المملوك الأخير

تاريخ النشر: 15/08/19 | 21:57

في العهود الماضية إلى الأفول عادة ما تكون هناك نهايات محتومة فهي ثمرة سنوات عجاف من المعاناة و المرارة لابد وأن تطوي صفحاتها وفي ثنايا هذه النهايات تطل علينا شخصيات فارقة تمثل حيودا عن كل مضي من سلبيات حاملة لنا معان البطولة و اشراقة الامل في مستقبل أفضل ولكن أحيانا يكون مجيئها والوقت قد مضي ولم يعد سبيل للإصلاح ومن هذه الشخصيات الأمير الشاب طومان باي .
مع إعتلاء السلطان سليم الأول دست حكم الدولة العثمانية نشب الصراع بينه- بوصفه زعيما للمسلمين السنة- وبين الدولة الصفوية الشيعية وعلي رأسها الشاه إسماعيل ، حيث انتهي الصراع باستيلاء سليم علي عاصمة الصفويين (تبريز) وهروب الشاه من عاصمته وفي خضم هذه المعارك مع الصفويين حاول السلطان سليم استمالة قنصوة الغوري سلطان مصر ليكون عضدا له في هذه المواجهة إلا أن الغوري اتخذ موقف المتفرج حتي النهاية .. بيد أن سرعان ما تعاقبت الحوادث بشكل ينذر بأن هناك مواجهة مرتقبة للعثمانيين مع المماليك وذلك باستيلاء سليم علي إمارة دلغادر الواقعة تحت سيادة المماليك وبذلك أصبح العثمانيون على مشارف الأراضي المملوكية في الشام.
سارع السلطان الغوري بتجهيز جيشه والخروج به إلى حلب بالشام في عام 1516م وبصحبته الخليفة المتوكل علي الله (كان يمثل الخلافة العباسية الأسمية في مصر ) والقضاة الأربعة، واستبق الدخول في مواجهة مع سليم الاول بإرساله رسولٍ إلى سليم مؤكدا رغبته بالصلح وعدم الحرب، فرفض سليم و أساء وفادته وقال للرسول: “قل لأُستاذك يلاقيني على مرج دابق” وهي منطقة داخل الأراضي الشامية الخاضعة للمماليك و كشفت الحرب عن ساقها عند مرج دابق غير أن خيانة بعض القادة للغوري مثل : (خاير بك والذي أصبح حاكما علي مصر بعد ذلك في ظل الحكم العثماني – الخواجا إبراهيم السمرقندي والخواجا يونس العادلي والعجمي الشنقشي وهم من أخصاء الغوري – جان بردي الغزالي والذي أصبح حاكما لدمشق تحت الحكم العثماني) أدي الي هُزيمة الجيش المملوكي بقيادة الغوري والذي لقي حتفه تحت سنابك الخيل العثمانية ولم يعثر له علي جثمان وأسر الخليفة المتوكل علي الله والذي حمله سليم الأول معه حيث تنازل له عن الخلافة في مراسم جرت في آيا صوفيا لتنتقل الخلافة بصورة رسمية من العباسيين الي العثمانيين ودخل سليم الأول حلب وفي أول صلاة جمعة في المسجد الكبير هناك تلقب بخادم الحرميين الشريفين .
كان الغوري قبيل مغادرته لمصر قد عين طومان باي نائبا للغيبة ومع مقتل السلطان الغوري كان لابد من وحدة الصف فأجتمع الأمراء المماليك علي استخلاف طومان باي ليكون سلطانا لمصر –متجاهلين محمد ابن السلطان الغوري الراحل- إلا أنه تمنع ورفض المنصب لإدراكه صعوبة الخطب مع انقسام المماليك ولم يقبل إلا بعد أن حضر إليه الشيخ أبو السعود الجارحي أحد كبار المتصوفة في عصره وتمت البيعة عند الشيخ في كوم الجارح حيث حلف الامراء علي طاعة طومان باي وعدم ظلم الرعية مرة أخري ولقد كان الشيخ علي القدر المطلوب من المسؤولية الملقاة علي عاتقه في ظرف تاريخي كهذا فخاطب الامراء في شيء من الحسم قائلا: إن الله ما كسركم وذلكم وسلط عليكم ابن عثمان الا بدعاء الخلق عليكم في البر والبحر فقال الامراء :تبنا إلى الله عن الظلم من اليوم.وتعتبر هذه البيعة سابقة تاريخية هي الأولي من نوعها التي يشارك فيها القادة الدينيون في اختيار السلطان والتي كانت حكرا علي المماليك ثم علي الباب العالي بعد ذلك كما حصل طومان باي علي البيعة من المستمسك بالله والد الخليفة العباسي المحتجز لدي سليم الأول !!!
قاد طومان باي حركة تصحيحية فرفض فرض ضرائب جديدة لتمويل المعركة المنتظرة مع العثمانيين على رغم من كون خزائن الدولة فارغة علي عروشها ، فضلا عن رفضه مصادرة أموال الاوقاف واعتبر ذلك من المظالم التي لا يقبل ان تحدث في حكمه.كما قضي علي مراكز القوي وأعمدة النظام السابق وفي مقدمتهم الزيني بركات المحتسب والذي بلغت درجة ولائه للغوري السلطان السابق أنه لم يتوان عن تعطيش سكان القاهرة لأربعة أيام متتالية من أجل توفير السقاية لمولاه !! ومع تولي طومان باي انحسر نفوذ الزيني بركات إلى حد كبير وكانت القاشة التي قصمت تواجده علي الساحة المصرية بشكل كامل حينما التجأ دباغا ظلمه الزيني بركات إلى الشيخ ابي السعود الجارحي فاستدعي بركات وقال له :يا كلب كم تظلم المسلمين وأمر بكشف رأس بركات بن موسي وضربه بالنعال .
يبدو أن نجاح سليم في أحكام سيطرته علي الشام وهزيمة المماليك قد أغراه في إخضاع مصر لحكمه دون قتال أضافة إلى خشيته من استغلال الصفويين لغيابه في العودة لأملاكهم مرة أخري فضلا عن مخاطر اجتياز صحراء سيناء والتعرض لهجمات القبائل البدوية فيها فأرسل الي طومان باي في مصر لإقناعه أن يكون نائبا عنه في حكم مصر و أن يُذكر اسمه في خطبة الجمعة وأن تصك النقود بأسمه. لكن طومان باي رفض هذه التبعية للحكم العثماني بإيعاز من الأمراء المماليك، فاضطر سليم لإكمال زحفه علي مصر بإلحاح من خاير بك.
حاول طومان باي الاستعداد للمعركة مع العثمانيين بكل السبل فأرسل حملة بقيادة جان بردي الغزالي -والذي فر من مرج دابق ولم يكن قد انكشف امره بعد- لمقاتلة العثمانيين شمال غزة لتفويت الفرصة عليهم أن يصلوا إلى الأراضي المصرية، لكن جان بردي يعود لخيانته مرة أخرى متقاعسا عن أداء مهمته فيواصل العثمانيون زحفهم نحو مصر .
شرع طومان باي في الاعتماد على بقايا الجيش المملوكي والمتطوعين من المصريين وأمر أن يحفر خندقا دفاعيا عند صحراء الريدانية في شرق القاهرة وكانت خطته تتركز علي أرهاق العثمانيين في عمليات كر وفر ولكن خيانة بعض المماليك سربت خطة طومان باي للعثمانيين الذين داروا حول خندق الريدانية وتوجهوا نحو القاهرة فلحق بهم طومان باي وجيشه حيث أبدوا من البسالة والشجاعة ما مكنهم من إلحاق الهزيمة بالعثمانيين لدرجة مقتل الصدر الأعظم العثماني سنان باشا ولكن التفوق العسكري للعثمانيين حال بين السلطان الشاب وتحقيق النصر الكامل في الموقعة حيث استخدمت لأول مرة المدافع العثمانية الحديثة مما قلب موازين المعركة لصالح العثمانيين ففر طومان باي ورجاله بعدما تكبدوا خسائر فادحة . تحاشى السلطان سليم دخول القاهرة بعد المعركة مباشرة بسبب المقاومة الباسلة التي أبداها طومان باي ورجاله وقد ذكر ابن زنبل الرمال أن السلطان سليم كان يوبخ خاير بك كثيرا بل إنه هم بضرب عنقه، بعد دخول القاهرة، وهروب طومان باي ونجاحه في تنظيم المقاومة ضد الغزو العثماني ، وبعد مرور ثلاثة أيام وتحديدا في 26 يناير 1517 دخل سليم الأول مصر في موكب مهيب برفقته الخليفة العباسي والقضاة ومحاطا بجنده يحملون الرايات العثمانية الحمراء وقد كُتب عليها “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”، “نصرٌ من الله وفتحٌ قريب”. ولم يكد السلطان يهنأ بهذا الفتح حتى باغته طومان باي في “بولاق”؛ في حملة مفاجئة بعد يومين من دخوله مصر واشترك معه المصريون وأشعلوا النيران في معسكر سليم الأول والذي كان خارج المدينة ، وظن الناس أن النصر لهم، و خطب لطومان باي في القاهرة في يوم الجمعة، وكان قد دعي لسليم الأول في الجمعة التي سبقتها، غير أن هذا الفوز لم يحسم المعركة لصالح طومان باي؛ إذ سرعان ما لجأ الجنود العثمانيون إلى سلاح البنادق، وأمطروا به الأهالي والمماليك، فأجبروهم على الفرار، وفرَّ طومان باي بعد هزيمته بشكل حاسم في معركة وردان قرب إمبابة بالجيزة إلى بنها شمال القاهرة. أما الأمراء بمن فيهم جان بردي الغزالي فقد استسلموا للقوات العثمانية. وشرع العثمانيون في معاقبة المصريين ويقول ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” أن جنود سليم الأول أمعنوا في قتل المصريين في الشوارع كما تعمدوا إحراق مسجد شيخون والمنازل المحيطة به باعتباره رمزا لمقاومة طومان باي حيث كان يجتمع فيه مع جنوده وقواده، وانتشرت الجثث في شوارع القاهرة من مصريين ومن مماليك وجنود وأمراء كانوا موالين لطومان باي ويقول ابن إياس (ولم تقاس أهل مصر شدة مثل هذه قط).
الطريف أن طومان باي قرر أن يلخص للتاريخ بطولته وبطولة الشعب المصري في التصدي للغزاة من العثمانيين وذلك وفقا لرواية ابن زنبل الرمال من خلال معلقة شعرية طويلة أنشدها الأمير قيث الرجبى أمام الأهرام وعلقها عليها!!! يقول فيها :

وعلقنا على الأهرام شعرا كنظم الدر في حسن السياق
لمن يقرأه معبرا ليدري بأن الله بعد الخلق باق
وتجزي كل نفس يوم عرض بما فعلته في يوم التلاقي
لجأ طومان باي إلى شيخ العرب حسن بن مرعي لسابق معروف اسداه إليه في الماضي حيث توسط لإخراجه من السجن في عهد الغوري الا أن كراهية العرب للجراكسة والمتأججة في الصدور جعلت شيخ العرب يحنث قسمه لطومان و يسلمه للسلطان سليم.وذلك حسبما أورد ابن إياس فيما يذكر ابن عمار الخيلي ان طومان باي هو الذي سلم نفسه. أعجب سليم الأول بشجاعة طومان باي في الدفاع عن ملكه بالرغم من كل العوائق، وكاد السلطان أن يعفو عنه ويتخذه وزيرا ، لكن خاير بك أوغر صدره عليه قائلا : “يا مولاي، إن أبقيت عليه وجعلته وزيرا لا يبقي عليك هذا المعاند الباطل والكلب الجاهل ويفسد جميع عساكرك”. عندئذ أمر السلطان بقتل طومان باي شنقًا بشكل علني ، فسُلِّم طومان باى إلى على باشا دلقدار أوغلو ليعدمه على باب زويلة، وكان المماليك قد أعدموا شهسوار بك والد على باشا دلقدار أوغلو قبل أربعين عاما على نفس هذا الباب لصداقته مع العثمانيين!! ، ودُفن الجثمان في القبر الذي كان السلطان الغوري قد أعدّه لنفسه ويصف ابن إياس إعدام طومان باي بقوله : (فلما تحقق أنه يشنق وقف على أقدامه على باب زويلة، وقال للناس الذين حوله: اقروا لي سورة الفاتحة ثلاث مرات. فبسط يده وقرأ سورة الفاتحة ثلاث مرات وقرأت الناس معه، ثم قال للمشاعلي: اعمل شغلك. فلما وضعوا الخية في رقبته ورفعوا الحبل انقطع به فسقط على عتبة باب زويلة، وقيل انقطع به الحبل مرتين وهو يقع إلى الأرض، ثم شنقوه وهو مكشوف الرأس) .ويضيف: (فلما شنق وطلعت روحه؛ صرخت عليه الناس صرخة عظيمة وكثر عليه الحزن والأسف وأقام ثلاثة أيام وهو معلق على الباب حتى جافت رائحته، وفي اليوم الثالث أنزلوه وأحضروا له تابوتا ووضعوه فيه، وتوجهوا به إلى مدرسة السلطان الغوري عمه، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه هناك، ودفنوه في الحوش الذي خلف المدرسة، ومضت أخباره كأنه لم يكن) يقول ابن زنبل الرمال: (وكان ذلك اليوم على أهل المملكة أشأم الأيام، وبكت عليه الأرامل والأيتام) .فيما يتحدث ابن إياس عن تفرد الواقعة بقوله 🙁 ولم يسمع بمثل هذه الواقعة فيما تقدم من الزمان أن سلطان مصر شنق على باب زويلة قط، ولا علقت رأس سلطان على باب زويلة قط، ولم يعهد بمثل هذه الواقعة في الزمن القديم). ولقد دفع الإعجاب بطومان باى الفنان الأيطالي (باولو جيوفو) وهو صاحب الصورة الشهيرة لقنصوة الغوري إلى اعتبار طومان باى من الشخصيات التاريخية المؤثرة .
الطريف هو ما أورده الباحث التركي البارز يلماز أوزتونا في كتابه تاريخ الدولة العثمانية من أن سليم الأول أقام لطومان باى احتفال تشييع جثمان لامثيل له مكتنفا تابوت طومان باى بنفسه وأنه وزع على الفقراء النقود الذهبية لمدة ثلاثة أيام علي روح طومان باي!!! …والحقيقة أنه لو صحت هذه الرواية فالسلطان سليم الأول الأب الروحي للمثل الشعبي (يقتل القتيل ويمشي في جنازته) .
غادر سليم الاول مصر عائدا الي اسطنبول عام 1518 بعد حملته علي مصر والتي استغرقت سنتين وشهرين وهي الأطول في التاريخ العثماني.
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة