إبن عمي منهمكًا بلعبة “الأمير الفارسيّ”، وقد شرح لي، بينما كان يلعب، أنّ حاسوبه من نوع بانتيوم 568- أحدث حاسوب على الإطلاق. انبهرت من قدرة إبن عمي على التحكّم بالحاسوب خلال هذا الوقت القصير. عندما عدت إلى البيت طلبت من أهلي حاسوب بانتيوم 568. لم يفهمّوا عمّا أتحدّث بالضبط، لكنّهم كانوا يعرفون أنّ الحاسوب هو شيء متطوّر سيساعدني في التعليم. ذهبنا معًا إلى التقنيّ الوحيد في القرية، آنذاك، وطلبنا حاسوبًا. كنت أعدّ الأيّام منتظرًا بلهفة حتّى جاء التقنيّ وركّب الحاسوب في البيت؛ شاشة ضخمة، حاسوب (علبة)، فارة، لوحة مفاتيح، سمّاعات والأهم- غطاء للشاشة
في ذلك الوقت، كانوا قلائل من يعرفون ما هو الحاسوب من أهل قريتي، فالقرية لم تُربط بشبكة الكهرباء إلّا عام 1970. كفر قرع، القرية التي تحوّلت مع مرور الزمن من قرية فلاحين إلى قرية رجال أعمال وأكاديميّين نسبة الأطباء فيها عالية، هي قرية تنافسيّة إلى حدٍّ بعيد. فضلًا عن الأطباء، يسكن في القرية أعضاء كنيست، سفير، محاضرون، محامون، مدقّقو حسابات، مهندسون وتربويّون. وفي قريتنا، المجاورة لكركور وبارديس حنا، هناك أيضًا مدرسة عربيّة يهوديّة (يد – بيد).

عندما كنت ما أزال طفلًا صغيرًا قال لي أبي: “لكي تنجح عليك بتعلّم الرياضيات جيدًا، والتمكّن من اللغة العبريّة”. والداي ينتميان لجيل مسؤول جدًا، جيل اهتمّ بأن يوفّر لأولاده ظروفًا أفضل من ظروفه. درست أخواتي اللواتي يكبرنني سننًا في جامعة تل أبيب. أذكر أنّه وفي يوم إعلان نتائج امتحانات البجروت كانت القرية كلّها متوتّرة، وكان جميع من فيها مهتّمًا ويسأل عن نتائج الولد أو البنت. عندها أدركت أنّ لا طريق عندي سوى التعليم الأكاديميّ.

فتنني الحاسوب. كان أبي يضطر أن يحمّل الحاسوب في سيارته كل يومين ويأخذه عند التقنيّ لكي يصلح ما عثت فيه من خراب. في نهاية الأمر، تعلّمت كلّ شيء، من المكوّنات الصلبة إلى البرمجيّات، ولم أعد بحاجة إلى التقنيّ. بعد سنة قمت بالاتصال بالإنترنت. ساعتها فهمت أنّ العالم كبير كبير، وأنّه لا توجد حدود، وأنّني فرد واحد في عالم معوّلم جديد، كلّ من فيه يتحدّث اللغة نفسها، لغة الحاسوب.

كان أول موقع إنترنت بنيته في المرحلة الإعداديّة مخصّصًا للمدرسة: ضمّنت فيه مضامين ذات صلة بالتعليم، ونشرته على لوحة الإعلانات عند مدخل بناية المدرسة. لم يكن هناك، طبعًا، أيّ اهتمام، لأنّه لم يكن واضحًا للجميع ماذا يعني موقع ولا ما هي الفائدة المرجوّة منه. لم تقف الأمور عند حدّ عدم الاهتمام، بل قام بعض المعلمين بتوبيخي: “ما قمتَ به كان تصرّفًا سيئًا”، قالوا لي، “لقد أخذتَ اسم موقع موجود، وهذا غير قانوني، أنزله فورًا”. لكنهم لم يفهموا حينها أنّ ذاك الموقع كان يقدّم خدمة استضافة لمواقع أخرى، وأنّ اسم موقع الاستضافة هذا يبقى ضمن اسم الموقع الجديد لأنّه يقدّم الاستضافة مجانًا. لكنّني لم أبذل جهدًا في شرح هذا الأمر. ادّعىأحد المعلمين خلال توبيخي، أنّ علامتي متدنيّة في الرياضيات لأنني أضيّع الوقت على الحاسوب.

أن تكون طبيبًا هو أمر له مكانة وأهمية عالية في القرية والمجتمع. وكذلك أن تكون محاميًا، مراقب حسابات، مهندس ومعلّم. يعتبر جزء من هذه المواضيع رجوليًا، لذلك اختارت غالبية النساء سلك التعليم لأنّه يمكنهنّ العمل فيه قرب البيت، أو في القرية المحاذية. هذه المواضيع مرغوبة بسبب الأمان الوظيفيّ- إذ هناك حاجة دومًا للأطبّاء، وللمحامين ولمدقّقي الحسابات.

فكل أهل يودون رؤية أبنائهم يحملون شهادة جامعيّة باليد الأولى ويحصّلون على دخل محترم ومضمون بالأخرى. لكنّ الأمور تغيّرت منذ تلك الأيام، إذ ترغب اليوم كلّ أمّ عربيّة بأن يعمل الولد أو البنت في الهايتك وأن يركب/تركب سيارة تستأجرها لها الشركة ويظهر على بابها الخلفي لوغو الشركة. حيث يعتبر هذا العمل مثار إعجاب، ومهنة محترمة، ملآى بالتحديات، تجلب المال وتكشف العاملين فيها على عوالم بعيدة ومتطوّرة.

في المدرسة الثانويّة، تسجّلت للفرع العلميّ، حاسوب، كهرباء وإلكترونيكا. بعد ذلك وصلت إلى المرحلة الحاسمة التي يكون فيها على كلّ شاب وشابة في المجتمع العربيّ أن يقرّر أي اتجاه تعليمي يسلك: ماذا أتعلّم؟ كلّهم قالوا إنّه لا داعي لتعلّم الحاسوب فلا مكان للعرب في الهايتك، لذلك ذهبت لدراسة الطبّ في إيطاليا. لكنّ هذه التجربة لم تستمر طويلًا، إذ وصلت خلال مدة قصيرة إلى استنتاج أنّ عليّ أن أتعلّم فقط ما أحب، فعدت إلى البيت. ليس من السهل العودة من التعليم خارج البلاد بعد فترة وجيزة – فهذا يُعتبر فشلًا في مجتمعنا. لكن عائلتي احتضنتني بحبّ وقالت لي: إفعل ما تراه مناسبًا.

كان الفصل الدراسيّ الأول في دراسة علوم الحاسوب والرياضيات، سنة 2005، شديد الصعوبة. السنة الثانية كانت أكثر إثارة. تعرفت عن قرب على فنّ الحاسوب، فهمت كيف يعمل، يُبنى والأهم تعلمت كيف أبرمج بمهنية عالية.

لكن إجتماعيا كنت وحيدًا. لم يكن هناك عرب في القسم، ولم تكن هناك مجموعة طلاب أنضمّ إليها. بدا لي أنّ الطلّاب الآخرين يعرفون بعضهم البعض جيدا. في السنة الثانية بدأت بتبادل أطراف الحديث مع الطلاب اليهود، محادثات سطحيّة وحذرة جدًا. شعرت أنّهم وزنوا كل كلمة قالوها أمامي. كنت أعي أنهم لا يعرفون شيئا ولا عن معنى أن تكون طالبا عربيا تدرس بجامعة اسرائيلية. أنهيت البكالوريوس مع أصدقاء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، لكننا بقينا على تواصل، ومع مرور الوقت أخذت الشبكات الاجتماعيّة بالتوسّع.

في سنة 2007، خلال الثانية من التعليم، كان عدد طلاب الهايتك العرب 300 ، 20٪ من مجموع المتخرّجين في تلك السنة. الأسباب كثيره طبعا لكن أحدها هو عدم تشجيع المجتمع العربيّ الدخول لعالم الهايتك. وهذا أمر لا تستغربه، فكل من كان على علم بهذه النسبة المتدنية للعاملين في المجال، كان يقول لنفسه أنّ الهايتك ليس للعرب. روني فلومان، مؤلّفة كتاب “نوايا طيّبة” الذي صدر عام 2013، وتناول موضوع عمل العرب في الهايتك، التي أجرت مقابلات كثير مع شخصيات مركزية في هذه الصناعة خلال إعدادها الكتاب. كتبت: “قال لي أحدهم إنّ كتابًا عن العرب في الهايتك لا يمكنه أن يكون كتابًا نظريًا، ولا حتّى كرّاس، إنّه ببساطة خيال علميّ”.

يمكنكم الآن أن تفهموا لماذا كنت أريد أن أجد عملًا بأسرع ما يمكن. لكن ليس لهذه الأسباب فحسب. السبب الأساسيّ هو حبي للمجال وشغفي به. فأنا إنسان عمليّ وقد أثار فضولي اكتشاف ما يجري هناك داخل الأبنية الزجاجيّة الفخمة لشركات الهايتك. وعلى الطريق، أردت أن أثبت أنّ الهايتك ليس للعرب أو لليهود- الهايتك للجيّدين. عملت جاهدًا كي أشقّ طريقًا جديدة لم ينجح فيها إلا القلائل، فصار كل معيق أصطدم فيها وقودًا لدافعية كبرت بداخلي كما تكبر الكرة التي تتدحرج في الثلج.

تغيّبت ذات مرّة عن أحد الدروس فأكملته في ذات المساء، حيث كان هناك مسار تعليميّ مسائيّ للناس الذين كانوا يعملون ويتعلّمون في نفس الوقت. فوجئت بوجود أمين شاب من كفر قرع هناك كانت معجزة بالفعل، عربيّ وأيضأ إبن قريتي ويعمل في الهايتك، يا للروعة. طلبت من أمين، الذي كان يعمل في شركة “أمدوكس”، أن يجد لي عملًا، ألححت عليه، جنّنته. اتصل بي في أحد الأيام قائلًا: “رتّبت لك مقابلة في أمدوكس”.

ماذا تعني مقابلة عمل؟ ماذا يعني عقد عمل؟ فكّرت في الطريق إلى هناك. وصلت إلى مبنى جميل عند مفرق رعنانا، مع لوغو ضخم.كان المكان مليئا بالموظفين بطاقات أسمائهم تزين معاطفهم، مقهى أنيق في مركز المبنى حيث كان من المقرر إجراء المقابلة. لم أفهم لماذا سأجري المقابلة في المقهى؟- تمنيّت ألّا تكون مقابلة لوظيفة في المطبخ.

كانت الموظّفة التي أجرت المقابلة لطيفة ومهنيّة، سألت عدّة أسئلة وطلبت من مدير آخر مشاركتنا المقابلة. بعد ساعتين فقط سألتني اذا كنت أود العمل بوظيفة كاملة. وقّعت العقد في تلك اللحظة، وذهبت للبيت. في الطريق أخذت أفكّر: على ماذا وقّعت بالضبط؟ كيف وافقت على العمل وظيفة كاملة وأنا ما زلت طالبًا؟، لكنّي كنت سعيدًا. في ذلك اليوم انضممت للإحصائيات وأصبحت العربيّ رقم 300 في الهايتك، وفهمت، كذلك، أنّ المجتمع الناجح هو المجتمع الذي يدعم أبناءه.

أعمل منذ 13 عامًا في الهايتك، وأتطوّع لتعزيز ودمج العرب في الهايتك، بالتعاون مع منظّمة تسوفن، التي تعمل منذ أكثر من عقد على تعزيز ودمج العرب في هذا المجال. نقوم بذلك من خلال بناء وعقد دورات ملائمة، إرشاد – منتورِنج، تعريف بمدارس وشركات في المجال ومساعدة في التوظيف وما إلى ذلك. العرب في الهايتك ليسوا خيالًا علميا، فهناك في الواقع ما يقارب 6،700 من هذه الكائنات الحقيقيّة.

الكاتب ابن قرية كفر قرع ،أنهى لقبا أولا في علم الحاسوب والرياضيات ، طالب لقب ثاني ادارة أعمال في برنامج الابتكار وريادة الأعمال ، كلية هرتسليا. مهندس كبير ومدير فريق بشركة salesforce K، متطوع منذ 10 سنوات تقريبا لتعزيز وتطوير المجتمع العربي في مجال الهايتك بالتعاون مع “تسوفن” .

رابط المقالة من موقع هآرتس في اللغة العبرية:

رابط المقالة من موقع هآرتس باللغة العبرية

‫6 تعليقات

  1. فخر لنا جميعا،هذة المقالات التي أود أن أقرأها يوميا،فلتكن نموذج يحتذى به لبلدتنا المثقفة،وأنوه لضرورة عرض المقال على طلابنا في المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية ليسلكوا طريق كريم.كل الاحترام لك جارنا والى الامام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة