إِضاءَةٌ عَلى ديوانِ الشَّاعِرَةِ ساهِرَةَ سَعْدي

تاريخ النشر: 11/07/18 | 10:18

{عَلى كَتِفِ الحُلُمِ}

بقلم: محمود مرعي

اِعْتَدْنا أَنْ تَكونَ الـمَجْموعَةُ الأُولى لِأَيِّ شاعِرٍ/ةٍ يَخْطو عَلى طَريقِ الشِّعْرِ وَالإِبْداعِ،

مُشْتَمِلَةً عَلى هَفَواتٍ هُنا وَهُناكَ، لُغَةً وَوَزْنًا، لٰكِنْ حينَ نُصادِفُ شاعِرَةً تَمَكَّنَتْ مِنْ

أَدَواتِها الإِبْداعِيَّةِ نَصًّا وَمَعْنًى، فَجَديرٌ بِنا أَنْ نَفْرَحَ وَنُبارِكَ لَها أَوَّلًا، ثُمَّ لِلْحَرَكَةِ الأَدَبِيَّةِ في

بِلادِنا، بِوِلادَةِ شاعِرَةٍ تَشُقُّ طَريقَها بَيْنَ الشُّعَراءِ بِكُلِّ بِثِقَةٍ.

قَبْلَ الوُلوجِ إِلى مادَّةِ الدِّيوانِ عَبْـرَ الإِضاءَةِ، لا بُدَّ مِنَ الوُقوفِ عَلى العَتَبَةِ، وَالعَتَبَةُ هُنا

هِيَ عُنْوانُ الدِّيوانِ “عَلى كَتِفِ الحُلُم…”.

والعنوان لغة، جاء في لسان العرب ” عَنَّ الكِتابَ يَعُنُّه عَنًّا وعَنَّنه: كَعَنْوَنَه، وعَنْوَنْتُه

وعَلْوَنْتُه بمعنى واحد، مشتق من المَعْنى.

وقال اللَّحيانيُّ: عَنَّنْتُ الكتابَ تَعْنينًا وعَنَّيْتُه تَعْنِيَةً إذا عَنْوَنْتَه، أَبدلوا من إِحدى

النُّونات ياء، وسمِّي عُنْوانًا لأَنَّه يَعُنُّ الكِتابَ من ناحِيتيه، وأَصله عُنَّانٌ، فلمَّا كثرت
النُّونات قلبت إحداها واوًا، ومن قال عُلْوانُ الكتاب جعل النُّون لامًا لأَنَّه أَخفُّ وأَظهر
من النُّون.

وقال حسَّان بن ثابت يرثي عثمان، رضي الله تعالى عنه:

ضَحّوا بأَشْمطَ عُنوانُ السُّجودِ به- يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنَا

وقال أَبو دواد الرُّوَاسِيّ:

لمن طَلَلٌ كعُنْوانِ الكِتابِ- ببَطْنِ أُواقَ، أَو قَرَنِ الذُّهابِ؟

قال ابن بِرِّي: ومثله لأَبي الأَسود الدُّؤَليّ:

نظَرْتُ إلى عُنْوانِه فنبَذتُه- كنَبْذِكَ نَعلاً أَخلقَتْ من نِعالكا.

وعُنْوانُ الكتاب: مُشْتَقّ فيما ذكروا من المَعْنَى، وفيه لغات: عَنْونْتُ وعَنَّيْتُ وعَنَّنْتُ.

وقال الأَخْفش: عَنَوْتُ الكتاب واعْنُه؛ وأَنشد يونس:

فَطِنِ الكِتابَ إِذا أَرَدْتَ جوابَه- واعْنُ الكتابَ لِكَيْ يُسَرَّ ويُكْتما

قال ابن سِيده: العُنْوانُ والعِنْوانُ سِمَةُ الكِتابِ.

وعَنْوَنَه عَنْوَنَةً وعِنْوانًا وعَنَّاهُ، كِلاهُما: وَسَمَه بالعُنوان”(1)( ).

والعنوان لغة: سمة وعلامة وأثر يدلُّ على شيء تعريضًا.

وحديثنا هنا محصور في العنوان أدبيًّا، وَإِلَّا فكون العنوان سمة وأثرًا، يضيء في الذِّهن

موضوع وسم الإبل والخيل عن العرب حَتَّى في جاهليَّتهم القديمة، وليس هٰذا مجال

حديثنا. وقد كانت الشِّفاهيَّة سمة الشِّعْر العربيِّ القديم حَتَّى عصر التَّدوين، وكان

المتلقِّي يسمع القصيدة مباشرة، من فم الشَّاعِر أو الرَّاوية، فقد كان لكلِّ شاعر راويةٌ

لشعره، وحتَّى الـمعلَّقات الجاهليَّة كانت تعرف بـ “معلَّقة فلان” بلا عنوانَ لها. ولا

أظنُّني مغاليًا حين أقول إِنَّ عنونة النُّصوص عند العرب بدأت مع القرآن في وضع

عناوين لسوره الكريمة، بأمر من الرَّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، على أرجح

الأقوال؛ ثُمَّ الفقه الَّذي اتَّصف العنوان فيه بالوجازة، فَهٰذا كتاب “الأمّ” للشَّافعي،

وَهٰذا “الموطَّأ” للإمام مالك. أَمَّا الشِّعْرُ العربيُّ فكان التَّصنيف حسب اسم الشَّاعِر،

فَهٰذا “ديوان امرئ القيس” وَهٰذا “ديوان البحتـري”، ثُمَّ صار ترتيب الشِّعْر تبعًا

لقوافيه على حروف المعجم، فَهٰذِهِ ” سينيَّة البحتري” وَهٰذِهِ “داليَّة المتنبِّي”، لٰكِنْ كان

العنوان مجرَّد سمة ودالٍّ على النَّصِّ ولا يشير إلى شيء داخل النَّصِّ، هو عنوان هٰذا

النَّصِّ فقط لتسهيل الوصول إليه.

وَفي الدِّراساتِ الحَديثَةِ نَجِدُ العُنْوانَ جُزْءًا لا يَتَجَزَّأُ مِنَ النَّصِّ، فَهُوَ رِسالَةٌ لُغَوِيَّةٌ

تُعَرِّفُ بِتِلْكَ الهُوِيَّةِ وَتُحَدِّدُ مَضْمونَها، وَتَجْذِبُ القارِئَ إِلَيْها، وَتُغْريهِ بِقِراءَتِها، وَهُوَ

الظَّاهِرُ الَّذي يَدُلُّ عَلى باطِنِ النَّصِّ وَمُحْتَواهُ، كَما تَرى النَّاقِدَةُ بُشْرى البُسْتاني(2)( ).

وَحينَ يَخْتارُ الشَّاعِرُ عُنْوانًا لِديوانِهِ أَوْ قَصيدَتِهِ، فَهُوَ إِنَّما يَخْتارُهُ وِفْقًا لِإِحاطَتِهِ بِظاهِرِ

النَّصِّ وَباطِنِهِ، وَما أَرادَ أَنْ يوصِلَ لِلْقارِئِ مِنْ خِلالِ ما يوحي بِهِ العُنْوانُ، وَهٰذا ما يُمْكِنُ

الوُقوفُ عَلَيْهِ بِسُهولَةٍ عَبْرَ عُنْوانِ ديوانِ الشَّاعِرَةِ، وَرَغْمَ أَنَّهُ عُنْوانٌ داخِلِيٌّ أَيْضًا،

حَيْثُ هُوَ عُنْوانُ إِحْدى القَصائِدِ، إِلَّا أَنَّهُ تَأْويلِيٌّ وَدالٌّ عَلى مَعْنًى أَرادَتِ الشَّاعِرَةُ لَفْتَ

نَظَرِ القارِئِ إِلَيْهِ، “عَلى كَتِفِ الحُلُمِ”، فَـ(الكَتِفُ) شَيْءٌ مادِّيٌّ وَ(الحُلُمُ) مَعْنَوِيٌّ،

وَالبِدايَةُ (عَلى) أَيْ فَوْقَ، إِذَنْ، هُوَ دالٌّ عَلى حالَةٍ تَعيشُها الشَّاعِرَةُ مَعْنَوِيًّا، يَكْشِفُ هٰذا

قَوْلُها في قَصيدَةِ (عَلى كَتِفِ الحُلُمِ):

“كَالياسَمينِ إِذا تَفَتّحَ زَهْرُهُ/فاحَ العَبيرُ وَصارَ شَوْقي أخْضَرَا/كَسَحابَةٍ مَلآى تَقَطّرَ

شَهْدُها/فَسَقى الفُؤادَ حَلاوَةً/وَرَوى بِها نَفْسي غَرامًا مُثْمِرَا/مِنْ أيِّ قافِيَةٍ تَسَلَّلَ

نَحْوَنا/مِنْ أيِّ حَرْفٍ مَرَّ يا عُمْري هُنا/فَغَدا الطَّريقُ جَداوِلًا/ بَلْ أنْهُرَا”.

فَالحُلُمُ وِفْقَ هٰذا هُوَ حالَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تَعيشُها الشَّاعِرَةُ وَيُمْكِنُها الإِحاطَةُ بِمضامينِ الدِّيوانِ

كافَّةً، وَيُمْكِنُنا إِسْقاطُها كَمَعْنًى عامٍّ لِلْمَجْموعَةِ، وَهِيَ أَيْضًا عَتَبَةُ الدِّيوان الَّتـي يَلِجُ

عَبْرَها القارِئُ إِلى مَضامينِ الشَّاعِرَةِ في قَصائِدِها.

قَرَأْتُ ديوانَ شاعِرَتِنا، ساهِرَةَ، فَوَجَدْتُها سَبَّاحَةً ماهِرَةً في بُحورِ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ، تَكْتُبُ

القَصيدَةَ العَرَبِيَّةَ الأَصيلَةَ، وَتَكْتُبُ قَصيدَةَ التَّفْعيلَةِ وَتَكْتُبُ النَّثيـرَةَ، بِكُلِّ تَمَكُّنٍ،

وَلِلصِّدْقِ فَقَدْ حاوَلْتُ العُثورَ عَلى هَنَةٍ هُنا وَهُناكَ بَيْنَ ثَنايا الدِّيوانِ، في الأَوْزانِ لٰكِنْ لَمْ

أَعْثُرْ، وَهٰذِهِ شَهادَةٌ لِشاعِرَتِنا لِكَوْنِ هٰذا هُوَ ديوانُها الأوَّلُ، وَما زالَتْ في أَوَّلِ الطَّريقِ،

وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ هَناتِ الوَزْنِ في بِداياتِهِ.

قُلْنا إِنَّ شاعِرَتَنا تُجيدُالإِبْحارَ في عالَمِ الشِّعْرِ، وَلَـمَسْتُ تَأَلُّقَها في مَجالِ الغَزَلِ وَالعِشْقِ

بِشَكْلٍ بارِزٍ، فَتَسيلُ كَلِماتُها رَقيقَةً عاشِقَةً، وَلَعَلَّ مَرَدَّ ذٰلِكَ إِلى طَبيعَةِ الأُنْثـى وَرِقَّتِها

بِشَكْلٍ عامٍّ، وَمِنْ غَزَلِيَّاتِ شاعِرَتِنا، نَقْرَأُ مِنْ قَصيدَةِ “عَواطِفُ مُتَسَرِّبَةٌ”:

“يَنْساكَ نَبْضي لَحْظَةً لا ساعَةً- فَيَعودُ قَلْبـي لِلْهَوى يَتَحَضّرُ

فأراهُ يَرْقُصُ حينَ يَلْمَحُ طَرْفَكُم- والسِّـحْرُ في الأهْدابِ قَلْبـي يُسْكِرُ

وَنَذَرْتُ نَبْضي لِلْهَوى لَـمَّا التَقَتْ- عَيْنـي بِعَيْنِكَ في بَريقٍ يُبْهِرُ

عَيْناكَ.. يا لُغَةَ الجَمالِ وَسِحْرَها- هَلْ لي نَجاةٌ حينَ فيها أبْحِرُ”.

هٰذِهِ الرِّقَّةُ تَكْمُنُ خَلْفَها روحٌ شَفَّافَةٌ، أَبَتْ إِلَّا البَوْحَ بِمَكْنونِها لِلْحَبيبِ، فَهِيَ بِمُجَرَّدِ

مُرورِ لَحْظَةٍ يَرْكُضُ قَلْبُها اسْتِعْدادًا لِلِقاءِ الحَبيبِ، وَيَرْقُصُ لِـمُجَرَّدِ أَنْ يَلْمَحَ طَيْفَهُ،

كَيْفَ لا، وَقَدْ نَذَرَتِ النَّبْضَ لِلْهَوى وَالعِشْقِ مُنْذُ الْتَقَتْ أَعْيُنُهُما، وَنَرى عَيْنَيِهِ مِنْ

خِلالِ رُؤْيَتِها لَهُما، فَإِذا السِّحْرُ وَالجَمالُ فيهِما، وَنَراها بَعْدَها قَدِ اسْتَسْلَمَتْ فَلا

نَجاةَ لَها بَعْدَ إِبْحارِها في لُغَةِ الجَمالِ- عَيْنَيْهِ. وَنَقْرَأُها في مَوْضِعٍ آخَرَ، في قَصيدَةِ “أَلا

يَكْفيكَ؟”:

“أتَدْري الرّوحُ أنَّ العُمْرَ يَجْـــري؟- وَيَسْرِقُ مِنْ شَغافِ القَلْبِ صَبْري

ويَأخُـــذُني مِنَ الأفْراحِ دَهْـــرٌ- فَيَذْبُلُ في جِرارِ الحُبِّ زَهْــــري

فَرِفْقًا.. لَسْتُ أبْغي غَيْـرَ وَصْــلٍ- ألا يَكْفيــكَ إيلامـــي وَهَجْـــري؟

فَما نَفْعُ الحَياةِ إذا ابْتُلينــــا- بِعُمْرٍ يُلْهِبُ الأنْفاسَ يُغْــــري؟

تَقَبّلْ عاشِقًا يَرْجـــو حَيـــــاةً- وَساعِدْني .. ألا يَكْفيكَ عُذْري؟”.

إِنَّها العاشِقَةُ الخائِفَةُ مِنْ مُضِيِّ الأَيَّامِ، وَتَخْشى أَنْ يَمْضي بِها الزَّمَنُ وَلا تَصِلَ

الـمُبْتَغى، وَهِيَ لا تَطْلُبُ غَيْـرَ الوَصْلِ، وَتَسْأَلُهُ الرِّفْقَ، وَتَشْكو مِنْ إِيلامِهِ لَها وَهَجْرِهِ،

وَتَسْأَلُهُ في الخِتامِ أَنْ يَتَقَبَّل (عاشِقًا) يَرْجو الحَياةَ في ظِلالِ الحُبِّ، وَتَطْلُبُ

مُساعَدَتَهُ في ذٰلِكَ. وَمِنْ شِعْرِها التَّفْعيلِيِّ نَقْرَأُ مِنْ قَصيدَتِها “حِوارٌ”:

“قالَتْ:/حَرِّرْ يَدَيْكَ/وَضُمَّني/باعِدْ جِبالَ الشَّوقِ عَنّي/لُـمَّني”.

عاشِقَةٌ تَشْعُرُ أَنَّ يَدَيْ حَبيبِها مُقَيَّدَتانِ فَتَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحَرِّرَهُما وَيَضُمَّها، وَأَنْ يُبْعِدَ

عَنْها حِمْلَ شَوْقِها “جِبالَ الشَّوْقِ”، أَيْ أَنْ يُنْهِيَ مُعاناتَها وَيَلُمَّها، فَكَأَنَّها بِدونِهِ مُبَعْثَرَةٌ.

“لِلصّدرِ كيْ أُصْغي لِنَبضِكَ/كمْ لحِضْنِكَ نَبْضُ قَلْبي/شَدَّني”.

تُريدُ أَنْ يَضُمَّها إِلى صَدْرِهِ لِتُصْغِيَ لِنَبْضِهِ، فَأَيُّ لَهْفَةٍ وَعِشْقٍ يَسْكُنانِها تِجاهَهُ حينَ
يَشُدُّها لِحِضْنِهِ نَبْضُ قَلْبِها.

“يَجْتاحُ حُبُّكَ أضْلُعي/يَحْتَلّني/فَأراكَ في قِمَمِ السّماءِ كَغَيمَةٍ/وأظَلُّ أرْقُبُ لَوْ تزورُ

دُموعُها/أرْضي اليَبابْ/يا لَيْتَها…”.

اِعْتِـرافٌ صَريحٌ بِلا أَيِّ تَحايُلٍ، كَعادَةِ العاشِقاتِ في أَمْرِ الوِصالِ، حَيْثُ تَتَحايَلُ

العاشِقَةُ عَلى مَعْشوقِها وَتَتَدَلَّلُ، لٰكِنْ هُنا بَلَغَ العِشْقُ دَرَجَةً لا مَجالَ مَعَها سِوى لِلْبَوْحِ

وَالتَّصْريحِ، فَحُبُّهُ يَجْتاحُها، يَحْتَلُّها، وَتَراهُ كَغَيْمَةٍ في السَّماءِ، وَتَظَلُّ تَرْقُبُ أَنْ تُمْطِرَ

فَتَرْوي أَرْضَها اليَبابَ- روحَها- وَتَتَمَنَّى ذٰلِكَ.

“يا لَيتَني/أُخْفي ارْتِباكَ النّبْضِ فِيَّ/إلى مَتَى دَرْبُ السَّراب/يا ليْتَني بِالقُرْبِ مِن

عَيْنَيكَ/حَتّى أمْلأَ العَيْنَيْنِ نورًا/ليْتَني …”.

وَلِشِدَّةِ بَوْحِها وَعِشْقِها تَتَمَنَّـى لَوِ اسْتَطاعَتْ إِخْفاءَ حالَتِها وَارْتِباكِ نَبْضِها، فَكَأَنَّها

مَسْلوبَةُ الإِرادَةِ أَمامَ عِشْقِها، لٰكِنَّها الرُّوحُ العاشِقَةُ الَّتي تَطْفَحُ لَهْفَةً وَشَوْقًا، وَتَتَمَنَّـى لَوْ

كانَتْ قُرْبَ عَيْنَيْهِ لِتَمْلَأَ عَيْنَيْها نورًا مِنْ نورِهِما. وَمِنْ نَثائِرِ الشَّاعِرَةِ نَقْرَأُ نَثيرَتَها “ما زِلْتُ

أَنْتَظِرُ”:

“افتَرَشْتُ مَساحَةً مِن هٰذا الـمَساء/كي يتَسَنّى لي رَسْمُ خُطوطِ يَدَيْك/سَرَقْتُ الأمَلَ

منَ الوَقتِ/مَلأْتُ جَرَّةَ لَيْلَتي بِالكِبْرِياء/عَلّقْتُ أُمْنِيَتي على سَطْحِ القَمَر/حُلُمي نَجْمَةٌ

في راحَتَيْك/وَقُلْتُ سَأنْتَظِرُكَ هُناكَ/في ظِلِّ الياسَمينَةِ/الّتي أزْهَرَتْ يومَ لِقائِنا/ما

زِلْتُ أنْتَظِرُ وأنا أنْصِتُ/لِوَقْعِ قَدَمَيْكَ القادِمَتَيْن/أيَأتي؟”.

إِنَّها نَفْسُ العاشِقَةِ، وَلٰكِنْ في مَشْهَدٍ مُخْتَلِفٍ، فَقَدِ افْتَرَشَتْ مِساحَةً مِنَ الـمَساءِ لِيَتَسَنَّى

لَها رَسْمُ خُطوطِ يَدَيْهِ، وَأَرى قَوْلَها “مَلأْتُ جَرَّةَ لَيْلَتي بِالكِبْرِياء” لا يُشيرُ إِلى حَقيقَتِها، فَلا

مَكانَ لِلْكِبْرِياءِ بَيْنَ الحَبيبَيْنِ، لِأَنَّ فيها عِنادًا وَوُقوفَا عَلى رَأْيٍ أَوْ مَوْقِفٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى لَوْ

أَدَّى الأَمْرُ إِلى الفِراقِ، لِذا فَالكِبْرِياءُ بَيْنَ العُشَّاقِ لا مَكانَ لَها لِأَنَّ كُلَّ عاشِقٍ يَسْعى لِرِضى

مَعْشوقِهِ، وَيَدُلُّ عَلى نَفْيِ الكِبْرِياءِ، أَنَّها سَتَنْتَظِرُهُ في ظِلِّ الياسَمينَةِ الَّتـي أَزْهَرتْ يَوْمَ

الْتَقَيا، وَها هِيَ ما زالَتْ تَنْتَظِرُ، بَلْ وَأَكْثَرُ، فَهِـيَ تُنْصِتُ لِتَسْمَعَ وَقْعَ قَدَمَيْهِ في حالِ قَدِمَ،

وَتَتَساءَلُ: أَيَأْتي؟، فَهٰذِهِ حالُ عاشِقَةٍ تَتَلَهَّفُ لِلِقاءِ الـمَحْبوبِ، وَانْتِظارُها وَإِنْصاتُها لِوَقْعِ

الأَقْدامِ يَدُلَّانِ عَلى شِدَّةِ الشَّوْقِ وَاللَّهْفَةِ وَيَنْفِيانِ الكِبْرِياءَ مِنْ نَفْسِ العاشِقِ.

عَبْـرَ رِحْلَتـي في ديوانِ شاعِرَتِنا، في نُصوصِ الحُبِّ وَالعِشْقِ، فَهِيَ واحِدَةٌ في الشِّعْرِ

وَالنَّثْرِ، تَسْكُبُ نَصَّها مِنْ فَيْضِ روحِها، بِمَعانٍ سامِيَةٍ رَقيقَةٍ، وَلا تَخْشى البَوْحَ عَنْ

مَكْنونِ حُبِّها، وَقَدْ جاءَ تَسْليطُنا الضَّوْءَ عَلى هٰذا الجانِبِ لِأَنَّهُ الأَبْرَزُ في ديوانِ شاعِرَتِنا

وَيَحْتَلُّ مِساحَةً كَبيـرَةً، لٰكِنَّهُ لَيْسَ وَحْدَهُ، فَهُناكَ جَوانِبُ وَأَبْوابٌ أُخْرى تَطْرُقُها شاعِرَتُنا

وَتَمْخُرُ عُبابَ الـمَعاني فيها. تَكْتُبُ عَنْ ذِكْرَياتِ الطُّفولَةِ في نَثيـرَةِ “لَوْحَةٌ طُفولِيَّةٌ”،

مُسْتَرْجِعَةً أَحْداثَ الطُّفولَةِ وَشَغَبَها عَبْرَ الذِّكْرَياتِ:

” هَلْ تَذْكُرينَ ألعابَ طُفولَتِنا؟/طَبَقَ عُلَبٍ فارِغَةٍ/أعْوادًا لَحَسَ الزّمَنُ

حَلاوَتَها/قِماشًا مُتّسِخًا بأخْطاءِ مَنْ يَكْبُرُنا بِالـمعْرِفَةِ/كُرَةً لمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّها/وأحْجارًا

سَبْعَةً، لو اسْتَطَعْنا أنْ نَرْشُقَ بها/كُلَّ مَنْ مَرَّ عَبْرَ فِكْرِنا/وَلَمْ يُقَبِّلْهُ احْتِضانًا”.

وَتَكْتُبُ لِلْأُمِّ، قَصيدَةَ “إِلى أُمِّي”:

“وَرَسَمْتُ وَجْهَكِ باسِمًا لَـمَّا انْطَوى- وَجْهُ الرّبيعِ وَتاهَ حُسْنًا في الفَلاهْ

فَتَراجَعَتْ كُلُّ الفُصولِ وَعَجّلَتْ – بَوْحَ الوُرودِ فَعادَ يَنْبِضُ بِالحَياهْ

وتَزاحَمَتْ كُلُّ الزّهورِ بِلَهْفَةٍ- في ساعِدَيْكِ كَأنّها تَرْجو النّجاهْ

حامَ الفَراشُ وَفَوْقَ خَدِّكِ ما ارْتَوى- أوَ يَرْتوي وَزُهورُ خَدِّكِ مُبْتَغاهْ

لَيْتَ الرّبيعَ يَدومُ فينا مُزْهِرًا- لِيَظَلَّ يَمْضي العُمْرُ هَوْنًا في أناهْ

وَقَدْ كَتَبَتْ قَصيدَتَها عَلى الكامِلِ التَّامِّ، وَاسْتَعْمَلَتِ التَّذْييلَ، وَعِنْدَ العَروضِيِّينَ القُدَماءِ

لا زِيادةَ في البُحورِ السُّداسِيَّةِ، وَمِمَّنْ أَشارَ لِذٰلِكَ، الشَّيْخُ ضِياءُ الدِّينِ الخَزْرَجِيِّ (589-

686ه) في مَقْصورَتِهِ (الرَّامِزَةُ الشَّافِيَةُ في عِلْمِ العَروضِ وَالقافِيَةِ):

“فَزِدْ سَبَبًا خِفًّا لِتَرْفيلِ كامِلٍ- بِغايَتِهِ مِنْ بَعْدِ جَزْءٍ لَهُ اهْتَدى

وَمَجْزوَّ هَجْ ذَيِّلْهُ بِالسَّكْنِ ثامِنًا- وَسَبِّغْ بِهِ الـمَجْزوَّ في رَمَلٍ عَرا”.

(فَزِدْ سَبَبًا خِفًّا) أَيْ زِدْ سَبَبًا خَفيفًا، لِكامِلٍ بِغايَتِهِ، أَيْ في نِهايَةِ الكامِلِ، مِنْ بَعْدِ جَزْءٍ لَهُ،

أَيْ مِنْ بَعْدِ كَوْنِهِ مَجْزوءًا، وَهٰذا يَعْني ضِمْنًا أَنَّ التَّرْفيلَ لا يَدْخُلُ عَلى الكامِلِ التَّامِّ، إِنَّما

يَدْخُلُ عَلى مَجْزوءِ الكامِلِ فَقَطْ،(مُتَفاعِلُنْ+ تُنْ= مُتَفاعِلاتُنْ).

(وَمَجْزُوَّ هَجْ)، أَيْ مَجْزوءَ الكامِلِ (ه 5) وَمَجْزوءَ البَسيطِ (ج 3)، ذَيِّلْهُ، أَيْ زِدْ عَلَيْهِ،

وَهُوَ عِلَّةُ التَّذْييلِ، وَسَبَقَها الكَلامُ عَلى التَّرْفيلِ، وَهُما عِلَّتانِ تَدْخُلانِ عَلى ما آخِرُهُ وَتِدٌ

مَجْموعٌ (عِلُنْ)، وَكَذٰلِكَ قالَ الشَّيْخُ الصَّبَّانُ في الكافِيَة الشَّافِيَةِ:

“هَمى حَمْلُ جَطِّي صَحِّحِ اقْطَعْهُ حُذَّهُ – بِإِضْمارِهِ وَاحْذُذْ بِإِضْمارِهِ وَلا

وَفي الجَزْءِ صَحَّا اقْطَعْهُ رَفِّلْهُ ذَيِّلَنْ- وَلي ابْنِ ابْنِ صَحِّحَنْهُما احْذِفْهُ تَعْدِلَا”

ما يَعْنينا هُنا هُوَ صَدْرُ البَيْتِ الثَّاني، حَيْثُ قالَ الصَّبَّانُ في شَرْحِ الكافِيَةِ “وَقَدْ ذَكَرْتُ

ذٰلِكَ بِقَوْلي (وَفي) حالِ (الجَزْءِ صَحَّا) أَيِ العَروضُ وَالضَّرْبُ وَ (اقْطَعْهُ) أَيِ الضَّربَ وَ

(رَفِّلْهُ) وَ (ذَيِّلَنْ) أَيِ الضَّرْبَ”(3)( ).

لٰكِنْ مِنْ سِياقِ القَصيدَةِ نَلْمَسُ الأَلَمَ في روحِ الشَّاعِرَةِ، فَهِيَ تُخاطِبُ أُمَّها، وَبِالتَّالي

نُحِسُّ بِالآهِ حَتَّى مِنْ سِياقِ القَصيدَةِ، وَلَعَلَّ ما يَشْفَعُ لِلشَّاعِرَةِ أَنَّ الآهَ (آهْ) جاءَتْ صَوْتًا

يَخْتِمُ كُلَّ بَيْتٍ، أَلِفَ مَدٍّ مَعَ الهاءِ السَّاكِنَةِ، كَأَنَّها زَفْرَةُ أَلَمٍ تُخْرِجُها، وَالهاءُ مِنْ حُروفِ

الحَلْقِ، يَخْرُجُ مِنْ أَقْصى الحَلْقِ، فَناسَبَتِ الآهُ الـمَعْنى وَلا تُشْعِرُنا الزِّيادَةُ هُنا بِشَيْءٍ مِنَ

النَّشازِ.

وَتَكْتُبُ ثائِرَةً في وَجْهِ الجَهَلَةِ وَالَّذينَ يَنْتَقِدونَ لِـمُجَرَّدِ النَّقْدِ وَانْتِقاصِ الشَّاعِرَةِ، فَنَقْرَأُها

في قَصيدَةِ “عِتابٌ” الَّتـي وَإِنْ أَسْمَتها “عِتابٌ” فَقَدْ جاءَتْ خاتِمَتُها ثَوْرَةً:

“ما بَينَ حَرْفي واللَّقَبْ- قَدْ سالَ دَمْعٌ فـي عَتَبْ

كُلُّ الخَلائِقِ تَرْتَجـي- وَالحَرْفُ لَيْسَ لِـمَن رَغِبْ

جَمْعُ الحُروفِ هِوايَةٌ- تُجْنَـى بِها أشْهى الرُّطَبْ

وَيَظَلُّ حَرْفي غايَتي- لا أبْتَغي فيهِ الرُّتَبْ

تَتَأَلَّمُ وَتَدْمَعُ عَيْناها لِلْحالِ، وَتُعْلِنُ أَنَّ الحَرْفَ، أَوِ الشِّعْرَ لَيْسَ لِـمَنْ رَغِبَ، فَلا بُدَّ مِنْ

أُمورٍ أُخْرى مَعَ الرَّغْبَةِ، وَحُروفُ شاعِرَتِنا هِيَ غايَتُها لا تَبْتَغي مِنْ ورائِها رُتَبًا وَمَناصِبَ،

وَبِهٰذا، فَهِيَ حامِلَةُ رِسالَةٍ سامِيَةٍ لَيْسَ الهَدَفُ مِنْها الشُّهْرَةَ، لٰكِنْ في خِتامِ القَصيدَةِ

يَنْقَلِبُ الحالُ مِنَ الأَلَمِ وَالدُّموعِ إِلى التَّحَدِّي وَالاِسْتِعْدادُ لِلْمُواجَهَةِ مَعَ “أَبي لَهَبٍ” وَيا لَهُ

مِنْ تَقْريعٍ لِهٰذا الـمُتَطَفِّلِ عَلَيْها الـمُنْتَقِصِ أَدَبَها بِغَيْرِ حَقٍّ:

“سَقْفُ الأماني قَدْ عَلا- والشِّعْرُ يَجْري في العَصَبْ

وَغدا الدَعِيُّ بِجَهْلِهِ- وَحْشًا علـى حَرْفي وَثَبْ

هَلْ ظالِمٌ مِثلُ الّذي- أَمْسَتْ بِضاعَتُهُ الشَّغَبْ

ما كُنْتُ شاعِرَةً أنا- دونَ التَّبَحُّرِ في الكُتُبْ

[…………….] […………….]

يا كافِرًا بِرِسالَتي- “تَبّتْ يَداكَ أبا لَهَب”

ما ضاعَ لي حُلُمٌ هُنا- وَالصِّدْقُ لي وَلَكَ الكَذِبْ

وَمَتـى اسْتَثَرْتَ حَفيظَتـي- فَالنّارُ أوّلُها الغَضَبْ”.

تُعْلِنُ بِكُلِّ وُضوحٍ أَنَّ الشِّعْرَ يَجْري مِنْها في العَصَبِ، أَيْ أَنَّها لَيْسَتْ هاوِيَةَ كِتابَةٍ، بَلْ هِيَ

مُتَمَرِّسَةٌ، ثُمَّ يَأْتي هٰذا الدَّعيُّ الظَّالِمُ الَّذي بِضاعَتُهُ لَيْسَتْ سِوى الشَّغَبِ لِيُهاجِمَها، وَلَوْ

لَمْ تَكُنْ قَدْ تَبَحَّرَتْ في الكُتُبِ وَثَقَّفَتْ نَفْسَها لَـما كانَتْ شاعِرَةً، وَتُخاطِبُهُ بِقَوْلِها “يا كافِرًا

بِرِسالَتي”، فَهِـيَ تَعْتَبِـرُ الأَدَبَ رِسالَةً سامِيَةً تَسْتَحِقُّ ما تُقاسي في سَبيلِ إِيصالِها، ثُمَّ

تَقولُ لَهُ ” تَبَّتْ يَداكَ أَبا لَهَبْ”، وَقَدْ جاءَتِ القافِيَةُ الـمُقَيَّدَةُ، باءً ساكِنَةً، وَالباءُ مِنْ

حُروفِ القَلْقَلَةِ، وَتُظْهِرُ هُنا حِدَّةَ النَّبْرَةِ وَعُلُوَّها، أَيْ أَنَّ الشَّاعِرَةَ في حالَةِ تَوَثُّبٍ وَلَيْسَتْ

في حالَةِ سُكونٍ وَهُدوءٍ، وَبِاسْتِعْراضِ هٰذا البَيْتِ وَالبَيْتِ الأَخيرِ وِفْقَ مُؤَشِّرِ م/ع(4)( )

سنقف على حقيقة الحالة النفسية للشاعرة:

صَدْرُ البَيْتِ الأوَّلِ جاءَ كَتَمْهيدٍ لِـما سَيَأْتي، لِذا كانَ مُؤَشِّرُ ع 4 وَمُؤَشِّرُ م 1، أَيْ 1/4،

أَيْ رُبْعٌ، وَهُوُ مُسْتَوًى مُنْخَفِضٌ يَدُلُّ عَلى هُدوءٍ وَاسْتِرْخاءٍ نَوْعًا ما، وربَّما تركيز الذَّاكرة

على اختيار الرَّدِّ الـمناسب، والتَّركيز يحتاج الهدوء والاسترخاء، بَيْنَما عَجُزُ البَيْتِ

انْقَلَبَ الحالُ، فَجاءَ مُؤَشِّرُ م 3 وَمُؤَشِّرُ ع 2، أَيْ 3/2، أَيْ 5،1 وَهِيَ نِسْبَةٌ مُرْتَفِعَةٌ تَدُلُّ

عَلى حالَةٍ نَفْسِيَّةٍ غاضِبَةٍ مُتَوَثِّبَةٍ، وَخُتِمَتِ القافِيَةُ بِحَرْفِ الباءِ السَّاكِنِ الَّذي يُمَثِّلُ

زَفْرَةَ الغَضَبِ وَحِدَّتَها. أَمَّا صَدْرُ البَيْتِ الأَخيرِ فَجاءَ الـمُؤَشِّرُ م/ع مُتَعادِلًا 2/2، أَيْ حالَةُ

اتِّزانٍ، لٰكِنْ في عَجُزِ البَيْتِ انْقِلابُ الحالِ بِشَكْلٍ لافِتٍ لِلنَّظَرِ، جاءَ مُؤَشِّرُ م4 وَمُؤَشِّرُ

ع1، أَيْ 4/1= 4 وَهٰذِهِ حالَةٌ نَفْسِيَّةٌ غاضِبَةٌ جِدًّا مُنْذِرَةٌ بِالهُجومِ؛ وَبَيْنَما كانَتْ في حالَةِ

التَّوَثُّبِ دِفاعًا عَنْ نَفْسِها وَرِسالَتِها وَأَدَبِها، نَجِدُها في قَصيدَةِ “نَقاءُ روحٍ” تُلْقي اللَّوْمَ عَلى

الزَّمَنِ الَّذي يَرْفَعُ الوَضيعَ الجَهولَ وَيَخْفِضُ الكَريمَ وَالأَصيلَ:

“غَرَّ الجَهولَ تَواضُعي وَتَأدُّبي- وَجَميلُ صَبْري في الفُؤادِ الخافِقِ”

فَهُوَ جَهولٌ غَرَّهُ تَواضُعُها وَأَدَبُها وَخُلُقُها وَصَبْرُها، فَتَمادى لِجَهْلِهِ، فَتُعَرِّفُهُ بِنَفْسِها

وَأَصالَتِها وَسيرَتِها إِلى أَنْ تَقولَ لَهُ:

“وَأنــا السّليلَةُ قدْ كَبُـرْتُ وفي يَدي- كَأسُ الكَرامَةِ في الـمَكانِ الشّاهِقِ

ما كانَ مِثْلُكَ في حِساباتي سوى – غِــــرٍّ تَمَلَّقَ كُــــلَّ عــــالٍ سامِقِ

أَنْتَ الضَّحِيّةُ من غُرورِكَ كَيْفَ لا- سَطَعَ الدَّليلُ وَلَسْتَ غيْـرَ مُراهِقِ”

ثُمَّ تَكْشِفُ النِّقابَ عَنْ وَجْهِ الزَّمانِ الكالِحِ الَّذي يَحْظى فيهِ الأَراذِلُ بِالتَّقْديرِ، بَيْنَما

الأَحْرارُ يُكابِدونَ الشَّقاءَ:

“غَـــدَرَ الزّمـــانُ وقد لَقيتُكَ مَـــرَّةً- وكَسا الظّلامُ مَغارِبي وَمَشارِقي

زَمَنٌ يَنالُ بِهِ الجَبانُ مَناصِبًا- والحُرُّ فيهِ يَموتُ مَوْتَ الغارِقِ”

وَلا تَنْسى شاعِرَتُنا الوَطَنَ، فَلَهُ نَصيبٌ في روحِها وَحُروفِها، أَلَيْسَتْ حامِلَةَ رِسالَةٍ؟، بَلى،

وَحُقَّ لِلْوَطَنِ أَنْ يَسْكُنَ روحَها وَحُروفَها، وَتُجَسِّدَ مَأْساتَهُ نُصوصًا، وَنَقْتَبِسُ مِنْ نَثيرَةِ

“مَناديلُ فَرَحٍ”:

“مَدّ البَحْرُ أمْواجَهُ/مُصافِحًا وَجْهَ الـمَدينَةِ/تَناثرَ الشّوْقُ عَلى شَواطِئِها

تَسَرّبَ صَوْتُ الغائِبين/فاحَ نِداؤُهُم/مِثْلَ نايٍ حَزين/مَرَّتْ نَسْمَةُ البَحْرِ

تَحْمِلُ…/تَحْمِلُ أريجَ تِشْرين/تَفَتّحَتْ فيّ رَغْبَةٌ في البُكاء/تَنْصِتُ مِئْذنَةُ الـمَسْجِدِ

لِهَواجِسي/تَحْمِلُني … تَزْرَعُني أمَلًا/ماذا فَعَلْتُ كَيْ أعيشَ مُحَمَّلًا عِبْءَ الحَنين؟.”.

اَلبَحْرُ، الـمَدينَةُ، الشَّواطِئُ، مِئْذَنَةُ الـمَسْجِدِ، كُلُّها مَعالِمُ في الوَطَنِ، تَسَرّبَ صَوْتُ

الغائِبينَ، وَالخِتامُ:

” ماذا فَعَلْتُ كَيْ أعيشَ مُحَمَّلًا عِبْءَ الحَنين؟.”.

وَنَقْرَأُ مِنْ قَصيدَتِها “اِعتذارٌ” الَّتي تَعْتَذِرُ فيها مِنَ الوَطَنِ وَالقُدْسِ:

“إنّي اعْتَذَرْتْ/عنْ كُلِّ رُكْنٍ في زوايا الذّاكِرَهْ/أشْغَلتُها وأنا أجَرْجِرُ.. فَرْحَتي/ونَسيتُ

أنّ الحُبَّ يَبْدَأُ/مِنْ تُرابِكَ عِنْدَ بابِكَ/كُنْتُ أبْحَثُ عن حَياةٍ في ظِلالِ الـمَوْتِ/إذ

قُرِعَتْ طُبولُ القُدْسِ/تَسْتَجدي الأمانَ لِبَيْتِها/صِدْقًا خَجِلْتْ”.

إِنَّهُ اعْتِذارُ الضَّعيفِ الَّذي لا يَمْلِكُ حيلَةً سِوى أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْ ضَعْفِهِ، وَلِأَنَّها:

” ونَسيتُ أنّ الحُبَّ يَبْدَأُ/مِنْ تُرابِكَ عِنْدَ بابِكَ/كُنْتُ أبْحَثُ عن حَياةٍ في ظِلالِ

الـمَوْتِ/ إذ قُرِعَتْ طُبولُ القُدْسِ/ تَسْتَجدي الأمانَ لِبَيْتِها/صِدْقًا خَجِلْتْ”.

خَجِلَتْ مِنَ القُدْسِ الَّتي تَسْتَجْدي الأَمانَ لِبَيْتِها، لِقِلَّةِ حيلَتِها وَعَجْزِها عَنْ مُسانَدَتِها.

كَتَبَتْ شاعِرَتُنا في الرِّثاءِ، وَكَتَبْت حِوارِيَّاتٍ (قالَ، قالتْ)، وَأَمْرٌ آخَرُ يَلْفِتُ الاِنْتِباهَ وَهُوَ

أَنَّ شاعِرَتَنا تَكْتُبُ الشِّعْرَ بِلِسانِ الـمُذَكَّرِ وَالـمُؤَنَّثِ، وَهُوَ جائز في الشِّعْرِ.

خِتامًا أَتَمَنَّـى لِشاعِرَتِنا أَنْ تَزْدادَ تَأَلُّقًا في مَسيرَتِها، وَأَنْ تَصِلَ الهَدَفَ الـمَنْشودَ الَّذي

تَصْبو إِلَيْهِ في رِسالَتِها الرَّاقِيَةِ، وَأَتَمَنَّى أَنْ تُسْعِدَنا في القادِمِ بِمَواليدَ أُخَرَ، تُضافُ إِلى

هٰذا الـمَوْلودِ البِكْرِ الَّذي وُلِدَ سَوِيًّا بلا نَقْصٍ.
__________________________________
( ) (1) لسان العرب، مادَّة: عنن، وعنا.
( ) (2)رحيم، عبد القادِر: العُنْوانُ في النَّصِّ الإِبْداعي: 10.
( ) (3)رَفْعُ شُفوفِ الهَوْدَجِ عَنْ مَقْصورَةِ الخَزْرَجي: 123. قَيْدُ الطَّبْعِ. تَحْقيقُ: الشَّاعِرُ العَروضِيُّ مَحْمودُ مَرْعي.
( ) (4)مؤشِّر م/ع، نظريَّة تحلِّل نفسيَّة الشَّاعر لحظة الكتابة، هدوء، غضب، فرح، حزن، وتعتمد الأسباب والأوتاد السَّاكنة الآخر، والَّتي آخرها حرف مدٍّ ساكن، مثال: مُسْـ تَفْـ عِلُنْ، ساكنة الأواخر في السَّببين والوتد، فا عِلا تُنْ، السَّبب الأوَّل والوتِد انتهيا بحرف مدٍّ ساكن، والسَّبب الأخير ساكن الآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة