“وزر النوايا” بين الواقع والفانتازيا

تاريخ النشر: 07/07/19 | 17:40

إن دراسة رواية جديدة صدرت قبل أشهر قليلة لهو أمر غير يسير لعدة أسباب؛ عليك أن تتواجه، في مثل هذه الحالة، مباشرة مع المنتج الأدبي دون أن تناقش من سبقك، كما هو الأمر في حالات أخرى. ويصبح الأمر أكثر صعوبة حين يكون هذا المنتج هو باكورة أعمال هذا المبدع أو تلك المبدعة. لقد اختارت الكاتبة نسرين طبري أن تستهل عملها الإبداعي برواية “وزر النوايا” (2018). وهي رواية غير تقليدية تغور في أعماق النفس البشرية، مما استلزم توظيف تقنيّات الرواية الحديثة، وبالذات تقنيّات رواية تيار الوعي مثل المونولوج، الفلاش باك، الذكريات، الأحلام، الرؤى والهلوسة، كما نرى تداخل النص المسرحي بالسرد الروائي، وتداخل الواقع بالخرافة والفانتازيا.
تتمحور أحداث الرواية حول شخصية إشكالية مرت بتجارب قاسية منذ سني طفولتها، فتعتريها حالات من الهلوسة المتكررة التي تعكر صفو حياتها. قامت الكاتبة بتوظيف لغة شاعرية غير مباشرة، تنحو منحى الرمزية التي تثير القارئ وتستفزه للبحث عما وراء المفردة والجملة والصورة؛ لغة قريبة من لغة الأحلام والرؤيا والتحليق البعيد، دون أن يعني ذلك الابتعاد عن الموروث العربي الذي يتجلّى في توظيف الأساطير والخرافات العربية وبعض أجواء ألف ليلة وليلة.
وهي رواية لا تعنى بالمكان والزمان المألوفين، ولا بأجواء قرانا التي وجدنا لها انعكاسا لافتا في رواياتنا وقصصنا وأشعارنا الفلسطينية، فلا تركيز على حقبة زمنية ولا على مكان له مواصفات تقليدية، ولا على شخصيات مألوفة نلتقي بها في حياتنا اليومية. فالتركيز ينصب على الداخل أكثر مما هو على الخارج، بل على العكس تماما، فما نراه في الخارج هو انعكاس للداخل.

الدخول من الباب الرئيسي
ما يلفت النظر حقا هو أن الكاتبة نسرين طبري قد اختارت أن تدخل عالم الرواية من باب آخر، لا من الباب الخلفي. لم تدخل عبر أحداث تاريخية، ولم تتناول قضية الصراع العربي اليهودي الذي يمكنه أن يجنّد كثيرين لأنه صراع مع الآخر. لقد اختارت أن تدخل في صراع مع الذات/المجتمع. كما أنها لم تكتب رواية تقليدية رغم أن “وزر النوايا” هي باكورة إبداعها، بل اختارت أن تدخل من باب الكتابة التي تتيح المزج بين الأنواع الأدبية المختلفة.
لا نأتي بجديد حين نقول إن تعقيدات الحياة التي نعيشها اليوم جعلت عقل الإنسان وقلبه مغايرين عما كانا عليه من قبل. ونرى، كما يرى غيرنا، أن ثقافة هذا الجيل مغايرة كليا عن ثقافة الجيل السابق، وبالتالي فإن طريقة تقبله للجديد مختلفة عما كان من قبل، فالفانتازيا جزء من الواقع الحالي.
يحمل الكتاب الكثير من مواصفات الرواية التي تعنى بالنفس وبالروح وبتعقيدات القرن الواحد والعشرين وهمومه. فانضمت الروائيّة إلى عدد قليل من كتاب الرواية الفلسطينية الذين يرون أن المضامين الاجتماعية والفكرية التي تشغل حياة الناس اليومية هي المواضيع التي يجب الخوض فيها. لقد خاض الكتّاب الفلسطينيون تجارب عدة، بعد أن بدأوا، كغيرهم من الكتاب العرب، مقلِّدين لغيرهم حتى ساروا في طريق الانعتاق، ونجحوا في خلق أدب عربي فلسطينيّ، وفن عربيّ فلسطينيّ خاص ومميز يرتبط بواقعهم وهمومهم. إن عماد كتاباتهم النكبة والنكسة والهجيج، ومواجهة الآخر، والدفاع عن الأرض والمسكن والتاريخ. فهل هذا يعني أن هذه الأمور قد ولى زمنها وأن الأمور تأخذ منحى جديدا وكأن القضايا الكبرى قد وجدت لها حلا؟
إن انعدام وجود الحلول، وتعقيدات الوضع السياسي، وانعكاسه على الوضع الاجتماعيّ والثقافيّ، كفيل بتوليد فئات متصارعة تبحث كل منها عن رؤية خاصة بها. وبما أن الكاتب ابن بيئته، فإنه جزء من هذا الواقع ومن هذا الصراع. هناك اليوم تياران يتجاذبان جيل اليوم في كل أنحاء العالم العربي؛ التيار السلفي بكل ما يحمله من إحباطات جعلت شريحة كبيرة من المجتمع تبحث عن ذاتها في خضم “معارك” الهوية والانتماء الفكري، وتيار آخر يسبح ضد التيار السلفي، فتولدت حالة من الصدام بين فكرين متوازيين لا يلتقيان أبدا، إلا في حالة الصدام التدميري. هذا الواقع لا بد أن يجد صداه في مضامين الكتابة المختلفة وفي شكلها، ولذلك فإن التيار الثاني يبحث عن ذاته في ملعب آخر وفي حقل آخر وفي لغة أخرى.

الفانتازيا في خدمة الواقع
لقد باتت الفانتازيا تقنية بارزة في العديد من الروايات الحديثة، توظف بنسب متفاوتة بين عمل أدبي وآخر. يدور الحديث عنها وعن مصادرها وأصولها، وعن دور روادها، خصوصا روائيّي أمريكا اللاتينية، وكلهم يجمع على وجودها في التراث الإنسانيّ، ولكن الحديث الأهم ينصب على دورها ودوافع توظيفها. إنّ مصادر الفانتازيا عديدة أهمها ما قرأناه في قصص الأنبياء، وما ورد في الخرافات والأساطير لدى شعوب الأرض قاطبة، كما قد نجدها في حكايات الجدات. ولعل أكثر مظاهر الغرائبية موجودة اليوم في لغة الشعر الحديث، ما يجعل استعمال المعاجم التقليدية غير مجدية لفك شيفرات ورموز النص. ونضيف أنّ تعقيدات الحياة في العقود الأخيرة هي واحدة من أهم ما يثير الفانتازيا ويجعلها، ربما، جزءا من الواقع. ولعلنا لا نذكر كتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة، هنا، من باب المفاخرة فقط، بل إن هذين المؤلَّفَين هما من أهم مصادر الأساطير والخرافة التي استفاد منها كبار الروائيين العالميين قبل أن يستفيد منها الروائيون العرب.
إن الأسطر الأولى من الرواية تشي بالتوجه الفنيّ والفكريّ للرواية، التي لم تبدأ بالتعريف بالفضاء أو بالزمان، بل بدأت بمشهد شبه مسرحي لرجل غارق في حالة من الهلوسة “يرسم في الفراغ خطوطا لا يراها سواه”، يأتيه صوت امرأة لا يراها، تطلب منه تخليد أثرها قبل أن يحين رحيلها. يمتد الحوار بضع صفحات، تقطعه ذكريات سريعة تعود إلى عهد الطفولة، وتصوير ردود فعل الرجل الهائجة والمثيرة في آن معا.
تختلط الخرافة بالهلوسات، وتتداخل مع الواقع، فيتولد مزيج روائيّ لافت، فيه شخصية رجل متعب، قلق، هائج وحزين، يرسم في الفراغ. تعتريه موجات ذكريات مؤلمة وحارقة؛ طفولة حزينة، جَدّة وعرافات. يتمكن الصوت من اختراقه والتواصل معه، رغم رفضه الأوليّ، إذ يبدو أن هناك ما يجمع بينهما، فكلاهما ضحية. يطول شريط الذكريات المؤلمة التي أيقظها صوت الأنثى. نعلم أن اسمه صادق، وهو ضحية والده الذي يقترف الجريمة تلو الأخرى؛ يعتدي على الضحية الأولى، وهي صبية واسمها جميلة فتهرب منه، يعثرون على جثتها متفحّمة، يقتل زوجتَه أمَّ صادق وتختفي آثار الجريمة، يلاحق صبية أخرى لها حكاية مؤلمة جدا واسمها مليكة، يقتل الابن أباه أثناء اعتدائه عليها، وتختفي آثارها.
يطّلع القارئ على هذه الأحداث في بضع صفحات تكاد تكون أشبه بخرافة، لكنها حقيقة مؤلمة مرَّ بها صادق. لم تنل هذه الأحداث وصفا مسهبا رغم أهميتها، ولا يشعر المتلقي أنه بحاجة إلى مزيد من المعلومات، فهي في تراصّها كفيلة بنقل الألم من الشخصية إلى المتلقي ليحدث تفاعل سريع بينهما. وكأنّ ما يحدث كان عبارة عن فيلم قصير رُصَّت فيه الأحداث فعُرضت بأقلّ ما يمكن من المشاهد وبأقلّ ما يمكن من زمن.
لا يعرف القارئ عند افتتاح الرواية موقع الأحداث ومسرحها، ولا يتعرف على مواصفات المكان وميزاته، هناك تراب وأوراق شجر وقبة سماء، وصوت امرأة يحاور “صادق”، وكأنّ ذلك حقيقة، لا هلوسة أو خيال. يحاور هذا الصوت “صادق” كما يحاور ذاته عبر مونولوج قصير، يبدو فيه أنّ صاحبة الصوت تعرفه وتعرف خصاله الطيبة.
يتعرف القارئ على “صادق” وهو في حالة سكر منذ السطر الأول، ندخل معه في الأعماق، ونغوص معه في الحكايات المؤلمة، ونغور في الماضي. يقرر “صادق” بعد هذا الشريط المؤلم من الذكريات الذي يمتد ثلاثة عقود ونيفا من السنين أن يبدأ مرحلة جديدة يكون فيها إنسانا آخر، ويبدأ رحلة البحث عما تبقى له في الحيا؛ البحث عن مليكة التي تركته بعد قضاء ليلة عشق غير منسيّة، سلمته فيها ذاتها كما أراد وكما أرادت. “في صبيحة اليوم التالي، رزم أمتعته القليلة، وسار باتجاه البلدة”. (ص37) وكان أول دخوله القرية مقبرتها، وهناك بالذات “أخذه حلم يقظة إلى مرابع خضراء…”. (ص39) رأى مليكة ركض نحوها وحين دنا سبقته إلى ذراعيها طفلة جميلة. استفاق وتابع سيره. عند مدخل القرية صادف امرأة ضامرة الجسد تكبر جدته بكثير، إنها العرافة صديقة جدته التي تقوده إلى بيتها لتسلمه “الأمانة” التي تركتها له الجدة والدة أمه.
هذه الأمانة تكسبه بيتا يأوي إليه، فيه أثاث وأسِرّة وكل ما يحتاجه الإنسان العاديّ السويّ. هذا المكان يتيح له مجال البحث عن حبيبته مليكة. وقبل أن يخسر المزيد من الوقت يلجأ إلى العرافة التي اختصرت عليه عناء السؤال: “إذا ما ضاقت الدنيا بفيروزية العينين، تراها تلتجئ إلى صخر الشطآن، تقتات ملح البحر، تؤنس وحدتها بمداعبة الطحالب النابتة على صخوره. لا يروق الضجيج فيروزية العينين، لذا فإنها تتوارى عن الأنظار مع اقتراب الصيادين، وإذا ما دخلوا عمق البحر تركض إلى المياه لتلقي بجسدها المشتاق فوق تموجاته المتكسرة من فعل مرور القوارب فوق سطحها”. (ص59-60)
إن عملية البحث ولقاء العرافة والأحلام ووصف الأمكنة أقرب إلى الحكايات الخرافية والأساطير التي تأخذنا إلى البحار وأسرارها. لا يشعر القارئ بوجود محيط بشريّ عاديّ، منذ دخول صادق البيت في المدينة، إذ من المتوقع أن نرى معالم المدينة والجيران والحركة التي تميزها، لكن يبدو وكأنّ هذه الأمور قد امحت إلا من صادق والعرافة والبيت والبحر والأسماك، وبعض المواقع الرمزية التي تتلاءم مع أجواء الرواية بشكل عام. يسير في إثر وصية العرافة التي أشارت إلى البحر، فيرى هناك مشاهد مثيرة؛ أشلاء أسماك صغيرة متعفنة على امتداد الشاطئ. تتحرك الأمور وفق منطق الحكاية، فجأة “شعر بكف تحط على كتفه. التفت إلى صاحب الكف. كان كبير الصيادين” (ص61) الذي يحدثه دون لف أو دوران عمن “كانوا يلقبونها بطائر الحظ” وقد عثروا عليها قرب الشاطئ قبل سبعة أيام، بعد أن “قذفها البحر كشجرة جفّت أغصانها وذبلت أوراقها، وقذف معها العشرات من الأسماك التي استغلت تيهها في البحر فاجتمعت حول جسدها المنهك باحثة فيه عن القوت” (ص62)، كما يخبره أنها لا تزال على قيد الحياة برعاية أمه، وأنّ الصيادين يؤمنون أنها كانت السبب في صيدهم الوفير، لكنّ الأمر قد اختلف الآن إذ توقف الصيد وشحّ وجود السمك إثر قذف البحر “طائر الحظ” على الشاطئ.
يروي له كبير الصيادين حكاية هذه الأنثى الحافلة بالغرابة والسريّة، التي ولدت الكثير من الأقاويل عن جمالها الفتان، الذي جعل زوجات الصيادين يبغضنها لأن رجالهن افتتنوا بها، وعن تبدل لون البحر، وعن الشمس التي ضلت طريقها، وعدم توقف نعيق الغربان، وعن الحياة المترنحة في أروقة الجحيم لا تعيش ولا تموت. (انطر تفاصيل الحكاية/ الخرافة: ص62-63)
إنّ حكاية الصياد عن هذه المرأة الفيروزية العينين تترك القارئ أمام أكثر من احتمال تأويلي: من تكون هذه المرأة التي أطلق عليها الصيادون “طائر الحظ”؟ وهل “فيروزية العينين” هذه هي مليكة؟ كيف وصلت إلى هنا؟ كيف عاشت؟ وأين؟ ولماذا يتعامل معها أهل البلدة بهذا الأسلوب؟ وما العلاقة بين ما حلّ بها من ويلات وبين عودة شباك الصيادين فارغة؟
إنها شخصية تحيطها هالة من الغموض وعدم الوضوح، وكأنها مخلوق فيه جوانب غير مألوفة للبشر العاديين. أثارت حكايةُ البحار صادقا وأقلقته جدا، خاصة حين صرّح كبير الصيادين بأن والدته تعتقد أنّ ما أبقاها على قيد الحياة هو العشق. تمنّى صادق في أعماقه ألّا يكون “طائر الحظ” مليكته التي تناوشت جسدَها أسماكُ البحر. لاحقها ليتأكد من هويتها، فقد أخذتها والدة كبير الصيادين وحاولت مساعدتها وتقديم العلاج. لم ير في الجسد الممدّد أمامه وشمَ بدرٍ ساطع انفرد به عنقُ مليكة، ولا لون كحلة الليل في بقايا الشعر المتآكل. ولاحظ أن الجسد أطول من جسد مليكة.
يقف القارئ هنا أكثر قربا إلى مليكة من قرب صادق إليها؛ إذ يجد الكثير من نقاط الشبه، بينما يرى صادق نقاط الخلاف بين مليكة و”طائر الحظ”. فأين تكمن الحقيقة ومن سيعرفها قبل الآخر؟ هل هو القارئ، أم صادق؟
يفرّ صادق من المكان مرعوبا، يتعثر مرارا ويفقد تركيزه ووعيه، “زفر، زأر، ترنح، فقد اتزانه وهوى أرضا”. (ص65) تابع وحيدا هائما على وجهه، لا يراه أحد ولا يشاركه همه أحدٌ، يسمع أصواتا وابتهالات ويرى مشاهد أقرب إلى الحلم والهلوسة. ويقرر وسط هذه الرؤى متابعة البحث عن مليكة التي تحولت إلى عدة حكايات خرافية من خلق الفانتازيا والأسطورة والخيال تُروى في مناطق مختلفة، بصور مغايرة.
ما مدى علاقة الهلوسة بالواقع؟ سؤال ليس بحاجة إلى مختصين نفسيين للإجابة عليه، لأنها حالة تعتري الإنسان في كثير من الحالات حين تسيطر العاطفة على العقل. ولهذا كانت الفانتازيا تقنيّة تُوظّف في الرواية الحديثة لكشف النفس البشرية، وما يعتريها من أفكار مستورة. فالحياة، في تعقيداتها وتأثير ذلك على نفس الإنسان، باتت جزءا من واقعه. أصبحت الفانتازيا أسلوبا يعبّر الكاتب بواسطتها عن ذاته، بطريقة ملتوية ورمزيّة، تفسح باب التأويل على أكثر من اتجاه بعيدا عن الواقعية المألوفة.
تتعدد الحكايات حول مليكة، فحكاية الشرق، ليست نفسها في الغرب، يسمعها الكبير كما يسمعها الصغير. باتت، إذن، حكاية تنتقّل من جيل إلى آخر. هذه الحكايات، التي تعتريها الخرافة والخيال المحلق، شبيهة بأية حكاية قد تحدث في أي مجتمع؛ تبدأ بصورة ما ثم تتحول لتصبح حكاية ثانية وثالثة وعاشرة. فهل هذا هو واقعنا؟ وهل الخلق والإبداع والتحوير والتبديل جزء من حياتنا اليومية؟ هل هذه الحكايات الفانتازيّة هي حكاية حياتنا اليومية؟

ابن، أب وأنثى
تتبعثر ملامح الشخصية الرئيسية على صفحات الرواية، تتكشف أمور وتبقى أخرى طيّ الكتمان حتى تبرز الصورة وتتضح أكثر، بشكل تراكميّ، مع مرور الأحداث. يلتقي القارئ ب”صادق”، الشخصية المركزية، منذ الصفحة الأولى، ومنذ السطر الأول، وهو في حالة هلوسة، وقد تعتعه السكر بعد أن “أفرغ في جوفه عددا من الأقداح”، يتحدث إلى امرأة لا يراها، أو تتحدث هي إليه دون أن يراها: “ليس باستطاعة أحد سواكَ أن يحفظ أثري بعد ذهابي”. (ص11) يمتد الحوار لنكتشف بعض أسراره، منها؛ أن اسمه “صادق” وأنه قد “مر زمن طويل لم يأت فيه اسمي على لسان أحد. فقد دعوني بالصبي، الولد، الغريب، بُنيّ…لكن أحدا لم يدعني باسمي سوى جدتي وجميلة…. قال وتمتم في سره: من أين لكِ أن تعلمي إذا كنت أنا نفسي لا أعرف الطريق!”. (ص12)
تتضح ملامح أخرى، مع امتداد الحوار، فيبدو غيرَ واثق بذاته يعاني من العزلة، وينتمي إلى اللامرئيين وإلى العدم والفراغ، كما صرح هو بذلك. يعود إلى شريط طفولته لتتكشف لنا أمور أخرى صعبة؛ أهمها أنه كان معزولا في طفولته من الجميع، دون استثناء، فاختار أن ينام في زاوية الغرفة. (ص13-14)
إن صوت هذه المرأة غير المرئية هو الصوت الأقوى في الرواية، يتغلغل في حناياه، يحرك مكامن الروح والجسد. صوت لا يهادن ولا يساوم، يلقي بالتهم دون هوادة، وكأنّ “صادق” هو مجموع رجال العالم يحمل “وزر” خطاياهم أينما كانوا في كل مكان وزمان، ويصبح صوتها لا مجرد صوت مفرد، بل هو صوت النساء جمعاء منذ خلقن حتى اليوم يتعرضن لضيم الرجال على اختلاف مقاماتهم ومكانتهم وصنائعهم ومهنهم، سواء كان الواحد منهم بائع علكة أو كاهن معبد، وسواء كان بائعا جوالا أو واعظا: “مر أمامي ذكور كثر، جئت إلى هذه الدنيا من فعل ذكر، تزوجت ذكرا، أنجبت ذكورا. صادفت أصنافهم في كل موطئ قدم، في الحي، في المدرسة، في المعابد، في المتاحف والصالات، في الحوانيت وحيث الباعة الجوالون، في المشافي وحتى في دور الرعاية.
لم يكن حال الكهنة والمتنسكين أفضل حالا من بائعي العلكة وقطن السكر. لم يختلف شيء بين رواد الصالات عن رواد الحانات. كلهم سواسية”. (ص،18)
الرجال كلّهم في قفص الاتهام، و”صادق” يقف أمامها وحيدا عاريا من أي سلاح ومن أي حجة. يتمكن هذا الصوت من التغلغل إلى أعماقه ليؤجّج نار الذكريات، وليشعل فتائل من نار، لا فتيلا واحدا، بل يشعل نيران الوجع المستديم. فهو ضحية قبل أن يكون في قفص اتهام أحد، تعرض للتحرشات من رجال أكبر منه حين كان طفلا، يعاني ألما نفسيا مكبوتا، فيغور أكثر وأكثر في الأعماق من نقطة الصفر؛ من البيت ومن الوالد. تذكّر جميلة أول حب وقع فيه، وكانت قد لجأت إلى بيتهم وهي بعد طفلة صغيرة، حين أتت النيران على بيت العائلة، دخل والدها لإنقاذها فاحترق ومات ثم لحقته الأم حزنا. جميلة طفلة بدوية تكبر وسط العائلة، تقع في حب “صادق” لكنه لا يجرؤ على مبادلتها الود بالود رغم أنه متيّم بها، كما كانت هي متيمة به، خوفا من سخط والده الذي لاحقها وحاول النيل منها عنوة حين يخلد الجميع إلى النوم، لكنّ “صادق” ينقذها من الوقوع في براثن والده. (ص20)
إن علاقة “صادق” بوالده هي النقطة الأصعب التي عانى منها منذ الطفولة حتى آخر يوم في حياته، وهي مصدر أوجاعه وآلامه النفسية. كل تجاربه مع الوالد كانت صعبة ومؤلمة تمتزج صورته بالدم وبالاعتداء على النساء، فقد كان اعتداؤه الأول على جميلة، أما جريمته الثانية فكانت قتل الوالدة حين كان في العاشرة من عمره، حيث عاد الوالد إلى البيت تفوح منه رائحة السكر، يترنح يسارا ويمينا، يشتم الوالدة بأرذل الكلام، ثم يقترف جريمته الكبرى بقتلها. لطّخت دماؤها الحائط والأرض “بعد تلك الليلة لم ير والدته ولم يجرؤ أن يسأل عنها أحدا”. (ص22)
يبذل الأب قصارى جهده ليذوّت مفاهيم “الرجولة” في فكر ابنه وقد عبر مرحلة الطفولة وبات فتى يافعا؛ المرأة ملْك للرجل منذ أن يدفع ثمنها لوكيلها، له الحق أن يفعل بها ما يشاء ساعة يشاء. والرجل الذي يلد بنات هو ناقص للرجولة والفحولة، كما هو حال جده والد أمه، على حد قوله، لكن هذا الوعظ لا يجد له مكانا في وِجدان الابن الرافض لكل ما بدر ويبدر من أفعال والده وأفكاره، خاصة وأن هناك جريمة دنيئة أخرى تطفو على السطح لترافقه حتى آخر يوم من حياته. كانت ضحيتها، هذه المرة، “مليكة” التي تبناها جدُّه والد أمه، وعاملها كما يعامل الأب ابنته التي من لحمه ودمه. يموت الجد ويأخذ الأب في التردد على بيت الجدة الحزينة كي ينال من “مليكة” التي آثرت البقاء مع الجدة تؤنسها في وحدتها. في إحدى زياراته الكاذبة “احتجز جسدها الرقيق في زاوية ضيقة. لم تثنه تضرعاتها ولم يرأف لبكائها. لم يمنعه دخول ابنه من الاستمرار في فعلته، فما كان من الأخير (صادق) إلا أن أطاح رأسه بمدقة خشبية ضخمة”. (ص26)
يفشل صادق في الحفاظ على النساء اللواتي أحبهن؛ خسر أمه ورأى دماءها تلطخ الجدران، وتحفّظت العائلة على السر.، هربت جميلة من البيت، “بحثوا عنها أياما ولم يعثروا عليها، حتى وصل نذير شؤم يخبر أنه عُثر على جثة أنثى متفحّمة بين أنقاض البيت الذي شهد ضياع عائلتها”. (ص33) أما “مليكة” التي عرفها ووقع في عشقها، في فترة لاحقة، فقد هجرته هي الأخرى وتسللت مع بزوغ خيوط الفجر واختفت بعد ثلاثة أيام من قضاء ليلة عشق مميزة في فراشه عله، على حد قولها: “يكمل طريقه بعد رحيلي”. (ص32)
يستسلم “صادق” لليأس والأسى ولزجاجات الكحول وللنوم والصحو، بعد أن فقد الثقة بكل ما يحيط به من بشر. يعيش محبطا مع ذاكرة تستعيد مرارا وتكرارا قصص فشله في الحفاظ على النساء اللواتي أحبهن وأحببنه، قصة “فشل” تتلو الأخرى، حتى رأى قطة تعارك قططا برية تحاول الاعتداء على صغارها فلا تستسلم، يأخذ زجاجة الخمر الفارغة ويلقيها باتجاه القطط البرية ليساعد القطة الأم وكأنه ينقذ “جميلة” من النيران، تهرب القطط البرية ويشعر بالنصر، ويقرر العودة إلى البلدة.
يبدأ عملية البحث عن “مليكة” رغم أنه لم يلتق بها ثلاثة عقود ونيفا. يعود إلى البلدة ويحصل من العرافة على وصية جدته، أم والدته، التي تركت له البيت ليعيش فيه. يبدأ مرحلة جديدة في حياته يبحث دون كلل ويلتقي بأناس يستمع منهم عن حكايات خرافية تدور حول “مليكة” واختفائها. يتابع البحث كمن يركض وراء سراب، ما أن يُفتح باب جديد حتى تُغلق أبواب أخرى. ويفاجأ القارئ في الصفحة الأخيرة من الرواية بالطفلة “غالية” تغلق عينيه بعد أن وجدت جسده باردا دون حياة.
لا تتضح معالم الشخصية ولا مكوناتها المعهودة، بل هي شخصية أقرب إلى الخرافة والخيال منها إلى الواقع، فتبدو أنها لا تنتمي إلى مجتمع حقيقيّ ولا يشعر القارئ أن “صادق” جزء من مجتمع له مكوناته المعهودة فتبقى مواصفات هذا المجتمع هلامية. يتعرف القارئ على الجانب الذي يتعلق بمليكة وقصصها المغايرة المختلفة لا أكثر، لأنّ همّ الروائية والرواية ينصبّ على إبراز الفكرة بطرق وأساليب غير تقليدية، فالفانتازيا تتيح المجال للرمزية والإشارة السريعة.
دأبت كثير من الروايات النسوية والداعمة للأنثى على تصوير المرأة بصورة نمطية. فهناك المرأة الأم التقليدية التي تهتم بتربية أولادها ورعايتهم، رغم الظروف القاسية التي تمرّ بها، وهناك الزوجة المخلصة لزوجها، مهما واجهت من مشاكل ومن عراقيل، وهناك المحاربة التي تحمي المقاتلين والأطفال، وهناك المرأة القوية التي تتحدى المجتمع ومفاهيمه القامعة للأنثى. هذه الصور ومثيلاتها لم تتقيد بها رواية “وزر النوايا”، رغم أنّ هناك ثلاث نساء يلعبن دورا هاما في حياة “صادق”، يتعرضن جميعهن للضيم والقهر والظلم. لم تقم الروائية بتفصيل أحوالهن، كما هو معتاد عليه في الرواية النسوية، فكان الأهم بالنسبة للروائية هو توظيف أدوارهن ومواقعهن. ورغم دور الأم القصير من حيث حيز النص الكمي إلا أنّ قتْلَها من قبل زوجها كان مؤثرا جدا على الابن وعلى نمو شخصيته، دون تخصيص مساحة واسعة من صفحات الرواية. يعيش القارئ وجع النساء الثلاث وألمَهن من خلال شخصية “صادق” وألمه ووجعه مما ألمّ بهنّ.
إن شخصية “صادق” مركبة ومعقدة وليست شخصية نمطية لرجل ينظر إلى المرأة جسدا دون روح، لقد وقف، منذ طفولته، إلى جانب الأنثى بقواه المحدودة، حاول إنقاذ “جميلة” الضحية الأولى، إذ كان يلجأ إلى إيقاظ جدته بحجج كثيرة كي يعود الأب إلى فراشه فلا تصل يده إليها، لكنّ قواه المحدودة لم تمكّنه من إنقاذها نهائيا، كما لم تمكّنه من إنقاذ والدته. وعندما قام بإنقاذ الضحية الثالثة، “مليكة”، اضطر أن يَقتل والده. يكبر ناقما على ذاته وعلى والده. إنّ قتله والده ليس مجرد حدث عابر، بل هو خطوة أولى غير مكتملة نحو التحرر؛ فقتل الجسد لم يقتل الفكر المتخلّف ولم يقض عليه. وظل الابن يعاني ألما نفسيا حارقا لا يستطيع منه فكاكا، وكان الأب المعتدي على النساء هو السبب فيما آلت إليه أحوال الابن.

سرد روائي وملامح درامية
تتداخل عناصر السرد الروائي بعناصر الدراما في الرواية الدرامية، ويكاد الحوار يعادل السرد في الكم والدور، ويختفي السارد العليم ليحل بدله سارد حيادي. أما في رواية “وزر النوايا” فإن عنصر السرد أكثر غلبة كما ونوعا إلا في افتتاحية الرواية، فيما أن السارد الرئيسي في الرواية عليم بكل شيء. ومع ذلك فإنا نرى أن الرواية تأخذ من المسرحية بعض تقنياتها وعناصرها. فالسارد الرئيسي العليم والمسيطر قد ترك الباب مفتوحا على مصراعيه لساردين آخرين ولأصوات أخرى في أكثر من موقع بشكل يكاد يشبه الحوار، من حيث أن الحوار يتيح المجال لتعدد الأصوات بشكل سريع، وهذا ما لاحظناه في أكثر من موقع، ولنا على ذلك عدة أمثلة منها المشهد التالي الذي يصور عودة صوت الفتاة غير المرئية التي يحاورها وتحاوره دون أن يراها أو تراه:
“مع حلول الظلام، وقبل أن يقضي على الزجاجة الأولى، عادت.
لم يلتفت إليها، وتظاهر بالانغماس في عمله.
كان في سره ينتظر عودتها. […] “عذب صوتها، عذبة رائحتها، رقيقة قسوتها، ودود عنادها، عميقة جذور خيباتي”، قال في سره.
أدركتْ أن لها في روحه مكانا. أدركت أنه ينتظرها، يصغي إلى كلماتها، ينتظر بوحها. تابعت: “شممت رائحته في ملح البحر…”. (ص16-17)
من الواضح أن هناك ساردا عليما مسيطرا على تحرك الأحداث والهواجس والأفكار، لكن هذا السارد، من ناحية أخرى، لم يغلق الباب في وجه الأصوات الأخرى، فكان واضحا للمتلقي أن هناك صوتين يكمل أحدهما الآخر، وهما يتناوبان في كشف أسرار الشخصية المركزية من “زاوية رؤية” أخرى. بل هناك ما يشبه الملقّن الذي يتخفى وراء الستارة أو تحت خشبة المسرح لا يراه المتلقي لا في المسرح ولا في “وزر النوايا”، بل يسمع صوته كما في النص أعلاه وفي مواقع أخرى عديدة.
من شأن الحوار أن يكشف خبايا النفوس وأن يوحي بما كان وما سيكون، وقد برز هذا الأمر في الانتقال من سارد لآخر، وكأن السارد العليم يتخفّى، بشكل مقصود، ليتيح للسارد الآخر وللصوت الآخر أن يكشف أمورا يبدو وكأنه يجهلها، وبالتالي يبدو الراوي حياديا غير منحاز، وهي لعبة فنية تحسن الكاتبة استعمالها وتوظيفها، فتركت الأمور تتكشّف بشكل تدريجي من خلال مشاهد متعددة مختلفة ومغايرة، أو متقاربة في الهدف مغايرة في الموقع والمكان والزمان. فتعمل كثرة المشاهد وتنوعها معا على تعريف القارئ على الشخصية بشكل تدريجي.
لذلك لا نستطيع أن نقول إن كتاب “وزر النوايا” هو مسراوية، بل رواية تستعير بعض تقنيات المسرحية، فتقف عند تخوم المسراوية ولا تغوص فيها. ومن اللافت أن كثرة توصيفات الراوي الرئيسي والرواة الآخرين تشبه التعليقات التي يلجأ إليها المسرحيون في كتابة “مقدمات” فصول المسرحية، إذ هناك تعليمات يلجأ إليها كاتب المسرحية لتوضيح ما يرمي إليه قبل الدخول في الحوار.
يلاحظ المتلقي أن الروائية تولي عناية خاصة برسم الفضاءات، بما يشبه الديكور في المسرح. لا نقصد بذلك ما أشار إليه بعض المنظرين حول الفضاء، إذ قالوا إن الفضاء في الرواية أشبه بالديكور في المسرح. إنه هنا تنضيد لكل قطعة مهما كانت أهميتها ومهما كان دورها لتأخذ مكانها في الحيز العام، حتى لأخال أنّ الكاتبة مهندسة ديكور. (انظر: ص48-51)
تبدأ الرواية بعرض مشهد للشخصية الرئيسية بطريقة أكثر صلة بالعرض المسرحي منه بالعرض الروائي، وكأنّ الكاتبة ترسم صورة للديكور وللممثل قبل بداية المشهد الحواريّ، ومن عادة المؤلف المسرحيّ كتابة تعليمات وتوجيهات للمخرج والممثل ولكل عامل في المسرح، ثم يأتي المخرج ليطبق هذه التعليمات. يتلو ذلك سرد للحوار بين الشخوص. وهو هنا حوار يدور بين شخصين لا يزالان مجهولين للمتلقي، تتكشّف بعض ملامحهما ويطّلع عليهما القارئ من خلال الحوار الذي يعتريه الكثير من الغموض، لأنه يجمع بين الهلوسة والخيال وقليل من الواقع. وقد يبدو لنا هذا الجزء من الرواية أشبه بحلم أو رؤيا، يفسران كلاهما أمورا تمور في العقل الباطن، فتتكشّف أشياء للقارئ تُعرّفه أكثر على الشخصية وعلى ما سيكون لاحقا من أحداث ومن تصرفات.
إن تكثيف تصوير شكل الشخصيات الخارجية وعلاقة ذلك بما تمر به الشخصية من حالات نفسية أشبه بحركة الممثل وهو يقف على خشبة المسرح، إذ يعمل الممثل الناجح على تفعيل أكثر ما يمكن من خلايا الوجه لتعكس ما يدور في الداخل مقرونا بحركات وتأوّد كل مفاصل الجسد وتثنّياتها: “لم يلحظ كيف وجدت الريشة طريقها ثانية إلى قبضة يده، حين انتبه إليها ارتبك وألقى بها بعيدا. أغلق أذنيه بكلتا يديه وتوسل إلى الصوت أن يغادر، وأن يعيد إليه عزلته”. (ص 14)
لقد ظننت للوهلة الأولى وأنا أقرأ الصفحات الأولى من كتاب “وزر النوايا” أن المؤلفة لم تكن دقيقة حين كتبت على غلاف الكتاب “رواية”، إذ غلبت العناصر المسرحية على العناصر الروائية في هذه الصفحات. فالتركيز على الملامح الخارجية، وعلى صورة الجسد في تكوّره وحركاته أشبه بتصوير أداء ممثل محترف على خشبة المسرح. أما غلبة الحوار على السرد فتبوح بغلبة المسرحية على الرواية. لكن بعد متابعة القراءة وجدت أنّ السرد القصصي يغلب على العرض المسرحي فيما تبقى من النص، دون انعدام بعض عناصر المسرحية في مشاهد كثيرة أخرى. وتتّضح أكثر روح الرواية ومعالمها، من خلال تنامي الحدث واتضاح معالم الشخصية التدريجية.
يتنقل القارئ بين مشاهد شتى ترتبط ببعضها بخيوط خفيّة على المتلقي أن يشدها إلى بعضها البعض. فأكثر ما يجمعها هو الشخصية المركزية التي تمر في حالات غريبة معظمها صعبة، فيها الكثير من الهلوسات والضبابية والتأويلات التي تجمع بين المتلقي من ناحية وبين ما يشيعه الناس من أقاويل حول الشخصية المركزية وحبيبته “مليكة”.
تكثر الكاتبة من رسم صور أقرب إلى المسرحة منها إلى السرد الروائي، ولنا على ذلك عدة أمثلة منها تنضيد حاجيات البيت ليصبح لائقا باستقبال الحبيبة. يجهز البطل ابن الأربعين لحبيبته كل ما يحتاجانه حين يجتمع بها، دون أن ينسى أي غرض منها، فيكاد القارئ يرى المشهد كاملا متكاملا فتنبعث رائحة العطر والحناء، وتنتشر موسيقى التانغو في أرجاء البيت: “حمل الثوب الأصفر بين ذراعيه وراقصه على أنغام التانغو. عبقت من الثوب رائحة الياسمين. أغمض عينيه ورشف الرائحة إلى رئتيه. داعب خصلات شعرها. لثم عنقها وشفتيها. شعر بدغدغة في أطرافه. ضمها، اعتصرها…”. (ص58)
المشهد أعلاه ينمّ عن شخصية حساسة تمرّ في أزمة نفسية حادة، خسرت كل ما يربطها بالحياة، فلم يبق إلا بعض الذكريات، وبعض مخلفات الحبيبة، وما يذكّرها بها. لم يتمكن “صادق” من العثور على الحبيبة فأقام سهرة غرامية مع ثوبها. تتداخل عناصر المسرح بعناصر الرواية، وتنحو الرواية أكثر باتجاه رواية الفانتازيا، وما توظيف التقنيات المسرحية إلا لكشف المستور من الأفكار، وإتاحة الفرصة لأكثر من صوت، وأكثر من زاوية رؤية.

فضاء مغاير
لقد استوحى عدد كبير من الروائيين والأدباء الفلسطينيين مواضيع كتاباتهم من تجاربهم الذاتية ومن التجارب الجمعيّة التي مر بها الشعب الفلسطينيّ، نرى في كتاباتهم صورة واضحة لمعالم الفضاء الفلسطيني بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. فمعظم الروايات تدور أحداثها في قرية عربية، أو مدينة عربية تمر في وضع سياسي واجتماعي عصيب، فتكتمل صورة البطل وصورة الشخصيات من خلال التركيز على عنصري المكان والزمان. تنضج صورة المكان في ظل زمن الأحداث وتتطور الشخصيات الروائية ضمن هذين العنصرين، تكتمل صورة الشخصية وصورة البيئة ليكمل أحدهما الآخر.
نحن هنا إزاء رواية لا ترتبط بالأمكنة المألوفة في الرواية الفلسطينية ولا تؤطر بحدث تاريخي أو بزمن وبيئة كان لهما تأثير على مجرى حياة الفلسطيني. نحت “وزر النوايا” باتجاه التيار النفسي الباطني للشخصية التي تعاني من أزمات نفسية نتيجة تجارب صعبة ومؤلمة عاشها في طفولته. كبَر في ظلها وعانى بسببها ألما حارقا ممضّا، فانتابته وساوس وأحلام وهلوسات رافقته فترة طويلة من عمره. فهل هذا يعني أن فضاء رواية “وزر النوايا” هو فضاء هلامي فضفاض غير محدد؟
إن البلدة التي عاد إليها صادق ليست كباقي البلدان المعهودة التي نعرفها على أرض الواقع، أو في معظم الروايات الفلسطينية، وإن كان فيها جزء قريب من مواصفات البلدة العادية، لكنّنا لا نحس أنّ ناسها مألوفون علينا، ولا حكاياتها جزء من تراثنا أو من رصيدنا المعرفي. تكثر في القرية الأقاويل والتأويلات عن حكايات خرافية أو شبه خرافية، ولا تتحدّد معالم البلدة المعهودة كما في الأدب الفلسطيني، لكن الروائية أضفت على بعض زوايا البلدة ملامح شرقية بارزة أقرب إلى أجواء ألف ليلة وليلة رغم تسرب بعض ملامح الفضاء الفلسطيني.
لا نعثر في النص على موقع البلدة محددا على خارطة جغرافية ولا على زمن بعينه، لكنّا نرى معالم الأمكنة التي تدور فيها الأحداث، فهناك بلدة وبيوت مؤثثة بأغراضها بدقة متناهية، تجعل الوصف أقرب إلى الرسم المفصّل لكل بقعة، مهما كانت صغيرة، ونرى أن كلّ غرض قد نُضِّد بإحكام. ونجد بحرا لا نستطيع أن نربطه بالبلدة لنعلن أن البلدة التي تدور فيها الأحداث تقع على شاطئ البحر، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن فضاء قريةٍ، أو مدينةٍ جبلية أو سهلية أو بحرية.
لقد أولت الروائية عناية كبرى لتأثيث الأمكنة كي يكون لكل غرض دلالته، ولذلك لا يمكن للقارئ أن يمرّ مرّ الكرام حين يقرأ تصويرا لموقع ما، فكل غرض يوضع في موقعه بعناية تامة، بحيث تشعر أن الكاتبة رسامة ماهرة أو نحاتة ماهرة تضع كل غرض في موقعه ليتلاءم مع هوية الشخصية.
ورغم أن بعض التوصيفات المكانية تأخذ من طبيعة بلادنا إلا أن التركيز على تصوير المكان كان يتقيّد بحالة البطل النفسية، وكانت صورة المكان انعكاسا للأزمات النفسية أو انفراجها. ففي بعضها كان المكان أشبه بفضاء غير مؤطر بحدود زمكانية تشير إلى بقعة معينة، وأحيانا هناك مواقع مغلقة وأخرى مفتوحة تتناغم مع حالة الشخصية النفسية. نختتم هنا قائلين بوضوح: ليس المهم في هذه الرواية تحديد الموقع الجغرافي بقدر اهتمام النص بتأثيث الأمكنة بما يتلاءم مع أجواء الرواية، ومع وضعيات الشخصيات.

خلاصة
رغم أن “وزر النوايا” هي رواية نسرين طبري الأولى إلا أنها اختارت السير في الطريق الأصعب من حيث الموضوع والأسلوب، آثرت أن تطرح موضوعا اجتماعيا حارقا يأتي على الأخضر واليابس، وكأنها تعلن أنّ معالجة الفكر المتزمت ورفع مكانة المرأة يجب أن يسبق المواضيع السياسية الحارقة الأخرى، وأن تحقيق تلك الأمنيات لا يتأتّى إلا إذا تحرر فكرنا من مخلفات الماضي، ومن أفكار تنخر في العقول. ترى الكاتبة أنّ تحرير المرأة واتساع رقعة الثورة النسائية تحتاج إلى الرجل كي تكتمل الصورة. إذ لا يكفي أن يتحرر فكر المرأة دون أن يتحرر فكر الرجل. فقامت بمعالجة الواقع الاجتماعي وما يتعلق بصورة المرأة والغبن اللاحق بها، كموضوع واقعيّ حقيقيّ يعيشه المجتمع يوميا وأدمن عليه بشكل لا يصدق فقبله وتعايش معه كما يتعايش مع الفانتازيا.
إن الفانتازيا وسيلة تُوظّف في الرواية الحديثة لمعالجة الواقع، وهي تقنيّة تفسح المجال للدخول في الخفايا، حيث لا يستطيع الكلام المباشر أن يصل، وحيث لا تستطيع الرواية التي تتبع الأساليب التقليدية أن تصل هي الأخرى.
لم تختر الكاتبة الأسلوب التقليديّ المألوف، وكأنها تؤمن أن عهد رواية التسلية والترفيه قد ولى زمنها، واختارت الرواية المنهِكة للقارئ الذي يجب أن يتحلى بالصبر والرويّة لاستقراء ما لا نراه من القراءة الأولى. فالشخصيات ليست صورة قابلة للانعكاس على المرآة العادية، إذ قد تكون هذه المرآة مقعرة أو محدّبة.
لا نستطيع أن نتحدث عن رواية اتّبعت تقنيّة تعدد الأصوات وتعدد اللغات، ولكن الرواية أتاحت، رغم سيطرة الراوي العليم، لأكثر من صوت أن يبرز وأن يعبّر عن ذاته بحرية تامة. ورغم أن الرواية تحمل صوت الروائية، إلا أنها أتاحت للراوي أن يستقلّ عنها، أو لنقل، بلغة التاريخ: إن هناك شبه استقلال عن الروائية. وعليه نرى أن رواية “وزر النوايا” ليست رواية تقليدية من نواح عدة، ولكنها لم تذهب نحو الفانتازيا بكامل عدتها، بل استعارت الكثير من تقنياتها، ولم تغرق في الخرافة حد البتر عن الواقع.
كادت الرواية أن توظف كامل تقنيّات تعدد الأصوات. وكان هناك إمكانية لاتباع تعدد اللغات، لولا اقتحام الروائية لبعض المواقع أهمها وأكثرها بروزا رسالة الجدة لزوجها، فهي لغة شاعرية، لا تحمل ختم الجدة حتى لو صاغتها في شبابها، فالقارئ لم يلمس هذه القدرة الفكرية المنفتحة عند الجدة، ولم تزوده الرواية بهذه المعلومات فجاء نص الرسالة (ص29-31) طويلا نسبة لحجم الرواية (111 صفحة) ولا يحمل ختم قائلته وهويتها، بل هو صوت الكاتبة بامتياز. يتكرر هذا الأمر في موقع آخر، في حوار يدور بين “صادق” وطفل في الخامسة من عمره، يكون فيه مستوى الحوار أعلى من مستوى الطفل. كان لمثل هذا اللقاء أن يُوظّف بطريقة أخرى يضفي على الأحداث روحا ديناميكية ويفتح باب التأويل على مصراعيه. (ص43-45)
من المهم التأكيد، بوضوح تام، أنّ “وزر النوايا” هي رواية نفسية بامتياز، تدور أحداثها في داخل النفس البشرية، وتنعكس همومها الداخلية على صورة الشخصيات الخارجية وعلى تصرفاتها، وكان هناك انسجام تام بين الداخل والخارج. يتيح هذا النوع من الكتابة للتنقّل بين الأزمنة بحرية مطلقة، ولذلك بدأت الأحداث من الحاضر، ثم عادت نحو الماضي، وتوقّفت عند محطات هامة من عمر الشخصية المركزية، فتعرّفنا على تاريخها وعلى وجعها وألمها الداخلي وعلى مشاعرها في مواقع عدة. هذا الأسلوب يتيح، بسهولة، للفلاش باك والذكريات والأحلام على أنواعها، وللهلوسة أن تأخذ دورها كاملا. من هنا نؤكد أن مثل هذه الروايات النفسية تدور معظم أحداثها في الماضي. هذه ميزة رواية تيار الوعي، مع أنّ “وزر النوايا” ليست تابعة لهذا التيار، رغم توظيفها هذه التقنيات، فلم تتح للوعي أن يجري على سجيته، فتوقفت عند تخوم هذا النوع الروائي.
وظّفت الروائية أكثر من تقنيّة فتداخلت ببعضها فخرجت “وزر النوايا” رواية نفسية تعالج الألم الذي يخترق الذات ويدخل في الأعماق. “وزر النوايا” هي ألم الكاتبة ذاتها من أمراض المجتمع المستعصية التي لم تجد لها حلا بعد، فكانت الفانتازيا واحدة من الوسائل التي تتيح للكاتبة وللمتلقي أن يواجها الواقع مكشوفا عاريا كما هو على حقيقته؛ واقع مؤلم موجع وجارح.
حافظت الرواية على دراما الأحداث وعلى شد القارئ في معظم الفصول، ووصلت إلى درجة من النمو واكتمال البنية الفنية لها، لكنها في صفحاتها الأخيرة بدأت تتراخى بعض الشيء، وضعف الخيط الذي يمسك بتلابيب القارئ، فكان المشهد الأخير باهتا وأقل ألقا من المشاهد الأخرى، حتى وإن كانت الفانتازيا هي التقنية الغالبة في هذه الصفحات، إلا أنّ ذلك لا يتيح للحبكة أن تفقد الخيط الذي يربط الأحداث. فكل رواية تخلق منطقها الذي يتلقّفه القارئ، ولذلك كان موت الشخصية المركزية مبتورا عما سبقه وباهتا نوعا ما.
نسرين طبري صوت روائي نسوي واعد، نعتبر روايتها ليست إضافة كمية إلى مجمل الروايات الفلسطينية، بل هي إضافة نوعية راقية. لم تلتزم فيها بالمواضيع التقليدية المطروحة، ولم تتقيد بزمكانية مألوفة. ولذلك لا تطرح في روايتها الموضوع الفلسطيني من باب الحوار مع الآخر، ولا تطرح قضية محلية صرف، بل هي صرخة في صميم الأذن العربية حيثما تواجدت اليوم من المحيط إلى الخليج. “وزر النوايا” رواية تعالج الواقع الأليم الذي تواجهه المرأة العربية حيثما تواجدت.
نؤكد أن الرواية تستحق أن تخصص لها دراسة منفردة حول موضوعين لافتين هامين، أولهما لغة الرواية، وبالأحرى شاعرية اللغة التي تمكنت من اختراق نفوس الشخصيات من ناحية، وتشخيص المواقع والأمكنة، والتجاوب مع الغرائبية والفانتازيا، أما الموضوع الثاني فهو موضوع الجنس الذي أولته عناية خاصة فبرز في الكثير من الفصول. قصدنا القول إن الرواية غنية ويمكن للقارئ المتمرس أن يعالجها من زوايا مختلفة.
د. رياض كامل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة