إضاءة على مجموعة {حَرْفٌ وأمَل} للأديبة أمل سليمان

تاريخ النشر: 12/07/18 | 13:21

{نَثائرُ مُحَلِّقَةٌ تتَّخذُ النَّجْمَ مَقيلَا}

أكرمتني ابنة بلدي الَّتي أجلُّها وأقدِّرها جدًّا، الأديبة الرَّائعة أمل سليمان،

بكتابة مقدِّمة لباكورتها الأدبيَّة “حرف وأمل”، وهو عبارة عن مجموعة

نثائر فنِّيَّة، حلَّقت عبرها بفنِّيَّة تصل أحيانًا حدَّ الإدهاش للقارئ، ورغم

أَنَّ هذا هو الإصدار الأوَّل لأمل، إِلَّا أَنَّ عوامل النُّضج الأدبيِّ والفنِّيِّ

شاخصة في نصوصها، وتنبئ عن أديبة برعت في اقتناص الفكرة

والصُّورة الفنِّيَّة، وشدِّ القارئ وإدهاشه.

صادفت الكثير من الـمُؤلَّفات، وكانت الأولى لأصحابها، وكنت كثيرًا ما

أجد الأديب لا زال يسبح في مياه الإنشائيَّة الرَّاكدة، دون أَنْ يغوص في

البحر المحيط بحثًا عن اللُّؤلؤ في الأعماق، لكِنَّني في هذا الإصدار وجدت

الأديبة أمل قد تجاوزت، بمراحل، الـمياه الإنشائيَّة الرَّاكدة وغاصت في

البحر، تستخرج للقارئ الدُّرر والـمحار على أنواعها وأشكالها، تسحر

العين وتلفت الفكر، تنصب شباك صيدها حَتَّى تعلق بها الصُّور والفِكَرُ،

لا صيد البحر، فتحمل غلَّتها على كتف الخيال قاطعة بها مسافة ما بين

الحلم واليقظة، لتسعد قارئها بصيدها وجناها.

كثيرة هي النَّماذج الَّتي تصلح أَنْ نستشهد بها على حرفيَّة أمل في اقتناص

صورها من حقول الكلام ورياض الخيال، وتأمل قولها في الغجريَّ:

” يقرعُ الدَّربَ بكعبِهِ

فتترنَّحُ قلوبُ العابرات

يسقطنَ سكارى بحبِّهِ

يراقصُ أحلامَهُنَّ الصَّغيرات

وإذا ما انتهى اللَّحنُ

طارَ كأنَّما لا كان ولا جرى” (نص: راقص الفلامنجو).

هذا الغجريُّ الَّذي “يقرع الدَّرب بكعبه”، كناية عن رقص الفلامنجو،

حين يقرع الدَّرب بكعبه تترنَّح قلوب العابرات ويسقطن سكارى بحبِّه،

ويراقص أحلامهنَّ، ثُمَّ بانتهاء اللَّحن والرَّقص يختفي كأنَّه لم يكن.

نستحضر من خلال هذه اللَّوحة صورة الرَّاقص الغجريِّ، ينقر الأرض

بكعب حذائه الخاصِّ بتلك الرَّقصة، والعابرات، أي لسن ضمن حفلة

رقصه، بل أطياف عابرات يسكرهنَّ ذٰلِكَ النَّقر والإيقاع الَّذي يحدثه

“قرع الدَّرب بالكعب”، ثُمَّ الـمَشهد ليس في ميدان أو مسرح، بل على

الدَّرب، فقد يكون هو أيضًا عابرًا، وحين ينهي رقصته يتابع طريقه

ويختفي عن الأعين.

صورة أخرى فيها إبداع وتألّق، رسمتها أمل بحرفيَّة، ونلمس فيها إسقاط

الـمَعنويِّ على الحسِّيِّ بصورة جميلة:

“وكلَّما قلت استقامت نظرته

وطمأنت قلبي

أجدني أتلوَّى من جديد في اعوجاجه

في حروف غمَّستها المراوغة

في صوت يتقمَّص التَّصوُّف

فلا استقامة في هذيان شاعر” (نص: حكاية).

عبَّرت بنظرته عن حاله واستقامته، أي بالجزء عن الكلِّ، وطمأنت قلبها

أَنَّهُ استقام، لكِنْ “أجدني أتلوَّى من جديد في اعوجاجه”، واستعملت

الحسِّي (أتلوَّى/ اعوجاجه) للتَّعبير عن حال معنويٍّ، ثُمَّ لم يستقم،

وحاولت إدراك الحال أو فهم أمره، ووجدت نفسها “تتلوَّى من جديد في

اعوجاجه”، التَّلوِّي توحي باللَّولبيَّة والدَّوران، حول اعوجاجه، والـمعوجُّ

غير مستقيم، لكِنَّ أتلوَّى قد توحي أَيْضًا بالتَّلوِّي ألـمًا، أو بالصبَّر الـمُرِّ

على حاله الَّذي لا ينصلح، كونه مراوغًا غمَّس حروفه أَيْضًا بالـمراوغة،

والصَّوت يتقمَّص التَّصوُّفَ؛ ثُمَّ اعتراف منها أَنْ لا حلَّ معه، فسيظلُّ كما

هو “فلا استقامة في هذيان شاعر”، وَهذا مدح بما يشبه الذَّمَّ، لِأَنَّ

هذيان الشَّاعر لا يمكن أَنْ يكون مستقيمًا، وإلَّا لَـما جاء بالخارق

والـمدهش، فعدم الاستقامة هنا صفة محبَّبة في حاله، وهي لا تفعل

سوى توصيف الحال، فالهذيان أشبه بالفوضى، لكِنَّها فوضى خلَّاقة في

عالم الشُّعراء، وليست كفوضى السِّياسة وأمريكا.

صورة أخرى مفعمة بالعشق تخاطب فيها الـمَحبوب الَّذي ملك عليها

مشاعرها، فلا تريد البعد عنه وتناديه خذني منِّي إليك:

“خُذني منِّي إليكَ

حينَ يَسرقُ الغروبُ شُرودَ عَينَي

شُدَّ وَثاقَ الياسمينِ على خَصرِيَ

طوِّق بكفَّيكَ خُصلاتِ شَعرِيَ المجنون

وهَدهِد نظرَتي التَّائِهَةَ في غاباتِ صَدرِكَ” (نص: خذني).

صورة لا شكَّ جميلة من عاشقة بلغ بها الحدُّ أَنَّها تريده أَنْ يأخذها ليس

من مكان أو زمان أو عائلة أو قبيلة، بل “خذني منِّي إليك”، فهي بلغت

درجة التَّماهي فيه وأصبحت ذاتها غريبة عنها، فتقول له “خذني منِّي

إليك”، خلِّصني من نفسي، لِأَنَّ الغروب يسرق شرود عينها، فهناك ما

يحول بينها وبينه، وشرود عينها ليس في فضاء، بل شرود فيه هو،

فالغروب يسرق هذا الشُّرود، أي يكسر الحال، ويغيِّر اتِّجاه البوصلة

العشقيَّة.

كثيرة هي الـمَعاني الَّتي تستوقف في مجموعة أمل، ويظهر الإبداع جليًّا

فيها، ولديها من الصُّور الـمُبتكرة الكثير أَيْضًا، لكِنْ هذه العاشقة الَّتي

تتوسَّل إليه نجدها أحيانًا تلك الـمُحنَّكة الَّتي لا تنخدع، وتدرك أفعاله

وتصوِّر حاله فإذا هو الـمُتيَّم وكالطِّفل بين يديها: “أعاتبه/فيرنو إليَّ

كطفل يرجو أمَّه/أن لا عتب/فكيف يا من وهبتك عمري/أن

تعتبي/أجاهد في سبيل غضبي/فيضحك/لا تغضبي/أيا نبعًا منه

أرتوي/لا تعتبي/كوني لي الأرض” (نص: عتب).

“أعاتبه، أمَّه، أجاهد في سبيل غضبي”. وبالـمقابل، “يرنو كطفل، لا

عتب، وهبتك عمري، يضحك، لا تغضبي، نبعًا منه أرتوي، لا تعتبي،

كوني لي الأرض”. هنا نجدها القويَّة أمامه وهو الضَّعيف، فهاتان صورتان

متقابلتان تصوِّر كليهما على حاله وهيئته أمام الآخر، فهي قويَّة تعاتب

وتغضب، وتجاهد نفسها في حال الغضب، فليست هذه صورة العاشقة

الَّتي مررنا بها، بل هي البصيرة به، رغم أَنَّها حبيبته بدءًا، لكِنَّها ملكته

بحبِّها، والعتاب من صفات الـمُحبِّين، وما دامت حبيبته فلا غضاضة من

رجائه بألَّا تغضب ولا تعتب، فقد وهبها عمره، وهي نبعه الَّذي يرتوي منه.

تدور معظم نصوص أمل في مجموعتها في مجال الحبِّ والعشق
للمحبوب، ولا غضاضة في ذٰلِكَ، وهناك نصوص وطنيَّة، ويلفُّ الجمال
جميع النُّصوص، وتبحر أمل في نصوصها عميقًا، بحثًا عن الجمال

والـمدهش وما يستحقُّ الحياة، والأدب الحقَّ يستحقُّ الحياة.

لا بدَّ من توضيح حول قولي في بداية الـمُقدِّمة (مجموعة نثائر)، والنَّثائر

جمع نثيرة على وزن قصيدة وقصائد، وكنت أوَّل من أطلق التَّسمية في

بلادنا، في تسعينات القرن الـماضي، على هذا اللَّون الأدبيّ، فهو حديث

في أدبنا العربيّ، وله مجاله وطرقه، ولا ننسى أَنَّ كثيرًا من النَّثائر تفوق

كثيرًا من القصائد في فنِّيَّتها وصورها وإبداعها، لكِنَّ ذٰلِكَ لا يعفي من

وضع الأمور في نصابها الصَّحيح.

كلمة أخيرة: أبارك هذا الـمَولود، وأرجو لأديبتنا وابنة بلدي الرَّائعة،

الأديبة أمل سليمان، الـمَزيد من العطاء والإبداع، وأن يتلو هذا الـمَولود

مواليد أخر، وأن نراها في الـمُستقبل القريب وقد أصبحت من أديبات

الصَّف الأوَّل في بلادنا.

بقلم: محمود مرعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة