حنا نقارة كيف ساهم محام وطنيّ – فلسطينيّ وشيوعي في خلق حريّة التعبير في إسرائيل

تاريخ النشر: 17/01/19 | 9:33

فُسِّر أحيانا نضال الفلسطينيين مواطني إسرائيل من أجل المساواة من قبل الجمهور اليهودي على أنه نضال تآمري ضدّ الدولة. يفيد التاريخ على أن نشاط المحامي الحيفاوي حنّا نقّاره شكّل أكثر من عنصر حيوي في الديمقراطيّة الإسرائيليّة التي يتمتّع بها كلّ مواطني الدولة وهذه العناصر هي نتيجة مباشرة لهذا النضال

غال أمير و نعما بن زئيب
هآرتس، 4.1.2019 ترجمة: أمين خيرالدين
في الدول التي ليس لديها دستور مكتوب، كدولة إسرائيل، يشكّل الجهاز القضائي عاملا أساسيّا في إرساء حقوق المواطن وتحديد قوى أجهزة الدولة، ومن خلال جهاز القضاء يؤدّي المحامون دور الوسيط بين الحريّات الفرديّة وصلاحيات الدولة. قد يتجاوز تأثير أعمالهم كثيرا نطاق الحالة الخاصّة لموكِّلهم، أو مصالح المجموعات التابعة لهم. عمليّا، أعمال المحامين في الدفاع عن حريّة الأفراد، الجمعيّات والمؤسّسات المدنيّة قد تُغيّر وجه المجتمع.
كمثال على ذلك يمكن إيجاده في الالتماسَيْن اللذين قُدِّما لمحكمة العدل العليا سنة 1953، عندما تعرّضت لأوّل مرة حريّات الفرد لاختبار قضائيّ أمام سلطة الدولة، على خلفيّة تمييز مواطني إسرائيل الفلسطينيين وإخضاعهم للحكم العسكري. اشترك في الالتماسَيْن المحامي الحيفاوي حنّا نقّاره (1912 – 1984)، شخصيّة مركزيّة بين مجموعة صغيرة مكوّنة من حوالي عشرة محامين فلسطينيين، بقَوْا في إسرائيل بعد عام 1948 واستمروا بالعمل بمهنتهم التي كانوا يمارسونها قبل الحرب. حكاية هذين الالتماسّين تكشف فقط عن القليل من نشاط حنّا نقاره المهني والسياسيّ، لكن هذا النشاط يؤكّد الدور الهام الذي أدّاه خلال مهنته بتوسيع حرية العمل السياسي لمواطني إسرائيل.
كان التماس صحيفة ” كول هعام” ضد أمر إغلاقها الصادر عن وزير الداخليّة المثل الواضح للالتماس الذي غيّر وجه المجتمع الإسرائيلي. وقد كتب القاضي أهرون براك بعد مضي عشرات السنين على قرار الحكم المشهور الصادر عن محكمة العدل العليا بقضيّة “كول هعام”: ” في مجال القضاء الواسع ثمّة العديد من قرارات الحكم الراقية، الفذّة، التي تضيء بنور ساطع البيئة القريبة والبعيدة… هي قرارات الحكم النادرة التي تعكس من قوّتها الداخليّة على المستقبل وتوجّه تطوّر القضاء. من بين صَفْوَة قرارات الحكم هذه يبرز قرار القاضي أغرانات في قضيّة كول هعام”.

القاضي شيمعون أغرانات
تتكرر حكاية هذا الحّدّث في الدروس الأولى من دراسة “القانون الدستوري” من السنة الأولى في أيّة كليّة لدراسة القانون: في التاسع من آذار 1953، نشرت جريدة “هآرتس” خبرا (كاذبا على ما بدا) وبموجبه التزم أبا إيبن بأنه “حين تحين ساعة الاختبار، ستجنّد إسرائيل 200,000 جنديّ إلى جانب الولايات المتحدة [في حربها مع كوريا]”. وبعد أيّام من ذلك التاريخ نشرت صحيفة “كول هعام” ردّها: ” إذا كان أبا إيبن أو أيّ غيره يريد أن يذهب ليحارب إلى جانب الأمريكان مُشْعلي الحروب، ليذهب، لكن ليذهب وحده . […] سنزيد من نضالنا ضدّ سياسة حكومة بن غوريون المعادية للوطنيّة والتي تسمسر بحياة الشباب الإسرائيلي”.
وفي أعقاب هذا الردّ أغلق وزير الداخليّة يسرائيل روكاح جريدة “كول هعام” لعشرة أيّام. قدم أصحاب الجريدة التماسا ضدّ القرار إلى محكمة العدل العليا. قضاة محكمة العدل العليا، شمعون أغرنات، يوئيل زوسمان وموشي لندوي، قبلوا الالتماس. أغرانات الذي صاغ قرار الحكم، جعل بنفسه حريّة التعبير حقّا دستوريّا. في غياب دستور مكتوب، بلور أغرانات الأسس التي تحمي حرية التعبير بالاعتماد على فرضية أن نظام الحكم في إسرائيل هو ديمقراطيّ، وليس انفراديا بالسلطة. حيث أنه يستمدّ شرعيّته من قوانين الولايات المتحدة، بهذا التطابق القانوني، صاغ أغرانات أسُسا ومعايير تُعْتَمَد حتى يومنا لمنع تعسّف السلطة ولحماية حريّة التعبير.
وتعود القصّة لتتكرّر، لكن قليلين يذكرون أنه مع الالتماس 53/73 المُقدّم لمحكمة العدل العليا من قِبَل “كول هعام” ضد وزير الداخليّة ، قُدّم في نفس الجلسة التماس آخر 53/87 من قِبَل جريدة “الاتحاد” ضد وزير الداخليّة. “الاتحاد” هي الصحيفة الناطقة باسم الحزب الشيوعي باللغة العربيّة، أُغلقت هي أيضا لمدة 15 يوما بسبب نشرها لنصٍّ مشابه لمقال عن نفس الخبر باللغة العربيّة. فقدّمت التماسا لمحكمة العدل العليا لإلغاء قرار وزير الداخليّة، أُدْمِج التماسها مع التماس “كول هعام” ونُظِر فيهما معا. التدوين التاريخي والقضائي لقرار الحكم لا يذكر قصة جريدة “الاتحاد” في مسرحيّة التماس “كول هعام” المُقدّم لمحكمة العدل العليا. المحامون الذين انتُدِبوا للدفاع عن “كول هعام” فايصنر ولندوي (ينبغي الانتباه لعدم الخلط مع اسم القاضي لندوي، حيث كان أحد أعضاء هيئة المحلّفين) يحظَوْن بقليل من الذكر، والمحامي الذي انتُدِب للدفاع عن “الاتحاد” يكاد لا يُذْكر في هذا السياق أبدا. حظي حنّا نقارة بشهرة بين الفلسطينيين في إسرائيل ك”محامي الأرض” بسبب نضاله ضدّ مصادرة الأراضي. وظل نصيبه في هذا الإنجاز بالنسبة للديمقراطيّة الإسرائيليّة محجوبا.
وُلِد حنّا نقاره في قرية الرامة، وانتقل وهو في صباه إلى حيفا حيث أمضى بها أكثر سنين عمره. بدأ نشاطه كفلسطيني وطني وكشيوعي في الثلاثينات، ولم يتوقف هذا النشاط حتى وفاته. وقد ظهر في العقود العديدة من عمله كمحام في دولة إسرائيل بعدد من الإجراءات المختلفة حسب اختلاف الحالات التي تعاملت بها حكومة إسرائيل مع مواطنيها من العرب. بالإضافة إلى نضاله ضدّ مصادرة الأراضي، عمل نقاره من أجل الحصول على هويّة لل”متسللين” (في هذه الفترة استُعْمِل لقب للفلسطينيين، مواطني الانتداب، ممَن بقَوْا خارج إسرائيل بعد حرب 1948، واستطاعوا بشتى الطرق من العودة إلى داخل حدود الدولة)، رغم أعمال الحكم العسكري التعسفيّة، ورغم الاعتقالات العبثيّة وكمّ الأفواه قضائيّا. كان ظهوره في الدفاع عن قضيّة “الاتحاد” واحدا من كثير من نضالاته القضائيّة التي مارسها في تلك الفترة.

وبصدفة عجيبة، في نفس اليوم الذي أصدرت فيه المحكمة قرارها بشأن “كول هعام/الاتحاد” وأقرّت أن حرية التعبير حق قانوني، حظي حنّا نقاره بفوز شخصي في محكمة العدل العليا: بتشكيل من القضاة مشابه تقريبا (لندوي، أغرنات، وزيلبرغ) حيث قرروا حقّه كمواطن إسرائيلي. كانت الظروف التي أدّت إلى الاعتراض على مواطنته وعلى طلب المساعدة من محكمة العدل العليا قد بدأت خلال حرب 1948: قبل سيطرة قوات الهاجنا على حيفا بأيّام سافر حنّا نقاره ليرافع في المحكمة في عكا ومكث هناك مع عائلته. لم يتمكّن من أن يرجع إلى حيفا- وقد وقعت الآن حيفا تحت السيطرة اليهوديّة- ، وفي نهاية الأمر نزحت العائلة من عكا، خشية من ان تتحوّل المدينة إلى ساحة حرب. اجتاز حنّا نقاره مع عائلته الحدود اللبنانيّة. وبعد شهور عاد حنّا نقاره إلى إسرائيل بالطائرة من قبرص. أعْتُقِل لمدة ثلاثة شهور ونصف، وأُفْرِج عنه بعد ضغط جماهيري، تضمن مقالات نُشِرَت في الصحافة العبرية – “همشكيف”، “عل همشمار” و”كول هعام” وتضمن نشاطا لعضو الكنيست شموئيل ميكونس من (ماك”ي) “الحزب الشيوعي الإسرائيلي – المترجم” وبعد مرور قليل من الوقت سُمِح لزوجته ولأبنائه بالعودة إلى حيفا. وبينما كان حنّا نقاره في المُعْتَقَل سُجّل في سِجِلّ السكان وحصل على بطاقة هويّة.
في سنة 1951 جرت الانتخابات الثانية للكنيست وكان حنّا نقاره مرشحا عن الحزب الشيوعي. وتبين له أن اسمه لم يُدْرَج في قائمة المُرشحين. وعندما طلب إدراج اسمه أُجيب بالرفض، بحُجّة أنه دخل إسرائيل بطريقة غير قانونيّة. في اعقاب ذلك قدّم التماسا إلى المحكمة المركزيّة في حيفا ضدّ وزير الداخليّة، وقُبِل التماسه بدون مناقشة. وبعد مرور حوالي سنة طلب حنّا نقارة الحصول على جواز سفر فأجيب برفض وزارة الداخليّة أيضا. قدم التماسا إلى محكمة العدل العليا، ومحكمة العدل العليا أجبرت وزارة الداخلية بإعطائه جواز سفر بالاعتماد على قرار المحكمة المركزية السابق بشأنه. قبلت محكمة العدل العليا الاعتراض، كما ورد، في نفس اليوم الذي قبلت فيه التماس صحيفتي “كول هعام”/الاتحاد. وقد قرر القضاة أن مكانة حنّا نقاره قد تحددت كمواطن إسرائيلي من خلال التماسه السابق للمحكمة المركزيّة، ولا مكان لتغييره.

عُرِف حنّا نقارة بين الفلسطينيين في إسرائيل باسم “محامي الأرض” بسبب نضاله ضِدّ مصادرة الأراضي، بينما إسْهامه في ترسيخ حرية التعبير ضلّ مغمورا
لافتة الشارع المسمى درب حنّا نقاره في حيفا تصوير: هلال ذياب
كان حنّا نقاره واحدا من فلسطينيين كثيرين حكمت عليهم ظروف غيابهم عن الدولة بعد قيامها فجعلتهم عرضة للادّعاء بأنه لا يحق لهم الحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة. وعلى ضوء ذلك، ولهذا لم يكن نضال حنّا نقاره ضد محاولة حرمانه من حقوقه الجنسية سنة 1953 نضالا شخصيّا فحسب. ربما تأمّل بأن محكمة العدل العليا ستوسع قرارها القضائي الذي مكّنه من البقاء في البلاد، وبهذا يضمن مكانة مدنيّة لفلسطينيين آخرين اتهموا ب”تسلل” غير قانونيّ إلى إسرائيل. لكن قرار الحُكم لم يشكّل فرضيّة سابقة لذلك. بسبب الظروف الخاصة للحادث، ولهذا لم يكن بالإمكان اعتماده كسابقة في حالات مشابهة أخرى.
ناضل طوال مسيرة حياته من أجل ترسيخ الحقوق المدنيّة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وضد تمييزهم. لكنه مارس نشاطه القضائي بشكل غير مباشر لترسيخ حقوق المواطن الإسرائيلي بشكل عام وضدّ سيطرة أجهزة الدولة. أرست محكمة العدل العليا في التماس “كول هعام/الاتحاد” حريّاتٍ يمارسها اليوم مواطنو إسرائيل على أنها بديهيّات (حالات تقييد حرية التعبير، كما في محاكمة دارين طاطور، أو محرري “تورات هميلخ”، ما هي إلا حالات شاذة تؤكّد القاعدة). كان حنّا نقاره شريكا هامّا في هذا الإنجاز. بينما أحيانا عديدة تفسِّر الأغلبية اليهوديّة في إسرائيل النشاط القضائي والسياسيّ للأقليّة على أنه نشاط فلسطيني– قومي ضدّ الدولة. في الوقت الذي تقدّم لنا التماسات “كول هعام/الاتحاد” مثالا كيف أن النضال القضائي من أجل المساواةٍ للأقلية الفلسطينيّة ساهم في تشكيل الديمقراطيّة الإسرائيليّة وهي في مراحل بلورتها. هذه الصدفة التي وضعت النجاح الجارف لحنّا نقاره في محكمة العدل العليا في التماس “كول هعام/ الأتحاد”، إلى جانب نجاحه المحدود في نضاله من أجل مكانة المواطنين المُتّهمين ب”التسلل”، هذه الصدفة تبرِز الحدود التي وضعتها المحكمة العليا بين طلب الحقوق المدنيّة لجميع المواطنين، وبين وضع تحدٍّ لهيمنة الأغلبيّة اليهوديّة.
*يعتمد ها المقال على بحث مدعوم من الصندوق الوطني للعلوم (رقم 18/1831).
الدكتور غال أمير، زميل بحث في المركز اليهودي – العربي في جامعة حيفا،
حاصل على اللقب الثالث من كليّة الحقوق في حيفا، متخصص في بحث انتقال الحكم من الإمبراطورية العثمانية إلى الانتداب البريطاني ثم إلى الدولة.
الدكتورة نعما بن زئيب، باحثة في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني، زميلة بحث في دائرة علوم إسرائيل في جامعة حيفا وتُدَرِس في كلية تل حي.

من خلود فوراني سرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة