شهر رمضان …فلسفة الثلاثين يوما

تاريخ النشر: 06/05/19 | 14:57

يحل علينا شهرمن أفضل الشهور عند الله أنه الشهر الذي أودع الله فيه عبق النسمات الروحانية التي تفوح بالخير وتشع نورا وبهاءا ، نسمات شهر الصيام والقيام و الرحمة والغفران حيث مضاعفة الحسنات ورفع الدرجات والعتق من النار. أنه شهر فيه ليلة اختصها الله بالتكريم وجعلها خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم الخير كله قال تعالي 🙁 إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
أنه رمضان شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وأخره عتق من النار قال تعالي : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
اﻟﺼﻴﺎم ﻓﻲ اﻟﻠﻐﺔ: ﻫﻮ اﻹﻣﺴﺎك ﻋﻦ الشيء أما اﻟﺼﻮم ﻓﻲ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ اصطلاحا :فهو اﻻﻣﺘﻨﺎع ﻋﻦ اﻟﻄﻌﺎم واﻟﺸﺮاب وﺳﺎﺋﺮ اﻟﻤﻔﻄرات ﻣﻦ ﻃﻠﻮع اﻟﻔﺠﺮ إﻟﻰ ﻏﺮوب اﻟﺸﻤﺲِ و لم يكن الصيام بدعا في التشريع الأسلامي فالصيام من أقدم الشعائر التي عرفتها الحضارات الانسانية السابقة علي الاسلام والاديان السماوية فعند البدائيين الذين تناقلت نقوشهم الخوف من الظواهر الطبيعية فقد كانت حادثة الطوفان حاضرة بشدة في هذه الحضارات وقد تناقلتها تسجيلاتهم وان اختلفت في بعض التفاصيل الا أنها رسخت لديهم السعي الي رضا الالهة فكانت غاية هذه الجماعات هي التقرب الي الالهة ومن وسائل التقرب كان الصوم فتعددت صور الصوم ومنها الصوم عن اللحوم بأعتبارها المصدر الرئيسي للطعام في عصور عرفت الصيد كحرفة أساسية وكان الكف عن الكلام والعمل هي أغرب صور الصيام في هذه العصور فالمتوفي عنها زوجها يجب عليها الصيام عن الكلام لمدة تصل الي العام !!!
وفي الحضارة الفرعونية كان كهنة امون يصومون ستة أسابيع من الفجر الي المغرب بينما كان يصوم عامة الناس ثلاثين يوما وكذلك في أيام الحصاد ومن الفراعنه أخذ اليونانيون القدماء عادة الصوم الا انها اقتصرت علي عدة أيام متتالية قبل الشروع في الحرب كنوع من التدريب وطلب العون من الالهة .
كما عرف أهل فارس الصوم فقد تضمنت ديانتهم (الزرادشتية أو المجوسية) الصيام كفريضة علي الرؤساء الدينيين وبالغوا في ممارسة الصوم بأرهاق الجسد لمدة تصل الي خمس سنوات متتالية !!أما العامة فكانوا يصومون أيام متفرقة من السنة .
اما سكان حران القديمة من الصابئة وهم عبدة الكواكب فقد كان صومهم مرتبط باله القمر لديهم( سين )وكانوا يمتنعون عن الماء والطعام والجنس منذ شروق الشمس وحتي مغيبها وكانوا يصومون ثلاثين يوما وان نقص الشهر الهلالي يوما صاموا تسعا وعشرين يوما وبحسب ابن النديم في الفهرست فقد كان احتفال الحرانيون بانتهاء صومهم يدعي عيد الفطر ومن الحرانيين عرف العرب الصوم حيث احتل الملك البابلي نابونيدوس جزيرة العرب ومنها يثرب حيث كان نابونيدوس من مدينة حران وكانت أمه احدي كاهنات سين . وكانت ﻗﺮﻳﺶ تصوم عاشوراء كما جاء في حديث السيدة عائشة 🙁 كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلي الله عليه وسلم المدينة صامه وامر بصيامه فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه ).كما تشير بعض الدراسات الي أن قطاع من العرب قبل الاسلام قد عرفوا الصوم في رمضان مستدلين بأشتقاق كلمة رمضان من الرمضاء بمعني الحر ونظرا لتعاقب مجيء رمضان في الفصول المختلفه فمن غير المعقول ان يكون المعني هو حر الصيف كما ذهب المسعودي وغيره ويصبح المعني الاقرب للمنطق حر الظمأ فيقال رمض الصائم يرمض ،اذا حر جوفه من شدة العطش .وقد جاءت تسمية الشهور القمرية بأسمائها الحالية ومنها رمضان بأقتراح من كلاب بن مرة وهو من قريش.
ومن الحضارات ننتقل الي صوم الانبياء فقد كان نبي الله داود عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما كما جاء بحديث النبي صلي الله عليه وسلم والنبي نوح كان يصوم الدهر كله ومعظمه حتي كبر عمره وسيدنا موسي كان يصوم عاشوراء وهو اليوم الذي انجاه فيه الله وأغرق فرعون وقومه أما عيسي عليه السلام فكان يصوم عن أكل اللحوم والطيور وكل ما فيه روح وكان صيام السكوت عند السيدة مريم كما جاء في قوله تعالي ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ وسيدنا زكريا في قوله تعالي: ( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ).

فيما يتعلق بالصوم في الديانات السابقة علي الاسلام ففي اليهودية يرتبط بمناسبات معينة كصورة من صور الاستغفار عن الخطايا كصيام يوم الغفران والصوم في ذكري هدم هيكل سليمان .
ولأن الاسلام جاء مهيمنا علي كل ماسبقه وحاملا الخير الوافر لكل البشرية فقد انتخب أفضل ما في هذه الصورليقود ثورة اصلاحيه علي كل ما يحيط بالنفس من دنايا فتحول بالصيام من ممارسات غايتها تعذيب وارهاق النفس الي رياضة روحيه تسمو بالنفس وتعلو بها الي أعلي درجات الكمال والتقرب الي الله فالصيام في الأسلام بمثابة مدرسه نفسيه تربويه تدريبية عمادها توطين النفس علي الصبر والمثابرة والأخلاص في العمل كما تحول الأسلام بالصيام من نظام قد يبدو ضارا ببعض الفئات الي نظام صحي منظم متكامل استثني بعض الفئات التي قد لا تحتمله فيما كفل عدم الحاق الضرر بالذين يطيقونه في نظم بديع وسيكون لنا مبحثا شامل في هذا الصدد ولا يتوقف الاسلام بتطوير شكل الصيام عند الاطارين النفسي والصحي فحسب بل تحول بالصيام من شكل من اشكال الصيام الفردي المتقطع الي مناسبة اجتماعية لا تعرف التفرقة بين غني وفقير علي مدار ثلاثين يوما محتوية علي سر اجتماعي عظيم هو الرحمة فالاسر المسلمة من كل حدب وصوب تجتمع في صوره من التألف والاخاء فهي تصوم في وقت واحد وتفطر في وقت واحد وتتعالي أصوات المساجد بصلوات القيام والتهجد وسط حشود من المصلين كما تعم صور التكافل والتراحم بين الاغنياء والفقراء ويصبح المجتمع بحق جسدا واحدا .
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة