جانب من عبقريَّة الغائب الحاضر محمود درويش

تاريخ النشر: 18/03/19 | 12:20

(نظم تشهد العين أَنَّهُ نثر، ونثر يشهد الذَّوق أَنَّهُ نظم)

يمكن أن نلمح جانبًا من عبقريَّة الشَّاعر محمود درويش الإبداعية من خلال جملة (نظم كَأَنَّهُ نثر)، وكما قال جبران ” بل حقَّق إلى حدٍّ بعيد مقولة أبي حيَّان التَّوحيدي الَّتي اتَّخذها في مجموعته “كزهر اللَّوز أو أبعد“ “موتو“ يلخِّص نهجه لا في هٰذِهِ المجموعة فحسب، بل في معظم شعره من المرحلة الأخيرة: “أحسن الكلام ما.. قامت صورته بين نظم كَأَنَّهُ نثر، ونثر كَأَنَّهُ نظم…“(1). إِنَّنا نعتبر عبارة أبي حيَّان بمثابة تحدٍّ واجهه محمود وانتصر إلى أبعد حدٍّ، ونرى عكس ما يرى غيرنا، نرى أَنَّهُ استطاع بإيقاعه هضم (قصيدة النَّثر) داخل شعره، وإخراجها من نثريَّتها إلى شعر موزون يظنُّه القارئ نثرًا بينما هو موزون، وبالتَّالي نقض هو بناء (قصيدة النَّثر) وردَّها إلى حظيرة الشِّعر الموزون الصَّحيح، بمعنى أَنَّهُ أخرج نثرهم من نثريَّته وأدرجه ضمن موزونه فاتَّزن وخرج عن كونه نثرًا “كَأَنَّما أراد درويش واعيًا الجمع بين الوزن والسِّمات الأسلوبيَّة للنَّثر، أو قصيدة النَّثر، ما جعل كثيرين يتوهَّمون أَنَّهُمْ بصدد قصيدة نثر، وما هي بقصيدة نثر: أودُّ أَنْ أقول إِنَّ كثيرين من الشُّعَراء والقرَّاء يقرأون كتبي الأخيرة باعتبارها تضمُّ قصائد نثر […] فهم يحسُّون أَنَّ أطروحات قصيدة النَّثر تمَّ استيعابها في شعري”(2). ألا ترى معي أَنَّ درويش (بعد كلمة أودُّ) استطاع بحنكة وعبقريَّة أَنْ يوهمهم ويصدمهم في آن معًا، قرأوا فتوهَّموا النَّثر، لٰكِنْ صدموا بأَنَّهُ الشِّعر الموزون، وَبِهٰذا يكون درويش هو من استطاع هضم مشروعهم داخل شعره، ونقله من نثرهم إلى شعره، فلم يعد نثرًا بل تحوَّل إلى شعر موزون يستحق اسم الشِّعر، فكان مشروعه كما قال ابن سناء الملك، وإن كان يتحدَّث عن الموشَّح، لٰكِنَّ كلامه ينطبق جملة وتفصيلًا على مشروع درويش في الفترة الأخيرة “نظم تشهد العين أَنَّهُ نثر، ونثر يشهد الذَّوق أَنَّهُ نظم..”(3) ، فشعره الأخير تشهد العين (القراءة الإنشائيَّة)، أَنَّهُ نثر، لٰكِنْ نذوُّقه وقراءته إنشادًا (سماعًا) تشهد أَنَّهُ نظم، أَيِّ شعر موزون. فإن قرأته إنشاءً لن تشعر بغير النَّثر، وإن قرأته إنشادًا وجدته شعرًا موزونًا تطرب لسماعه. ليحقّق جملته في عنوان مقالته، في الكرمل (أنقذونا من هٰذا الشِّعر)، وَهٰذا تطبيق لقول الأخفش “حروف الشِّعر الأذن. وبالسَّمع تعرف استقامته من انكساره، وحروف الكتاب العين”(4) ، ولم ينتظر درويش أَنْ ينهض أحد بعبء المهمَّة فتولَّاها بنفسه، ونجح فيها نجاحًا باهرًا، كان من أثره توهُّمهم الشِّعر الموزون نثرًا، وفي هٰذا أَيْضًا تعرية لهم بأنَّهم لا يفقهون، وما أسهل خداعهم، كونهم لا يعلمون، فهل يستحقُّون اسم شعراء؟
لقد كانت تلك ” الميليشيات والأحزاب الَّتي تدافع عن الكتابة النَّثريَّة” الَّتي قال إنه يخاف منها، تظنُّ أَنَّها انتصرت على درويش، وَأَنَّهُ لا محالة صائر إليها في تطوُّر كتابته، بينما كانت تجهل أَنَّهُ يسوقها سوقًا خفي عليها إلى حظيرته، لتجد نفسها مغلوبة بعد أَنْ توهَّمت أَنَّها غلبته. “لا أقول هٰذا [بِأَنَّ قصيدة النَّثْر ليست شعرًا] لِأَنَّني في الحقيقة أخافهم، وَلٰكِنَّني أعبِّر عن رفضي لقصيدة النَّثر بشيء واحد، أَنَّها ليست خياري”(5). لقد قال درويش وبصوت مرتفع إِنَّ قصيدة النَّثْر ليست شعرًا، لٰكِنَّهم لم يفقهوا ولم يدركوا عبقريَّته، وبالتَّالي قصرت مداركهم عن استيعاب المقولة (نظم كَأَنَّهُ نثر).
******
المراجع:
(*) من كتابنا- في الـمُتَدارَك والتَّفعيلي الـمُعاصر والرَّدّ على (نظم كَأَنَّهُ نثر)، الَّذي سيصدر قريبًا.
(1 ) جبران- الإيقاع في شعر درويش: 85.
(2 ) م. س: 84- 85.
( 3) ابن سناء الملك- دار الطراز: 24.
(4 ) الأخفش- العَروض: 40.
(5) جبران- الإيقاع في شعر درويش: 74.

بقلم: محمود مرعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة