نذير الكفرونية.!

تاريخ النشر: 15/08/18 | 16:57

أُعلن أمس في المسجد , عن وفاة خالتي سعدة الفايز ..
فاختلط بي الحزن , بنوع من الأرتياح .
الحزن على جارة ,لها في قلبي مكان خاص..والأرتياح بسبب زيارتي لها في بيتها , قبل عدة أشهر , وكانت فرصة لأروي ظمئي من حكاياتها , التي روت لي بها, سيرة حياتها ,مع أهل بلدنا والكفرين بلدها , قبل أن تتزوج من جارنا حسين السالم .
وأسرَّت لي سَّرها الدفين ..الذي سجنته في ذاكرتها سنين طوال .
كان عمرها ما يقارب المئه ,عندما جلست على كرسي, بجانب سريرها ..
عندما نظرت إليها, رأيت ان السنون الشرهة امتصت جسمها ,فتحول الى كتلة صغيرة ,لا تشغل إلا حيزاً صغيراً من السرير . وجهها فقد اللحم , فالتصق الجلد بالعظم , فأبرز عينين متقدتين, كأن الزمان نسي ان يعبث بهما .
” مفش فيها إلا اللسان والعينين .! ” هكذا قالت أمي ,عندما سألتها عن حالتها , قبل توجهي لزيارتها.
وخالتي سعدة , تحتل مكانا ً مهماً , في شريط ذاكرتي ..ولن أنسى مجلسها ,على سطح بيتها القديم , الذي يشرف على مفترق طريقين, تمران من جهتي بيتها , فمن مكانها, كانت تستطيع مشاهدة, كل من يمر منهما .
وكان كل مارٍ من أمامها , تعطيه نصييه من الكلمات اللاذعة الهازئة , فمنهم من تسخر من لباسه , أو شكله , أو طريقة سيره , أو تعيِّره بحادثة معيبة في حياته .
“رحت جبت هالفحماوية السمرة , ودشرت بنت عمك إلّي وجهها مثل القمر .!”
رمى لسانها السليط جارنا , عندما مر من أمامها , في ثاني يوم زواجه .
” هلبدلة والله ما هي لايقْتلك .. ! مبين فيها مثل الديك المنفوش ريشه .! ” صرخت بالمختار , عندما قشعته عيناها ,يتبختر بقنبازه الجديد .
” لليش بتفتلي حَوَلين ابن أختك .. بدِّك إسَّمسريه لبنتك..؟!”
أطاحت بعمتي ,عندما شاهدتنا راجعين , من مرافقتها لعيادة الطبيب .
” لليش بتغطي عينك ,فالكل بعرف انك أعور .!؟” قصفت بكيان خالد السعيد , عندما كان يحاول تغطية عينه , بحطة رأسه.
تعوَّد أهل البلد على لسانها مكرهين .. وويل لكل من كانت تسوِّل له نفسه الرد عليها , أو الإحتجاج على مهاجمتها له , فكانت تجتاحه بسيل من ” دررها ” التي لا تنضب فنونها .
مشينا من البلد, ومعنا بنتنا لنزفها الى أهل الكفرين , ونستلم عروسة ابننا حسين السالم .
بدأ أبي يروي قصة بلدنا مع الكفرين..
وكان الملتقى المعتاد, في حالة البدل بيننا, عند بير منيجل . ولما وصلنا, صوَّبنا أنظارنا باتجاه طريقهم , لاحظنا أنهم يقفون على بعد مئة متر من الملتقى .
فبعثنا رسولاً منا ليتبين السبب , ولما رجع من عندهم صدمنا ما أتى به :
“بدهم هِدِم العم والخال .. وطبخة الشباب ..!”
فوقف أبو العريس يصيح كالمطعون : إحنا اتفقنا معهم , ليس عليهم ,ولا علينا هدوم ولا طبخات .!
ولما سمع أهل بلدنا , تناخوا , وتناول كل واحد منهم حجراً أو عصا , وهجموا باتجاههم , وسط صراخ النساء والأطفال.
ونشبت بين الطرفين , معركة حامية الوطيس , اختلط فيها الحابل بالنابل , حتى وصل الأمر , ان يضرب الشاب خاله , والخال ابن اخته .
وإذا بصوت عال يقطِّع ضجيج المعركة :
يا ناس .! يا عالم .! إتقوا الله.. عليش بتتقاتلوا .. انتم نسايب ..وقرايب ..
” مين إلي بحكي .!َ؟ همس عوض الجابر , في أذن عمر اليوسف.
” هذه عروستنا الكفرانية ..! سلَّ عمر همسة من قاع بئر صمته المتجمد .
عروس تخطب بالناس ..!؟ زعق عوض بهمس مسروق .
أسكت ..!! أخرسه عمر ..

واستمر الصوت ,بعد ان أطبق الصمت على المكان :
إرحموا أنفسكم وأولادكم ونساءكم , وفكوا هذا العراك والنزاع , وعودوا الى بلديكما , واحموهما من خطر اليهود الذي يهددهما .
والله ان بقيتم على هذه الحال, الكفرين لن تبقى كفرين !, ولا عرعرة بظَّل عرعرة .!
ولما سكت الصوت ,حضن الرجال بعضهم بعض .. و”تباوسوا” , وتبادلنا العروستان , ورجعنا الى بلدنا “.
أما ما حدث في ” صمدة العروس “, فقد سمعته من أمي :
أجلسناها على كرسي , نصبت فوق طاولة ..وبدأنا بالغناء لها ولعريسها ..
ولما كشفنا غطاء وجهها ..وفحصت النساء وجهها, انطلقت
ألسنتهن السليطة :
شو هالعروس .. !؟ أنوا دلهم عليها ..!؟ همست فاطمة الحسن ..
أعطيناهم قمر ..وأعطونا غراب البين ..! ردت عليها حمدة الصالح .
اطلعن هلعنين, مثل خزوق النمل .! قالت صفية العمر ,
هاي مبين ما في إلها رقبة ..! قالت أم فرح
وتوالت , وارتفعت تعليقاتهن .. كانت العروس تسمع, والدماء تغلي ,وتتصاعد في عروقها ..
وهنا حدثت الواقعة ,التي حفظتها الأجيال في البلد .. وأصبحت جزء من تراثها ..
وقفت العروس على الطاولة , ووسط خمود النساء المشدوهات صرخت :
ما بتخجلن ولا بتستحين ..!؟ كل واحدة منكن تطلَّع على حالها .. بكره بنشوف مين اشطر مني, في الزراعة والتحطيب وشغل البيت .!
وخرجنا من عندها مخزيات ..
وكانت هذه أول مرة, تتكلم عروس من بلدنا, في يوم زفافها .! ولم تنطق واحدة بعدها .!
بدِّي أخرفك هالسِّر .. تكلمت خالتي حسن بعد غياب طويل في صمت عميق :
أمي ماتت ولم تعرفه ..ولا يهمني بعد مماتي من سيعرفه .!
أنا الوحيدة إلي عرفت ..أن أبوي كان متجوِّز بالسَّر, من يهودية من زمارين .. وهي إلي حثته وحرضته, على أن يطلب من أهل عرعرة , الهدوم وطبخة الشباب.!

قصة بقلم : يوسف جمّال – عرعرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة