ما هي قصّة الاشتِباكات الروسيّة الإيرانيّة في دير الزور وحلب؟ وأين يكمُن العامِل الإسرائيليّ في هذا المَشهد؟

تاريخ النشر: 21/04/19 | 23:32

أن يصدُر بيان عن المُتحدّث العسكريّ السوري “ينفي نفيًا” قاطعًا ما تناقلته بعض المواقع والصّحف عن حُدوث اشتباكات مُسلّحة بين القوّات الروسيّة ونظيرتها في الحرس الثوري الإيراني في منطقة حلب ودير الزور، فهذا أمر مُتوقّع وغير مُفاجئ، لأنّ القيادة السوريّة تُريد التّقليل من أهميّة أيّ صِدامات بين قوّات تابعة لحليفيها الإيرانيّ والروسيّ، بل ونفيها، ولكن هذا لا يعني عدم وجود توتّر حقيقيّ بين الجانبين نتيجة حُدوث “تغيير مُتزايد” في الموقف الروسيّ ‏يأخُذ طابعًا “إيجابيًّا” تُجاه إسرائيل، والتّقارير الإخباريّة تتزايد عن وجود تنسيق روسيّ إسرائيليّ مُسبق يكمُن خلف الغارات الإسرائيليّة على مواقع إيرانيّة داخل سوريا، وإنّ هذه الغارات العدوانيّة تحظى بـ”مُباركةٍ روسيّةٍ” على أعلى المُستويات.
‏وكالة أنباء الأناضول التركيّة هي الوحيدة التي تحدّثت عن هذه الاشتباكات، وهي وكالة صديقه لروسيا وإيران معًا، وقالت إنّ الأولى وقعت في دير الزور عندما أوقف حاجزًا للحرس الثوري الإيراني ركبًا عسكريًّا للشرطة الروسيّة في مدينة “الميادين” في ريف المُحافظة، نجم عنه تلاسُن تحوّل إلى اشتباكات أدّت إلى مقتل عنصر من الحرس الثوريّ الايرانيّ وإصابة أربعة جنود روس، أمّا الحادثة الثّانية ‏حسب الوكالة، فكان مسرحها مطار حلب بعد مُطالبة القوّات الروسيّة لقوّات الحرس الثوري الإيراني بإخلاء المطار.
***
لا نعتقد أنّ هذه الأنباء حول هذه الاشتباكات والتّلاسنات بين الجانبين بلا دُخان، فصمت القيادة الروسيّة، بشقّيها السياسيّ والعسكريّ، على الغارات الإسرائيليّة المُتواصلة على أهدافٍ إيرانيّةٍ وسوريّةٍ في العُمق السوريّ أثار العديد من علامات الاستفهام، وأعطى إيحاءات بأنّ روسيا تُبارك هذه الغارات لأنّها “غير راضية” عن التّواجد الإيراني على الأراضي السوريّة لاعتباراتٍ روسيّةٍ إسرائيليّةٍ مُشتركةٍ.
القيادة الروسيّة أعلنت رسميًّا عن تسليم الجيش العربي السوري منظومة صواريخ ‏”إس 300″ في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولكنّها لم تسمح باستخدامها مُطلقًا للتصدّي الغارات الإسرائيليّة التي تزايدت في الفترة الأخيرة، وهُناك تقارير إخباريّة “غير مُؤكّدة” تُفيد بأنّ روسيا نصحت بعدم الرّد على هذه الغارات في العُمق الإسرائيليّ.
الشّكوك تصاعدت حول الموقف الروسي بعد إقدام وحدة من الجيش الروسي بالدّخول إلى مخيم اليرموك قرب دمشق، ونبش قبور في مقبرة الشهداء، وإخراج رُفات جنود إسرائيليين قُتِلوا في لبنان، وأقام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفلًا لتسليم هذه الرّفات إلى ضيفه بنيامين نِتنياهو قبل يومين من الانتخابات الإسرائيليّة، وأربعة أيّام من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تأييده لضم ‏مُرتفعات الجولان السوريّة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة فسّرها الكثيرون، ونحن بينهم، أنّها رسالة دعم لحملته الانتخابيّة وتأييد لسِياساته التوسعيّة العنصريّة ضِد العرب والمُسلمين.
هذه “الهديّة” الروسيّة لنَتنياهو التي أعقبها غارة إسرائيليّة على سوريا، أثارت حالة من خيبة الأمل مصحوبةً بالغضب في أوساط أصدقاء موسكو العرب الذين اعتبروها إهانةً واستفزازًا لمشاعرهم، ولكن هذا لا يعني عدم تقديرهم في الوقت نفسه للدور الروسي الحاسم في إحباط المُؤامرة التي كانت تستهدف تفكيك الوحدة الترابيّة السوريّة، وتغيير النظام، وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، فالجمع بين صداقة نِتنياهو والحُلفاء العرب والإيرانيين ‏مِثل مُحاولة خلط الزيت والماء في زجاجةٍ واحدة.
ما زاد من خيبة الأمل العربيّة هذه كشف صحيفة إسرائيليّة كُبرى عن عُثور القوّات الروسيّة على رُفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، وإنّها على وشك تسليمها إلى حكومة نِتنياهو في احتفالٍ آخر في الكرملين.
صحيح أنّ السلطات الروسيّة سارعت بنفي هذه الأنباء، ولكن هذا النّفي لم يمحِ الآثار السلبيّة لهديّة رُفات الجندي الإسرائيليّ القتيل المجانيّة في أوساط السوريين وحُلفاء موسكو في العالمين العربيّ والإسلاميّ، وطرحت سُؤالًا مُهِمًّا وهو عن هذه المُبالغة الروسيّة بنِتنياهو ‏وتحوّل قوّاتها إلى مهمّات لا تتناسب مع قيمتها وقدْرِها ومكانتها، أيّ نبش القُبور.
***
روسيا عادت بقوّة إلى الشرق الأوسط بعد غياب استمر أكثر من 30 عامًا عبر البوابة السوريّة، وتحوّل الرئيس بوتين إلى بطلٍ يحتل مكانةً بارزةً في قُلوب الملايين من العرب والمُسلمين بسبب إنجازاته في سورية، ودفعه ثمنًا غاليًا من أرواح ودماء جنوده في ساحات القتال ضد الجماعات المسلحة المدعومة من أمريكا ودول أوروبيّة وعربيّة، ولكن هذه الإنجازات، وهذه التضحيّات باتت مُهدّدةً، ولو جُزئيًّا، بفضل هذه العلاقة الشخصيّة التي تربطه بنِتنياهو، و‏تمنحه ضُوءًا أخضر لمُواصلة اعتداءاته المُهينة على سوريا وأهداف إيرانيّة دون السّماح بالرّد عليها بالشّكل الفاعِل والحاسِم.
لا نُريد توتّرًا في العلاقات بين الحليفين الروسيّ والايرانيّ على الأراضي السوريُة، خاصّةً بعد أن اقتربت الأزمة السوريّة من نهايتها، ولكنّنا نُطالب بمُراجعات في السياسة الروسيّة تُجاه الاعتداءات الإسرائيليّة الاستفزازيّة على سورية، ووضع حدٍّ لها، فنحن لا نُنكر أن هُناك مصالح روسيّة استراتيجيّة تُحتّم بعض التّقارب الإسرائيليّ الروسيّ، بعضها لاعتباراتٍ داخليّة، وأخرى لاعتبارات خارجيّة، ولكن الغارات الإسرائيليّة العُدوانيّة تُشكّل إهانةً لروسيا وتهديدًا لصُورتها ومصالحها في المِنطقة أيضًا.
باختصارٍ شديدٍ نقول أن ‏كيل أصدقاء موسكو في الشرق الأوسط قد طفح، ومثلما تُطالب القيادة الروسيّة الآخرين بتفهّم واحترام مصالحها، فإنّ عليها في المُقابل أن تحترم مصالحهم ومشاعرهم في الوقت نفسه، وتضع حدًّا لهذه الغطرسة الإسرائيليّة، والتوقّف عن تقديم “هدايا” مجانيّة لنِتنياهو، واحترام الخُصوصيّة في العلاقات السوريّة الإيرانيّة، والأسباب التي تكمُن خلف وجود قواعد لإيران في سوريا، وعدم النّظر إلى هذا الوجود من الزاوية الإسرائيليّة فقط.
عبد الباري عطوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة