رواية كلب الحراسة الحزين – صونيا خضر

تاريخ النشر: 31/10/19 | 10:34

بقلم د. صفا فرحات –
لا بدّ بداية من التّأكيد على أنّنا أمام رواية تستحوذ قارئها، وتأخذه عميقا في تجاويفها، ترميه إلى أعماق بحار الكلمات فيغرق فيها وقبل أن يتنفّسها ترميه إلى شواطئ الدّهشة ليغازل رمالها، علّه يحوز جماليّاتها الدّافئة.
هي حكاية “رفيف”، تلك الطّفلة الّتي أبصرت النّور عندما انطفأ من عينيّ أمّها، وتُركت وحيدة دون عناية واهتمام في الطّابق السّفليّ، مهملة منبوذة.
ويمرّ شريط حياتها في مهاوي التّعاسة إلى أن يصل محطّة الانفراج فتشقّ طريقها نحو الاستقلال وتحقيق الذّات وقطف نجاحات الشّهرة عندما حصلت على درجة الدّكتوراة في علم النّبات ومن ثمّ أصبحت صاحبة دار للأزياء تجاوزت شهرتها المحليّة إلى الصّعيد العالميّ.
بعد هذا الملخّص المقتضب للرّواية، سأحاول ولوج عالمها من خلال شذرات نقديّة متفرّقة، تستلهم المذهب البنيويّ حينا والمذهب الاجتماعيّ حينا آخر.
وتجب الإشارة هنا إلى أنّ النّقد هنا لا يعني في مجمله البحث عن مواطن الضّعف أو القوّة في العمل لأنّ النّقد في جوهره، استكشاف للعمليّة الإبداعيّة في مخاضها العسير حتّى ولادة المنتج في صورته النّهائيّة.
وبعد،
يستوقفني بداية، عنوان الرّواية” على الصّفحة الأولى وصورة فتاة قد أشاحت بوجهها جانبا وقد تلاشت معالمها الّتي تراجعت إلى الظّلّ أمام ما ظهر في كفّها من عنقود عنب تدلّى من خدّها، وهو ما كان سرّ تعاستها في بداية مشوارها إلى أن تصالحت معه فصار لها سمة الجمال.
وعنوان الرّواية هو عتبتها، وهو مطلعها، ولا يكون اعتباطيّا، فهو مرتبط بالمتن الحكائيّ، دالّ عليه ويقوم بدور فاعل في عمليّة التّواصل بين هذا المتن وقارئه.
ويتكوّن العنوان من ثلاث كلمات: كلب الحراسة الحزين. ويكون الكلب تابعا لصاحبه محبّا ومخلصا له، وهو إضافة إلى هذا فإنّه كلب حراسة، له دور محدّد في إبعاد الأذى عن صاحبه فهو حارسه الأمين، لكنّ نعته بالحزين يشي بالألم النّفسيّ العميق الّذي يحيق به.
وقد ورد هذا العنوان في الرّواية في الفصل الرّابع في مشهد” الفأر الهارب” مرتبطا برفيف، وهذا في مجرى الحديث عن العنقود الصّغير الّذي عربشت عليه خيباتها، وكان يرافقها ولا يسمح بانعتاقها من ذلك الكلب الحزين الّذي يقبع في طفولتها.
ممّا ورد أعلاه لا ندري من المقصود بذلك الكلب الحزين القابع في طفولتها لكثرة التّأويلات، ولكن وبعد أن ورد هذا العنوان مرّتين في مجرى الحديث عن ” كريم” والد “ريف” وتوأم ” نصر” تتكشّف الدّلالة، لنعرف من المقصود.
فقد ورد في مشهد وسمته بكلب الحراسة الحزين، في معرض حديثها عن متابعة كريم خطوات العاشقين: أخيه “نصر” وتوأم روحه عشيقته” عطور”، وبعد أن خسر الرّهان أمام شقيقه اكتفى بدور كلب الحراسة الحزين.
وتزوّج “كريم” من عطور، وأنجب منها طفلين، وكانت حياته في ظلّ أسرته سعيدة في ظاهرها، وتعود سعادته الظّاهريّة إلى موت أخيه “نصر” من جهة، ولقدرته وزوجته على ردم السّرّ في روحيهما من جهة ثانية، إلى أن بدأت هذه الأسرار تثور عاصفة في روحه، تدفع بكوابيس الشّكّ عاتية، فتغيّرت حياته رأسا على عقب، وبخاصّة بعد تذكّره اختلاء “نصر” بعطور عدّة مرّات، وهو يقوم بدور كلب الحراسة الحزين، فلم يستطع تقبّل ابنته الثّالثة رفيف الّتي ولدت في مخاض الشّكّ المتعربش في تلافيف العقل والرّوح.
وتكرّرت العتبات داخل الرّواية، في بدايات كلّ فصل من فصولها لتلقي الضّوء على فحواه وجاءت كما يلي:
في الفصل الأوّل استشهدت بقصيدة محمود درويش: أنا يوسف يا أبي، وبدأت الفصل الثّاني بقصيدة شعريّة من إبداعها لعدم وجود إحالة تشير إلى اقتباسها.
وكانت العتبة في بداية الفصل الثّالث مقتبسة من سيلفيا بلاث وهي شاعرة وروائيّة أمريكيّة.
وصدّرت الفصل الرّابع كلاما يبوح بتغلغل برودة الحياة في الرّوح فينعدم الشّعور بالبرد، وهو كلام من وحي فلسفتها الرّامزة إلى ما سيكونه هذا الفصل.
ثمّ جاءت عتبة الفصل الخامس مقتبسة من ألان بوسكيه الشّاعر الأوكراني الفرنسيّ الجنسيّة، واحتوت كلّ الفصول على أبواب فرعيّة عنونتها الكاتبة بما يشير إلى مضمون كلّ باب، لكنّها خلخلت هذا النّظام بعد الفصل الخامس، فقد اقتبست عتبة نصيّة من ترايان بتروفيسكي الصّحفي والكاتب اليوغسلافي، إلّا أنّها لم تذكر بأنّه الفصل السّادس، وكذلك فعلت في ما يجب أن يكون الفصل السّابع، فقد استشهدت بأقوال فرناندو بسوا الشّاعر البرتغالي، إلى أن وصلت إلى الفصل الأخير دون أيّ استشهاد لكن وبعد قراءة عدّة صفحات منه تجبهنا قصيدة لقسطنطين كافافيس الشّاعر اليوناني، فلم تأت العتبة في مكانها الطّبيعيّ . ( نلاحظ مدى اتّساع ثقافة الكاتبة).
ويُطرح السّؤال، ما السّرّ في هذه الخلخلة؟ هل هي مقصودة لذاتها؟ أم وقعت سهوا في تعثّر منهجيّة الكتابة؟
للإجابة عن هذا التّساؤل لا بدّ من نظرة شموليّة ترصد مركّبات الخلق الأدبيّ وتعيدها مقنّنة قدر الإمكان إلى منهجيّة الإبداع.
وتدور منهجيّة الإبداع هنا، في فلك الرّواية الجديدة، وهي الحلقة الأخيرة من الحلقات الثّلاث في الفنّ الرّوائي وفق التّقسيمات الّتي أشار إليها أستاذنا د. شكري عزيز الماضي وقد أكّد في مجال البحث عن الرّواية الجديدة، إلى أنّها تعبير عن حدّة الأزمات المصيريّة الّتي تواجه الإنسان، وهل هناك مصير أقسى من مصير الطّفلة” رفيف” الّتي نبذها أبوها لأنّها تثير الشّكوك في نفسه الحائرة المتعبة، وتفقده التّوازن بين منطقيّة عقلانيّته وبين هواجسه الّتي ما لبثت أن تملّكته بسوداويّة قاتلة.
وقد جاءت الرّواية الجديدة في ظلّ تفتت القيم وتشظّي الثّوابت والمبادئ واهتزازها، وفقدان الانسجام الذّاتيّ والجمعيّ، وعليه جاءت هذه الرّواية مبعثرة متناثرة بقصد، تفجّر الحبكة القائمة على التّسلسل والتّرابط، هذا إضافة إلى تدخّلات الكاتبة المباشرة إلى حدّ مخاطبة القارئ شارحة ومعلّقة، معتمدة الانحرافات السّرديّة المتكرّرة والانتقال من حدث إلى آخر ومن شخصيّة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر بقصد تحطيم مبدأ” الأيهام بالواقعيّة”.
وفي التّدليل على متّكآت الرّواية الجديدة، وعند الأبحار في روايتنا كلب الحراسة الحزين، نجدها تدور في هذا الفلك، ففي بداية الرّواية وفي معرض الحديث عن الطّابق السّفلي، نشهد ولادة رفيف وسط هذيان أمّها، ثمّ نجد استباقات زمنيّة من خلال الرّاوي العليم: ونامت رفيف بسلام واستسلام بين ذراعيّ الغريبة الّتي سترافقها طوال طفولتها وشقائها والطّابق السّفليّ من بيت العائلة.
ويقفز الزّمن عشرين عاما، إلى حادثة الكاهن صهيب، وخروج ” رفيف” من الطّابق السّفليّ، لتنام بجانب أختها في الطّابق العلويّ،ثمّ يأخذ السّرد منحى آخر، يدور حول احتفال ليلى بعيد ميلادها، وتنتقل الكاتبة، في مشاهد متداخلة، إلى الحديث عن كريم، عندما كان صغيرا، يشتمّ رائحة البيض المقليّ والخبز المحمّص، بدعوة له ولأخيه للنّهوض وتناول الفطور، ليعود الزّمن مرّة ثانية إلى الحاضر.
ويظهر انكسار تسلسل حلقات الزّمن على صعيد مشهد كامل وليس فقط في داخله من خلال تقنيّة الاسترجاع ففي الفصل الثّاني، وفي المشهد:” رائعة الجمال” ويكون الحديث في الزّمن الحاضر، ويأتي المشهد الثّالث معنونا ب قبل ذلك في ارتداد واضح إلى أحداث ماضية سبق ما جاء في مشهد: رائعة الجمال.
وانتقال الزّمن من الحاضر إلى الماضي إلى المستقبل بقفزات متواترة، وإضافة إلى دوره في خلخلة منطق الحبكة، فإنّه ومن خلال استشراف المستقبل يدلّ على زاوية السّرد وعلى الرّاوي العليم. والمثال من نهاية مشهد البحث عن الحقيقة:” ستمرّ خمس سنوات لتصبح ” رفيف” واحدة من مائة امرأة ملهمة في العالم”.
وعلى صعيد الحبكة الّتي نسجت خيوطها حول الطّفلة “رفيف” منذ ولادتها، إلى أن أصبحت سيّدة أعمال بارزة على الصّعيد العالميّ، ولأنّها واحدة من مائة امرأة ملهمة في العالم، فهي محطّ أنظار الإعلام، فكلّ إذاعة ترغب في إجراء سبْق صحفيّ معها، وفي مشهد الريبورتاج، نرى مدى الارتباك على وجهها، لأنّها للمرّة الأولى ستواجه الجمهور على الهواء مباشرة، وهي تخشى من الأسئلة الحرجة الّتي ستجبرها على كشف ما غمض من أسرار حياتها الماضية، وهي الّتي تحاول أن تغلق أمامها الأبواب السّميكة.
وبعد حوار طويل مع معدّة البرنامج، وبعد لقاءات عدّة مع المصوّر لتصوير دعاية اللّقاء، ينقطع خيط الحبكة، ولا ندري اذا كان قد تمّ تصوير هذا اللّقاء على الرّغم من أهميّة هذا الحدث في تطوير الحبكة وأهميّة إفرازاته. فقد انتقلت الكاتبة إلى شخصيّة” قيس” وإلى خيوط الغزل التّي بدأت تُنسج بينه وبين رفيف. لننتقل إلى مشهد جديد، عنونته ب: “قبل ذلك”، منسحبة إلى ماضي رفيف، قبل خمس سنوات، عندما خرجت من ماضيها وأوصدت بابه إلى الأبد.
لقد اعتمدت الكاتبة تقنيّة تغيير الخطّ، وهي تقنيّة مستعملة في القصص الّتي تدمج الحوار بالسّرد، وقد استعملها على سبيل المثال، الكاتب الفلسطينيّ غسّان كنفاني في روايته” ما تبقّى لكم” بعد أن استلهمها من الرّوائي ” فولكنر” في روايته ” الصّخب والعنف”.
وتستعمل هذه التّقنيّة المعقّدة، لتعيين لحظات التّقاطع والتّمازج والانتقال وتتمّ بتغيير حجم الحروف، وظهرت في روايتنا، عند الحديث عن الكاهن ” صهيب” فقد أعلنت الكاتبة بشكل تقريريّ، سماع صوت قويّ عام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين من أعماق المحيط الهادي.
وتغيّر حجم الحرف في الرّواية كذلك، عندما توجّهت الكاتبة بشكل مباشر إلى المتلقّي بقولها: “لن أعتمد وصف الشِكل الّذي كانت عليه غرفة النّوم بعد فتحها للباب، كثير من الرّواة فعلوا ذلك من قبل”.
وضخّمت الحروف كذلك ،عندما تتحوّل إلى موضوعة جديدة بدون رابط مع ما سبق
مستعينة بذلك للتّدليل على تغيير الجملة في مسارها إلى الوراء، كعودتها إلى فترة الطّفولة في الاسترجاع الذّهنيّ، وهي واقفة أمام المرآة، عندما حاولت رفيقتها كشط ذلك العنقود عن وجهها بالمسطرة المعدنيّة.
لكنّها تخلّت عن هذه التّقنيّة في الصّفحات الأخيرة وبخاصّة بعد المشهد:” نصف إنسان”، علما أنّ لحظات التّقاطع والتّمازج والانتقال، ظلّت قائمة فيها.
فهذه الانحرافات المتعمدّة، وكسر خط الحبكة التّصاعديّ، والقفز في الزّمان والمكان، والتّدخّلات المباشرة لتأكيد حضور الرّاوي، والانتباه إلى التّفصيلات صغيرة كانت أم كبيرة، وتقديم المعلومات بالأسلوب الصّحفيّ التّقريريّ، هي إشارات واضحة تؤكّد قصديّة الكاتبة في خلخلة الموازين وأنّ ما تقوم به ليس طفرة منهجيّة في الكتابة، كما أنّ هذه الإشارات تؤكّد ثورة الكاتبة على التّقاليد المتّبعة في الإبداع الرّوائيّ ممّا يسمح لنا بتصنيفها ضمن كتّاب الرّواية الجديدة، وثورتها لا تقف هنا بل تتجاوزها إلى العلاقة الهشّة بينها وبين التّسلّط الذّكوري الباترياركي، ممّا يشي بنسويّة هذه الرّواية المتمرّدة على قيود الدّين والسّياسة والجنس، وتدعو إلى الحريّة من خلال تحقيق الذّات.
كثيرة هي الموضوعات الّتي تزخر بها هذه الرواية، وهي موضوعات جديرة بالدّراسة المعمّقة إذا أردنا أن نقف على تجلّي الإبداع فيها، لأنّها وبحق رواية
تنقلنا إلى عوالم نفسيّة وعقليّة أخرى، تحثّنا على تقويم الأمور بشكل مغاير.
د. صفا فرحات
(ألقيت المداخلة في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 2019/10/24)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة