شيخ الكلاب (قصّة)

تاريخ النشر: 08/10/19 | 13:11

لا أعرف ما الذي أصابني في تلك الليلة الصيفيّة النجميّة الهلاليّة، وقد كان انقطاع الكهرباء عن البلدة ما أعادها إليّ بعد أن كدنا ننسى شكل انتظام النجوم في السماء عدم وفاء لها منّا. هجع ضجيج البلدة ووجدتني في حاكورة الدار ولألاء النجوم ونباح كلاب يتناوب عليهما بصري وسمعي، وإذ بي أجد نفسي والكلاب في تواصل ذهنيّ دون أن أرى في هذا التواصل، ويا للعجب، تقليلا من قيمتي.
كانت مرّت علينا مدّة نسينا فيها نهيق الحمير ونباح الكلاب وليس فقط، امّا النهيق فقد فقدناه وربّما افتقدناه، ولكن النباح وما كدنا حتّى حطّ “الرفق بالحيوان” في بلدنا وعينيّا بالكلاب وأيّ حطّ. وأنا الذي “لا يعجبني العجب ولا الصيام في رجب” رحّبت بهذه النعمة “الكلبيّة” ليس حبّا في الكلاب وإنّما ولسذاجتي اعتبرتها مظهرا من مظاهر حضارة أجيالنا الجديدة، والحقّ أقول “طْلِعتْ حمار” فإذ بها مجرّد ألعاب أطفال “بحبوحة قروض” ما لبثت أن ضاعت قيمتها فشردت أو شُرّدت مُسيّبة سائبة تملأ الحواري.
بغضّ النظر، وجدتني وبهذا التواصل أرِد إلى مقولة لها في دواوينا حصّة لا بأس بها؛ “كلب الشيخ شيخ الكلاب”، والحقّ أقول؛ لم أفهم مرّة كيف يكون كلب الشيخ شيخ الكلاب، وهل فعلا هنالك منصب كهذا في عالم الكلاب؟! وكيف يتمّ تبوّؤه والوصول إليه؟! أيكفيه وفاؤه للشيخ؟! والأهم كيف يدير شيخ الكلاب هذا، مشيخته هذه؟!
صحيح إنّ الكلاب وفيّة حافظة للودّ، ويسبب وفائها كاد يطير رأس عليّ ابن الجهم على يد أحد كلاب هارون الرّشيد الآدميّين، ولكن كلّ هذا لم يقنعْني بصحّة المقولة، وليس لأني يابس الرأس أو شكّاك كتوما تلميذ السيّد المسيح، وإنّما لأن كلّ من يتقوّل بها يحملها ناقلا لا عاقلا وبيّناته ظرفيّة سمعيّة، فلا هو جالسَ يوما كلبا من الرّعية سائلا ولا جالس شيخا من شيوخها متنوّرا ليفيدنا ومن مصدر أول عن عالم مشيخة الكلاب.
لم يبق أمامي من طريق وأنا الشاغل نفسي في الأمور الكثيرة الإعجازيّة؛ “البيضة في الأول واللا الدجاجة” وقس على ذلك، لدرجة إنّ أصحابي لم يسأموا منّي وحسب بل راحوا يشكّكون في سلامة عقلي. لم يبق أمامي إلا أن أعمل على تواصل مع كلب شيخ، وعندما طرحت أمامهم التساؤل لاحقا حول الإمكانيّة وبعد تلك الليلة النجميّة القمريّة الكلبيّة، لم يبق عندهم شكّ؛ إنّ مسّا أصابني أو يركبني جِنّي.
تركت كلّ ذلك ورائي غير مكترث فلا أنا ممسوس ولا أومن بالجِنّ، ورحت أفتّش عن طريقة توصلني مع شيخ كلاب، فإذا كان الملك سليمان أعطي قدرة الحديث مع الحيوان فهذا دليل أنّ هنالك طريقة ما وما عليّ إلا أن أجدها رغم المساحة الواسعة الشاسعة بيني وبين سليمان زمانا ومكانا والأهم مكانة، ولكن لم يقل أحد أنّ هذه النعمة لن تُمنح بعدَ سليمان لأحد. وطبعا حرصت ألا أفصح عمّا يدور في خلدي أمام أحد، ولم أجرؤ حتّى أن أفصح عمّا نويت ولا حتّى لخلدي، فإن أفصحت فسأثبِّت شكّوك أصحابي يقينا، ولن يحوجهم وكلّ من حولي بعد ذلك التفتيشَ عن بيّنة إضافيّة؛ إنّي فعلا ممسوس وأيّ مسّ ومضروب وأي ضرب.
رحت أذرع المسافات بين خلايا دماغي، وبعد لأي أو يكاد وإذ به يوردني قولَ السيّد المسيح: “الحقّ أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم.”، من فرط بهجتي قفزت ولا أظنّ أرخميدس كان يجاريني فرحا يوم اكتشف نظريّة الوزن النوعيّ وخرج عاريا يصرخ؛ يوريكا، يوريكا. لم يبلغ بي الأمر ما بلغ به ولكن في الأيام التي تلت رحت أشحذ إيماني بالقدرة على محادثة الكلاب مستحضرا كل شاردة وواردة تعينني على شحذه، من الشرق بهنده وصينه وفارسه وعربه ومن الغرب بفاتيكانه وصولا للآزتيك في المكسيك، تشكيلا له إلى أن يبلغ قدر حبّة الخردل.
في أحد الأصباح نهضت وإذ بي يقارعني دافع لا مردّ له؛ “أنِ اذهب فكلب الشيخ ينتظرك!”، لم أتردد ولم أشكّ لحظة في هذا الدافع، وقمت ويمّمت حاثّا الخطى شطر دار الشيخ. كانت الدار وباحتها خاليتين وكان الكلب قاعيا في باحة الدار وعيناه نحو المدخل كمن ينتظر أحدا، فلم ألتفت لا يمنة ولا يُسرة وعيناي تصبّان في عينيّ الكلب الذي تصبّ عيناه في عينيّ، وصلت وسلّمت كما الآدميّ على آدمي وليس كما الآدميّ على الحيوانات لمسا وتمسيدا، وما كدت “أقعي” أنا الآخر حتّى سمعت صوتا كصوت عمر بن الخيام في رباعيّاته يردّ السلام، والحقّ أقول ارتعدت مفاصلي وأشدّ ما أخافني أن أفقد إيماني.
قبل أن تهدأ مفاصلي ودون مقدّمات ولا مؤخّرات حطّ عل مسامعي قول الكلب:
“هات ما عندك!”
فرددت وأنا الآخر دون مقدّمات ولا مؤخّرات، اللهم إلا من خلال ارتجاج في حنجرتي:
“هل أنت شيخ الكلاب؟!”
– لا…!
– كيف لا؟! فأنت كلب الشيخ؟!
وران صمتٌ لم يطُل.
قام من إقعائه، وقال:
“عندما تكفّون عن تشبيه أنفسكم بنا وتشبيهنا بأنفسكم ستعرف وتعرفون!”
وقبل أن أنبس ببنت شفة، قام واستدار مولّيني قفاه، فاستعجلته:
“ألنا حديث بعد هذا؟!”
لوّح بذيله وتابع مسيره حتّى غاب.
شغلني قبل أن أغادر مطرودا غير مطرود التساؤل:
هل فوّتُّ عليّ نعمة لا أستحقّها لعجلتي!
سعيد نفاع
أوائل آب 2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة