“ما يُشْبِهُ الرِّثاء”

تاريخ النشر: 21/12/19 | 8:48

أوقفت إدارة جامعة النجاح الفلسطينيّة في نابلس قبل فترة وجيزة عرضًا فنيًّا “إنهيدونا” داعمًا للمرأة على مسرحها بدعوى عدم ملاءمة ملابس الفنّانين وحركاتهم لقيَم المجتمع في نابلس بحسب مسئولين في الجامعة.

صدرت رواية “جريمة في رام الله” لصديقي الروائي الفلسطينيّ عبّاد يحيى، أثارت ضجّة ومحاولة اعتقالها ومُصادرتها من قبل النائب العام الفلسطينيّ التابع للسلطة وأجهزة الأمن الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة الذي يفتي بملاحقة الكاتب والناشر والموزّع، بحجّة خدشها للحياء العام!
بضغط الكنيسة وترهيب المتشدّدين أُلغي مؤخّرًا حفل للفرقة الموسيقيّة اللبنانيّة “مشروع ليلى” لـ”منع إراقة الدماء”، إذ طالبت السلطات الكنسيّة الرسميّة في لبنان بمنع الحفل، لأنّ أغاني الفرقة “تمسّ بالقيم الدينيّة والإنسانيّة وتتعرّض للمقدّسات المسيحيّة”، و” تشكّل إساءة وخطراً على المجتمع”.
وها هو ديوان “ما يُشبِه الرِّثاء” للشاعر النابلسيّ فراس حج محمد يواجه حملة نكراء لمقاطعته بحجّة خدشه للحياء. لا أكثر ولا أقلّ!
هل عدنا إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش؟!؟ (تعتبر محاكم التفتيش الإسبانية (La inquisición) في الأدب والتاريخ الشعبيّ كمثال على القمع والتعصّب في القرون الوسطى؛ هي المحاكم الكاثوليكيّة التي ارتكبت الفظائع بأفعالها وقراراتها ولم يسلَم منها أحد).
عقّبت على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي، الذي أصبح مربط خيلنا، بأنّه من غير اللائق إلغاء أمسية لمناقشة الديوان بسبب “خدشه للحياء”، وبعدها حصلت على نسخةٍ وقرأته عدّة مرّات باحثًا “بإبرة وفتيلة” عمّا يخدش حيائي وفشلت في ذلك! (الديوان صادر عن “طباق للنشر والتوزيع”، 194 صفحة، لوحة الغلاف للفنّانة التشكيليّة الأمريكية شيرلي كانتوف؛ صدر للشاعر عدّة دواوين شعريّة ومنها: “أميرة الوجد”، “مزاج غزّة العاصف”، “وأنتِ وحدِك أغنية”، “الحبّ أنْ” وكذلك عدّة دراسات وقراءات وينشر المقالات والنصوص في الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة).
يُعتبر اختيار لوحة الغلاف لأيّ مؤلّف مهمةٌ صعبة، ومع الزمن أصبحت عتَبةً نصّية وعملًا موازيًا لمتن المؤلّف وأصبحت لها وظائف ودلالات ومنها: وظيفة وصفيّة تتعلّق بموضوع الديوان أو نوعه أو كليهما معًا، أو ترتبط بالمضمون ارتباطًا غامضًا، أو وظيفة إغرائية تسعى لإغراء القارئ … واختار فراس لوحة “وجوه في الغابة”؛ تحوي وجوه وأشخاص مزجت بأشجار في غابة، تحتاج للتدقيق والتمحيص والبحث عن تلك الوجوه التي اختلطت بأوراق وفروع وجذوع الشجر، وقراءتك لقصائد الديوان تحوجك لبذل جهد لفكّ رموزه وإدراك دلالات اللوحة ووقعِها على الديوان علّك تنجح بالربط بينها وبين النصوص وما وراءها.

كذلك الأمر بالنسبة لاختياره عنوان الديوان فجاء موفّقًا، يعبّر عن روحه وفلسفة صاحبه الحياتيّة المتألّمة ممّا آل إليه وضعنا، ساخطة وناقمة، كأنّي بها مرثيّة حداثيّة بكّاءة.
“لا شيء فينا كاملٌ أو ناقصٌ
كل شيء هو هو
ناشئ بفطرتِه
تشوّهه الحياة بلغز مبتذَل”

فراس مثقّف موسوعيّ وصاحب تجربة، يحاول تمرير فكره وفلسفته في نصوصه الشعريّة، مباشرةً أحيانًا ومشفّرة ومعقّدة أحيانًا أخرى. قراءة نصوصه عميقة؛ وكأنّها بحاجة لعالِم جيولوجيّ ليفكّكها، فعالِم طبقات الأرض مختص بدراسة حيثيّات الأرض الصلبة، والصخور التي تتكوّن منها، والعمليّات التي تحدث عليها مع مرور الزمن، ميزاتها وبنية ما تحت سطحها والعمليّات التي شكّلت تلك البنية، وبعض قصائد الديوان تضطرّك لعدّة قراءات تأمُليّة تفكيكيّة لتصل عُمقَها علّك تصرخ “يوريكا!”.

النصوص المعاصِرة الحداثيّة ثريّة وتبثُّ سهامَها في غير اتجاه، تومئ أكثر ممّا تقوله، تحتوي في بُنيتِها عدّة طبقات، ولك أن تقشِّرها، كلّ حسب رغبته ومفهوميّته علّه يصل إلى ما أراد أن يقوله الشاعر وراء نصِّهِ، لكلّ طبقة لسانها وحالها، وكما شبّهَها رولان بارت بالبصلة، لكلّ طبقة حجمها وخصوصيّتها، وتشكّل بكامل طبقاتها ثمرة ناضجة، ولذا علينا تحسين آليّاتنا لنواجه تلك النصوص وما وراءها، ولا نمرّ بها مرّ الكرام.

حاولَ الشاعر في ديوانِه، قدرَ المستطاعِ، الابتعادَ عن المدرسةِ الدرويشيّةِ والقبانيّةِ، ونجحَ في ذلك رغم لمسات هنا وهناك، ففي قصيدة “هكذا آتيكم”:

“وأين يمضي معي لنعيد صوغ الأغنيات
على وقْع الوترْ
في ظل خضراء الشجرْ
يا ليتني وقصيدتي كنا حجرْ
وفؤاد طيري من حجرْ”

كذلك في قصائده “الغريب”، “لم يعد أحدٌ بريئا”، “كزهرة بيلسان”، “خطبة الدّكتاتور الأخيرة الموزونة جدّاً”… لدرويش حضور طاغٍ عبر الديوان!

جاءني صديقي الراحل أحمد دحبور في بعض القصائد، وخاصّة قصيدة “طقوس الموت والحياة”:
“من يغسل الموتى
يعود إلى كؤوس الموت يشربها
ولم يذكر لينسى
حياة الغيب تمطره تبلله وتثقله وتندبه
بيوم فاضح الذكرى عصيبْ
من يغسل الموتى سيذكر أنه يوما
غسيل الآخرين إلى المقابرْ”

الشاعر ساخط على الاحتلال وموبقاته، على ما آلت حالنا إليه بعد المهزلة الأوسلويّة وسرابها، فيحاول الاعتزال وسرقة فضاءات ليحلم أحلام شاعر فيصير الحزنُ أغنيةً في هذا العصر الماجن!، يأتيه الشعر ليكتب سيرته دون رتوش، يجده “ضِدٌ عَلَيك” وليس معك!
“أنا يا وطن الأراجيف السخيفة
ضدّ من شربوا بكأسك خمرة البلد الشفيفة
أنا ضدّ من لبسوا بعارك مخملا ظلا
بآهات مخيفة”

يحزنه الوضع فيلقي اللوم على تلك الرموز في العديد من قصائد الديوان، “شيء عنِ الجنودِ”، “رسالة للجنود المنهكين”، “رسالة أخرى للجنود المنهكين”.

يرثي حال مثقّفي الرفاه والبلاط وبرجهم العاجي كما نرى في قصيدته “أولئك المَرَدة”:
“المثقّفون” مثل نساء الحاراتِ
يجتمعون فقط من أجل رواية الحكايات التّافهةْ
يؤلّفون الإشاعاتْ
ويحقدون على الجَمالْ
لا يناصرون المرأة والإنسانَ والحقّ في الرأيِ
فقط، يتسلّقون جثث القتلى ويقتتلونْ
ويقرأون اللّا شعورْ
ويطفئون المصابيح اللّامعةَ الجديدةْ”

ويقولها بصريح العبارة بأنّهم أصبحوا “منتهي الصلاحية”.

حين يرى الوضع ويمتعض، يصرخ: “كن هامشيّا وكفى” ويرمي بنبوءته عندما يكون الحزن أبيض وينشد نشيدته “سُورَةُ الزمن الحزين”.

كُتبَ الكثير عن القدس، نثرًا وشعرًا، وهناكَ ابتذالٌ وتكرارٌ فيما يخصُ الكتابةَ عنها، هناك من امتطاها واستهلَكَها كبطاقةِ دخولٍ أو تأشيرةِ مرورٍ، ويأتي الشاعر ليلقي بدلوه في رائعته “المدينة لا تموت”:
“تلك المدينةُ…
ليس قصيدةً تتلى على أمواج فيروز القصيرة في إذاعات الخطابات الطويلةْ
أو عهدةً من بعد جولةِ معركةْ
أو نصَّ دستور بجامعة الدولْ
أو خليطًا من تراب ورحيقًا ووضوءاً وصلاةْ
تلك المدينةُ المسماة مجازًا قدسْ”

روّضَ فراس التراث والأسطورةَ في شعرِه خادمةً فكرةً أرادَ إيصالَها ونجحَ بمهارةٍ دونَ مواربةٍ ورياءَ، بانسيابيّة دون تكلّف وإقحام: قصص سيّدنا يونس ويوسف، عوليس هوميروس.

الديوان مرثيّة لكل ما يحيط بفراس: الشّعر والنّقد والرواية، ظواهر اجتماعيّة مقيتة، الاحتلال وسلطة أوسلو، المثقّفون والذكريات، أعياد ميلاد الأصدقاء والقربى…والحبيبة.
بعد تجربة عريضة في عدّة مجالات أدبيّة يلخّص الشاعر تلك التجربة في قصيدته التي أجدها لائحة إتّهام ضد عالم الأدب ومتسلّقيه، وهم كُثًر، “هكذا في كلّ عام”:

“الشُّعراء لا يخلصون لقصائدهم
يتركونها جوعى الفراغ الروائّي
……
الروائيّون يحنثون بالقسَم الجماليّ
ويعتدون على السّرد
يلولبون السُّطورَ “ولا يلوون على أحدْ”
……
الناقدون ضياع مأدبة الجوائز
لا يقرؤونَ…
ويَمنَحون الأوسمةْ
يتبعثرون أولَ مؤتمر صحفيّ
ويُمطرون “شتائمًا” مثل المطرْ”

ملاحظة لا بدّ منها؛ إذا قارنّا بين الشعر الإباحي في زماننا وأزمنة مضت نجد أنّ أسلافنا كانوا أكثر انفتاحًا، حريّةً وجرأة، يبوحون بكلّ شيء ويسمّون الأشياء بمسميّاتها دون تردّد ورتوش وتورية و”فُحش” فكان عمر بن أبي ربيعة زعيم الشعر الإباحي، أنشدوا أشعارهم دون بتر وتشويه، وكذلك الأمر عند نزار قباني ومحمود درويش وهو القائل:
كم أَنا؟
في الظهيرة، لَمَّعْتُ كُلَّ مرايايَ. أَعددتُ
نفسي لعيدٍ سعيدٍ ونهدايَ، فَرْخا
يمامِ لياليك يمتلئان بشهوة أَمس
أَرى في عُروق الرخام حليبَ الكلام
الإباحي يجري ويصرخ بالشُعَراء
اُكتبوني، كما قال ريتسوس. أَين
اختفيت وأَخفيت منفايَ عن رغبتي؟
لا أرى صُورتي في المرايا، ولا صُورَةَ
اُمرأةٍ من نساء أَثينا تُدِيرُ تَدَابِيرَها
العاطفيَّةَ مثلي هُنا”
وغيرهم كُثُر، ولو كانوا بيننا لسمعت الكثيرين ينادون من منابرهم الفيسبوكيّة: “لازم أنشرك على صنوبر بيروت”.

لماذا نستخف بالقارئ والمتلقّي؟ فهو في النهاية الحكم والفيصل وهو الذي يغربل كما يقول الروائي المصريّ أشرف العشماوي وله الحق بأن يُخدَش حياءه أم لا، بعيدًا عن مقصّ الرقيب!
نحن اليوم في واقع جديد متغيّر تُسيطر عليه وسائل الاتصال المتطوّرة فكيف لنا مُصادرة قصيدة وديوان شعر لمنع وصوله إلى أعين وآذان أبنائنا وبناتنا المُنفتحين على العالم ووسائل اتّصاله ليل نهار؟!
أثار الديوان كثيرًا من الجدل ولكن المؤلم والمؤسف أنّ هذا الجدل جاء ممّن لم يقرأوا أشعار فراس!! لماذا؟ أين الحياد والموضوعيّة والابتعاد عن القبيلة وأعرافها وأحكامها الجائرة؟ هيّا نفتح عقولنا للتعدديّة وقبول الآخر ولكن بشرط أن نحترم رأي الآخر تيمُّنًا بما قاله الكاتب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه المعروف بفولتير المتوفي عام 1778: ” لا أوافق على رأيك، لكنني مستعد للموت من أجل حقك بالتعبير عنه”. لا بدّ أنه يتململ في قبره لسماع خبر العاصفة والزوابع التي تهبّ في أوساط مثقّقينا فارحموا فراس و”جريمته”!
حسن عبادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة