الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في يافا عروس فلسطين

تاريخ النشر: 05/04/19 | 19:05

يافا عروس زهت، وحضارة سطعت في فضاء فلسطين ، واعتبرت عاصمة ثقافية لها بدون منازع . وقد شكلت مركزًا ثقافيًا وفنيًا هامًا ، ففيها أقيمت دور السينما والمسارح والأندية الثقافية والأمسيات والأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة ، وفيها صدرت الصحف والمجلات الأدبية والفكرية ، كالجهاد والدفاع وفلسطين والكفاح والحوادث والحرية والجبل والحرية والحقوق والجريدة والمستقبل والأخبار والاقدام ونداء الارض والصراط المستقيم وصوت الحق وغير ذلك .

وزارها الكثير من الفنانين الكتاب والشعراء والمثقفين العرب ، وغنت فيها كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم ، وأحيت عدة حفلات فيها ، بعد ان وصلت ميناءها في شراعها الخاص ، وصدح صوتها في أروقتها بحفلة ساهرة بقاعة ” أبولو ” التي ازدانت واجهتها المركزية بتمثال لها .

ومن الذين زارها من الفنانين كان محمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وأسمهان ويوسف وهبي ، ومن الشعراء والكتاب : توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وبشارة الخوري والجواهري وغيرهم .

وسوف أتوقف هنا مع الشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ، الذي جاءها زائرًا وفي قلبه حبًا وشوقًا كبيرًا لها ولبحرها وبرتقالها وأزقتها . وهو شاعر معاصر من أهم وأبرز شعراء العرب في العصر الحديث ، من مواليد العام 1899 ، وتوفي في دمشق العام 1997 . وقد انخرط في العمل السياسي وكان من مؤسسي الحزب الوطني العراقي . وقد صدرت مجموعته الشعرية الأولى وهو في الخامسة والعشرين من عمره بعنوان ” خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح ” ، وتبع ذلك ” بين الشعور والعاطفة ” ، و ” ديوان الجواهري ” و ” بريد الغربة ” ، و ” بريد العودة ” و ” أيها الألق ” و ” خلجاتي ” وكتاب ” ذكرياتي ” .

واشتهر بقصيدته ” يا دجلة الخير ” التي قالها في الحنين إلى الوطن والاشتياق له بعد ان غادره ، وإلى دجلته وضفافها واصطفاق أمواجها .

وكان الجواهري قد أتى إلى يافا زائرًا ، بعد ان كلفته هيئة الاذاعة البريطانية في النصف الأول من الأربعينات ، لإحياء أمسية أدبية وشعرية فيها ، ولما وصلها بالطائرة ، استقبل بالترحاب ، وأقيم له حفل فخم وجميل في ” النادي العربي ” ، حضرته وجوه فلسطينية بارزة وشخصيات ثقافية وأدبية وسياسية واجتماعية اعتبارية ، وألقى قصيدته الرائعة ” يافا الجميلة ” قوبلت بالتصفيق والعيون الدامعة . ونشرت القصيدة في حينه بجريدة ” الرأي العام ” الصادرة في السادس عشر من آذار العام 1945 ، ويقول فيها :

بـ ” يافا ” يومَ حُطّ بها الركابُ- تَمَطّرَ عارضٌ ودجا سَحابُ

ولفّ العادةَ الحسناءَ ليلٌ- مُريبُ الخطو ليسَ به شِهابُ

وأوسعها الرَذاذُ السَحّ لَثْمًا- فَفيها مِنْ تحرّشَهِ اضطرابُ

و ” يافا ” والغُيومُ تَطوفُ فيها-كحالِمةٍ يُجلّلُها اكتئابُ

وعاريَةُ المحاسن مُغْرياتٍ- بكفّ الغَيمِ خِيطِ لها ثيابُ

كأنّ الجوّ بينَ الشمس تُزْهَى- وبينَ الشمس غَطَّاها نِقابُ

فؤادٌ عامَرُ الإَيمانِ هاجَتْ- وساوسُهُ فخامَرَهُ ارتيابُ

وقفتُ مُوزّعَ النّظراتِ فيها- لِطَرفي في مَغَانيها انْسيابُ

وموجُ البحر يَغسِلُ أخْمَصَيْها- وبالأنواءِ تغتسلُ القِبابُ

و ” بيّاراتُها ” ضَربَتْ نِطاقًا- يُخطّطُها كما رُسِمَ الكتابُ

فقلت وقد أخذتُ بِسِحر ” يافا “- وأترابٍ ليافا تُستطابُ

” فلسطينُ ” ونعْمَ الأمُّ، هذي- بَناتُكِ كلُّها خَوْدٌ كَعابُ

أقلّتني من الزوراءِ ريحٌ- إلى ” يافا ” وحلّقَ بي عُقابُ

فيا لَكَ ” طائرًا ” مَرحًا عليه- طيورُ الجوّ من حَنَقِ غِضابُ

كأنّ الشوقَ الأرَجُ الثنايا- وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُّلدِ بابُ

ولاحَ ” اللُّدَّ ” مُنبسِطَا عليه- مِن الزَهَراتِ يانِعة خِضابُ

نظرْتُ بمُقْلةٍ غطَّى عليها-مِن الدمعِ الضّليل بها حِجابُ

وقلتُ وما أحيرُ سوى عِتابٍ- ولستُ بعارفٍ لِمَن العتابُ

أحقّاً بينَنا اختلَفَتْ حدودٌ- وما اختلَفَ الطريقُ ولا الترابُ

ولا افترقًتْ وجوهٌ عن وجوهٍ- ولا الَضّادُّ الفصيحُ ولا الكِتابُ

فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ- ويا صَحبيْ إذا قلَّ الصحابُ

ويا مُتسابِقينَ إلى احضاني- شَفيعي عِندهم أدبٌ لُباب ُ

ويا غُرّ السجايا لم يَمُنُّوا- بِما لَطُفوا عليَّ ولم يُحابوا

ثِقوا أنّا تُوَحِّدُنا همومٌ-مٌشاركةٌ ويجمعُنا مُصاب

تَشِعُّ كريمةً في كل طَرَفٍ-عراقيٍّ جُروحُكُمُ الرغاب

يُزَكينا من الماضي تُراثٌ-وفي مُستَقْبَل جَذِلٍ نِصاب

قَوافيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ-بِعُذري إنها قلبٌ مُذابٌ

وما ضاقَ القريضُ به ستمحو- عواثِرَه صدورُكم الرّحاب

لئن حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعًا- بِهِ، واشتفّ مُهجَتيَ الذَّهاب

فمن أهلي إلى أهلي رجوعٌ- وعنْ وطني إلى وطني إياب

وكتب الجواهري في مذكراته قائلًا عن هذه الزيارة : ” لقد كانت رحلة من رحلات العمر لا تنسى ، مع هذا – وسامحوني – ان أقول ، يا ليتني لم أرَ ( فلسطين الجنة ) ، ولو أن وشيجتي بها كانت وشيجة ( بشار بن برد ) بالأشياء والعوالم ، بالأذن لا بالعين ، فلكان ذلك أفضل ولكان وقع الفاجعة عليَّ أقل ” .

مات الجواهري وبقيت يافا شامخة صامدة ، وسيظل هو ويافا القصيدة ، الغافية على البحر ، في الذاكرة الجمعية والتاريخ الثقافي والأدبي وروايتنا الفلسطينية .

بقلم : شاكر فريد حسن

الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة