الزعيم وظليله (الجسد المفقود)

تاريخ النشر: 04/04/19 | 8:33

حينما نضع تعريفا للزعيم فهو القائد بشخصيته الجديرة بالثقة والقادرة علي تجسيد القيم البناءة واعلاء الرؤي بعيدا عن المثالية المفرطة المستحيلة والأوهام الزائفة فالزعامة حقيقة ملموسة قوامها القدرة علي تحريك الراكد و تقدم الصفوف وأدارة الأزمة وتحمل المخاطر ونتائجها و لأن الظليل هو النفس و النفس دائمة التقلب والتحول ونقطة التحول نحو الزعامة حينما يطوع الأنسان ظليله. وفي لحظات الاتساق مع النفس يكون أخطر قرارات النفس وأجلها حينما تقرر أن تغادر الجسد فداءا وقربانا أملا وطمعا في مستقبل أفضل لابناء جلدتها.قرار صعب يحس معه المرء أن وطنه يستحق هذه التضحية فلا يبالي ببذل الغالي والرخيص ولكنه أحيانا يعز علي المرء أن يمثل بجسده مثلما كان الحال مع عبد الله بن الزبير أثناء حصاره علي يد الحجاج حينما شكا لامه السيدة أسماء بنت أبي بكر خوفه من أن يمثلوا بجسده بعد قتله فقالت له في درس تربوي رائع : لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها …ولكن ماذا عن من قدم الزعيم ذاته وجسده فداءا لهم ؟!!
أن النفس لا تفني بل تبقي محلقة بجناحيها حزينة علي ما حل بالجسد حينما يكون جزاء الوفاء والفداء هو النكران والنسيان ..
زعيمنا اليوم وصفه عبد الرحمن الجبرتي صاحب كتاب عجائب الاثار في التراجم والاخبار بأنه من سفلة السفلة أهوج أحمق ومتدنس بالخطايا !!!!.أنه سليمان محمد أمين الحلبي أحد خريجي الازهر الشريف وصاحب أول عملية اغتيال في التاريخ المصري الحديث
ولنبدأ الحكاية من البداية..
كان الجنرال كليبر صاري عسكر الفرنساوية كما كان يسمي في هذا العصر خليفة لبونابرت علي رأس الحملة الفرنسية المرابطة في مصر والتي بدأت تواجه عواصف شديدة من الأخفاقات علي الصعيد العسكري أبرزها تدمير الاسطول الفرنسي في أبوقير و لكن أكثر الأخفاقات كانت علي الصعيد السياسي وفشل الحمله في استقطاب المصريين الي مشروعهم الأصلاحي وتصاعدت مقاومة المشايخ والأهالي ممثلة في ثورة القاهرة الأولي وما أعقبها من أقتحام الفرنسيين بخيولهم للأزهر الشريف مما استنفر الأحرار من العالم الاسلامي ضد هذا الأعتداء الغاشم علي حرمة الجامع والجامعة ثم حملة أعتقالات طالت المشايخ الذين كانوا يمثلون زمرة الفئة التنورية المثقفة في هذا الزمان ومع مغادرة بونابرت لفرنسا موقنا فشل مشروعه الشرق أوسطي كان للتاريخ موعد مع أحداث فارقة مرت علي مصر بأعتلاء كليبر لسلم القيادة أولها ما عرف بثورة القاهرة الثانية ولكن كليبر كان معروف عنه الشدة والقسوة والحزم في مواجهة هذه الخطوب فأخمد الثورة بشراسه وضرب واحرق حي بولاق معقل الثورة بالقنابل كما أوقع الهزيمة بالعثمانيين الساعيين للعودة الي حكم مصر واجبرهم علي توقيع معاهدة العريش …وبعدما استتب الأمر لكليبر أو هكذا ظن أن الامور تسير هادئة فأذا به في رحلة نحو النهاية ففي صباح يوم الأغتيال كان كليبر يشاهد عرضا عسكريا لكتيبة من الأروام أنضمت للجيش الفرنسي مؤخرا بحزيرة الروضة ، ثم عاد بصحبة المهندس المعماري “بروتان” لمتابعة ترميم مقر أقامته في قصر محمد بك الألفي في الأزبكية والذي أتخذه مقرا لقيادته وقد أضير بشدة خلال ثورة القاهرة الثانية، وبعد تناول الغذاء في دار الجنرال “داماس”، رئيس الأركان، مع مجموعة من القادة وأعضاء المجمع العلمي عادا ادراجهما مرة اخري الي مقر القيادة وبينما يتجولان في الحديقة خرج عليهما شاب أقترب من كليبر مستجديا أياه فمد كليبر له يده دون ريبة ليعاجله الشاب وهو سليمان الحلبي بطعنة في قلبه كانت القاضية حاول بروتان الامساك به فأرداه صريعا علي الارض بست طعنات …راود الحلبي الخوف من أن يبقي الجنرال علي قيد الحياة فعاد اليه مسددا ثلاث طعنات أخري للاجهاز الكامل عليه .
بعد مضي ساعة واحدة من الأغتيال عثر الفرنسيون علي سليمان مختبئا خلف جدار في حديقة مجاورة وبجواره سلاح الجريمة مدفونا وعليه أثار دماء وبتعرف بروتان عليه وكذلك بعض معاوني كليبر ممن اقروا بمشاهدة سليمان لعدة مرات محاولا الأقتراب من كليبر …
تم التحقيق مع سليمان ومع قسوة التعذيب جاء اعترافه الشهير بأن الباعث وراء قتله لكليبر هو تحريض ضابط عثماني يدعي أحمد أغا كان قد التقاه للتوسط لديه في تخفيف الظلم الواقع علي والده تاجر السمن وزيت الزيتون من والي حلب ابراهيم باشا فطلب منه قتل كليبر في المقابل !!! ..وهي الرواية التي تفتقد منطقية الدافع للجاني فسليمان كان شابا متعلما وقتل كبير الفرنسيين ليس بالأمر السهل كما أن وقع الحدث ليس بالأمر الذي يمر مرور الكرام من قوة غاشمة كالفرنسيين وقد يكون الثمن هو حياته وهو المصير المحتوم…فهل يدفع أنسان متعلم بنفسه من أجل هدف وقتي ساذج مثل تخفيف بعض الضرائب عن والده خاصة وأن الضامن هم العثمانيون وما أدراك ما العثمانيون في أحترام الكلمة والوعود !!!؟ كما أن سليمان أزهريا ومشايخ الازهر في هذا الوقت لم يكونوا أبدا من دعاة العودة الي الحكم العثماني فهو بمثابة استبدال ظالم بظالم أخر حتي ولو كانت العباءة أسلامية فالممارسات معروفة والتاريخ أمامهم حافل …لكن وللأسف تبقي رواية الفرنسيين هي الوحيدة والمحتل بطبيعة الحال ليس أبدا من مصلحته صناعة الابطال الذين يبقون في ذاكرة شعوبهم علي الدوام لذا فالمصلحة الفرنسية تقتضي قلب الحقائق وتشويه البطولة وتحويلها الي أرهاب وطائفية واصطناع للاجندات الخارجية …
كانت تفاصيل المحاكمة تنشر باللغات العربية والفرنسية والتركية علي الرأي العام المصري ولأول مرة في تاريخهم يطلعوا علي محاكمة علنية موثقة تسبق توقيع العقاب وهو ما عبر عنه عبد الرحمن الجبرتي بأنبهار واضح في كتابه عجائب الاثار في التراجم والأخبار ثم عاد وحذفه في كتابه مظهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس بعد عودة العثمانيين كنوع من التذلف والمولاه للباب العالي والمحتل الجديد وللنفاق تاريخ عريق في مصر !!! …
الغريب هو أكتشاف الجبرتي وغيره من الطبقة المتعلمه لأسلوب المحاكمات العصرية من عدم التعجيل بقتل المتهم وسؤاله أذا كان مذنبا أم لا بل و الأنتصار لحق المتهم في تقديم دفوعه وترتيب من يدافع عنه مع أن الرسالة الاسلامية عبرت بوضوح عن حق المتهم في الدفاع عن نفسه حيث حمل القرآن الكريم أول محاكمة في تاريخ الكون وهي محاكمة الله عز وجل لابليس حينما رفض الانصياع لأوامر ربه .
قال تعالي: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
فشاء الله الا يوقع عقوبته بأحد من خلقه قبل أن يتيح له الفرصة للدفاع وتقديم حجته وعلي هذا المنوال كانت مشيئة الله في أعلاء قيمة خلقه في الارض والحض علي العدل والقسطاس المستقيم وفي يوم القيامة مشاهد عدة من المحاكمات ومساءلة الانسان وحقه في الرد وفي طلب الشفاعة …ولكن أرادة الأستبداد الذي ساد الحكم المملوكي والعثماني أقصت هذه المنحة الربانية فكانت المحاكمات عبارة عن ضرب للرقاب والأجهاز علي الناس دون استماع لملابسات جرائمهم أو حتي التحري إن كانوا مذنبين من الأساس خشية معاقبة مظلوم وأصبح الناس علي قدم وساق في المساواة في الظلم وهذا كان قمة العدل في هذه العصور المظلمة !!! …
وعلي الرغم من حضارية الأطار الشكلي للمحاكمة الا أن ما أسفرت عنه المحاكمة من عقاب كان بربريا حيث حكم علي سليمان بوضعه من شرجه علي خازوق حتي الموت وحرق يده اليمني وترك جثته لتنهشها الطيور وضرب أعناق ثلاثة ممن علموا بتدبيره ووضع رؤوسهم علي نبابيت !!! علي أن يكون ضرب أعناق الثلاثة أمام سليمان امعانا في تدميره نفسيا قبل تعذيبه الجسدي بشكل شنيع علي الخازوق لمدة اربع ساعات مرددا الشهادتين وتولي تنفيذ الحكم بارتليمي محافظ القاهرة اليوناني وبعدها أعطاه أحد الجنود الفرنسيين شربة ماء وضعت نهاية لعذابه بموت رحيم علي يد محتل آثم نحتفل بذكراه وبما أرساه من حضارة !!!!!
لكن مايسترعي الأنتباه هو ما كتبه المؤرخون المستشرقون عن بسالة وشجاعة سليمان الحلبي في مواجهة الموت فيقول لوتسكي :
” وقد قابل سليمان الموت ببسالة ، إذ وضع يده بجرأة في النار الملتهبة ، ولم ينبس ببنت شفة حينما كانت تحترق ، كما كان باسلاً طيلة الساعات الأربع والنصف الذي قضى من بعدها نحبه وهو مخوزق “.
نجح الطبيب الفرنسي لاريه وهو أحد أعضاء المجمع العلمي في الحصول علي جمجمة سليمان الحلبي وباقي جثمانه لينتهي بها المطاف في متحف الانسان بقصر شايوه في باريس مذيلا بلقب المجرم وبجواره جمجمه ديكارت مذيلة بالعبقري!!
السؤال الفارق ماذا فعلنا لبطلنا؟! وماذا فعل الفرنسيون لبطلهم ؟!
الي اليوم تنطلق من سوريا منشأ سليمان دعوات بأستعادة جمجمته ورفاته ليدفن في مسقط رأسه بحلب في جنازة تليق بقدره وبما قدمه لأمته وبشكل يحفظ لجسده كرامته وقداسته.. جميع هذه الدعوات من المثقفين السوريين لم تجد ظهيرا مصريا حيث التزمت مصر الصمت مع احتفالات صاخبة للمثقفين المصريين بالموروث الفكري والثقافي للاحتلال الفرنسي لها !!! …ومع ثورة 25 يناير المجيدة تعالت الأصوات من قلب التحرير بعودة جمجمة ورفات سليمان فالرجل الذي خلص مصر من مجرم حرب هو كليبر يستحق تكريما أكثر من مجرد أطلاق أسمه علي أحد الشوارع بمصر …
كما لم يهتم الباب العالي الرمز الاسلامي للوحدة وحامي الحمي في العصور الغابرة -وقد دخل مصر بصحبة الانجليز عام ١٨٠١ بمصير جثمان سليمان الحلبي وهو رجلا وان لم يكن قد قتل كليبر بأرادة عثمانية مباشرة فعلي الاقل هو رمز يستحق الاشادة !!!
بينما أهتم الفرنسيون ببطلهم المغدور كليبر حيث حملوا رفاته من مصر أثناء جلاءهم عنها وفي عهد لويس الثامن عشر تم دفنه وسط مراسم مهيبه بمسقط رأسه بستراسبورج وأقيم له تمثال من البرونز أحياءا لذكراه كما نقش اسمه علي قوس النصر وسط القادة التاريخيين…
حقا شتان ما بين قيمة التضحية علي الوجهتين فالأولي تجاهل ونسيان ونكران والثانية تظليل وفخر و اجلال…
المراجع والمصادر:
1- عجائب الاثار في التراجم والاخبار-عبد الرحمن الجبرتي
2-قصة جمجمة سليمان الحلبي المعروضة في متحف الأنسان والطبيعة في باريس –موقع المرسال
3- مليون توقيع لأعادة جمجمة سليمان الحلبي من باريس الاهرام 24 يوليو 2011
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة