أصداء من الرحيل .!

تاريخ النشر: 03/06/18 | 15:15

كان جالساً بجانب قبرها يبكي بحرقة , كطفل فجع بموت أمه , وجاءه خبر موتها قبل لحظات ..
سمعت صوته من بعيد ..
وصل صوت بكائه اليَّ , وأنا جالس بجانب قبر أمي , الذي يقع على الطرف الآخر من المقبرة ..
انه عمي سعيد الجمل .. ابن حارتنا ..
كان في التسعين من عمره , أو ما يزيد ..
قمت من مكاني وسرت باتجاهه , ولما دنوت منه , والتقطتني عيناه , توقف عن البكاء , وأخرج منديلاً من جيبه , ومسح الدمع عن عينه بسرعة , كي يخفي ” جريمته ” قبل ان أصل .
“المحاربون القدامى لا يبكون .!”
هكذا كان يقول , وهو يسرد لنا , أحداث البطولات , التي اِشترك فيها مع رفاقه الثوار , للدفاع عن البلاد .. في وجه الإنجليز ومخطتاتهم .
“عشر سنين مرّوا على وفاة خديجة .!”
همس بصوت مخطوف , بعد أن جلست بجانبه ..
” مرَّت كلمح البرق .! ” أضاف بحنين حزين , وعيناه تتوهان في زمن مضى..
” الله يرحمها ..! ” قلت بحزن , يخالطه رحمة وشفقة ..
وبدأ يحكي لي قصتها معه .. كأنه كان يبحث عن آذان تصغي له:
نزلتُ عن الجبل بعد سقوط البلاد , ودخلت بيتنا , وصحت بها :
” بسرعة حضِّري حالك , وحضِّري الولد ,وما خف َّ من الأغراض , إحْنا طالعين من البلد .!” .
” لوّين .!؟ ” .سألت وعيناها تكادان ” تنطّان ” من مكانيهما .
” الى يعبد .! قرية “يعبد ” بدها اتظل مع العرب .!” قلت حاثاً إياها على الإسراع ..
” بس .. ! ” أرادت أن تقول شيئاً من الإعتراض ..
” ما في وقت للتردد ..! اليهود بدورّوا علىَّ , وعلى باقي الثوار .. وانتي بتعرفي شو بعملوا فينا ان مسكونا .! ” .
قاطعتها , مفهماً إياها , أن أمر الرحيل مفروغ منه .
وضعنا الخبزات , وجرة ماء ,وبصلات , وقنينة من الزيت , وركبت الحمار, ووضعت الولد أمامي , وسرنا باتجاه الحدود .. وخديجة تسير خلفنا ..
كانت بلدنا لا تبعد عن برطعة , التي شطرتها الحدود الجديدة الى قسمين , سوى مشي ساعتين ..
بعد ان سرنا نصف الطريق , أوقفت الحمار بجانب شجرة سريس ,وجلسنا في ظلِّها , فقد أشفقت على خديجة , من عناء المشي في الطريق الوعرة .
كانت تمشي في وجوم شديد .. وطول الطريق لم تقل كلمة واحدة ..
حاولت عدة مرات , أن أستدرجها للكلام فلم تستجب ..
توقعت ان تنفجر بالبكاء, حسرة على فراق بيتنا وقريتنا .. فلم
أسمع منها .. بقيت صامتة كأنها صخرة تتحرَّك .!
كنت أنظر الى الوراء , كي أقرأ في وجهها , شيئاً مما تخبئه في داخلها , فلم أجد إلاّ صفحة ملساء , وعينين تجولان في فراغ مختوم .
” سعيد تعال نرجع الى بلدنا .! ” نطقت من بئر عميق مسدود ..
بعد ان جلست على صخرة بجانبي ..
طرقتني المفاجأة في رأسي ..فصحت بها :
” هذا أمر محسوم , لا يمكننا التراجع عنه .!”.
ليش ..ما .. !؟
أنت تعرفين أنني مطلوب لليهود .!
وأنا وابني لن نترك بيتنا وبلادنا .! قالت بتحدّي ..
حتى لو أجبرتك .! أجبتها , وأن أكاد أن أتفجَّر من الغضب ..
كانت هذه المرة الأولى , التي تتحدّاني فيها , منذ أن عرفتها .!
بعد نقاش وصراخ وتهديد , قالت كلمتها الأخيرة , التي لن أنساها ما حييت :
” تستطيع ان تقطِّعني .. أن تذبحني .. أن تدفنني .. ولكني لن أخطو ولو خطوة أخرى الى الأمام ..!!
لن أرحل من بلدي.! ” .
يبدو أن فرقة من جنود حرس الحدود , كانوا قد سمعوا أصواتنا العالية ..
وقبل أن يروني سبحت الى الأمام , واختفيت بين أشجار السريس المتشابكة .
– وين كنت سألها أحد العسكر .!؟
– كنت عند أهلي في برطعة ..
– وين رايحة ..!؟
– مروحة على بلدي عرعرة ..
– لليش رحت على برطعة .. بتعرفيش انه في منع تجوُّل .!
– الجوع يا عسكري ..
– شو إلي معك في خرج لحمار ..!؟
– شوية مؤن من عند أهلي !
فتركوها ..
كنت أسمع الحوار, الذي جرى بينها وبين العسكر , وأنا منبطح في داخل السريسة ..
وكان ما بين أن يلقوا القبض عليَّ ,وما بين نجاتي – قيراط..!
لقد جمَّد الهلع دمّي ..كنت خائفاً عليها وعلى ابننا , أكثر من خوفي على نفسي ..
ولكنهم رجعوا الى الوراء .. ولما تأكدتُ من ابتعداهم عني, واصلتُ طريقي الى يعبد .
أما خديجة ,فقد ركبت الحمار, ووضعت ابننا أمامها ,ورجعت الى بلدنا .
مكثت في يعبد , يومان ضيفاً عند أحد المعارف ..
وبينما كنت جالساً معه أمام بيته , وإذا بصبيٍّ يقف في الطريق الى جانبنا, ويتوجه الى صاحب البيت :
عندكم زلمي اسمه سعيد الجمل ..!؟
فقلت له : أنا سعيد الجمل ..!
فردَّ : في إمرأه تنتظرك في بيتنا ..!
فرافقني أحد أولاد مضيفي , كي يرشدني الى بيتهم ..
كنت أسير وأمواج من الهمِّ تجتاحني ..
من تكون هذه المرأة !؟
..وماذا تريد منّي !؟
أتكون خديجة غيَّرت رأيها , ولحقت بي !؟
بتعملها خديجي .!!؟
وعندما دخلت بيتهم .. هالني ما رأيت ..!
كانت هي ..خديجة .!!
وقبل ان أنطق بكلمة .. وقبل أن أسأل عن ابننا صاحت
بيَّ:
بتبيع الدّار بدون ما تقول لي .!؟ .
ولم تمهلني لأردَّ عليها أكملت :
هات ثمنها .. بدّئ أرجِّعهم للّي اشتروها !
مددت يدي الى جيبي ,وأخرجت النقود , تناولتها منّي , وقامت من مكانها , وأسرعت الى الحمار , وركبته , ونهرته متوجهة نحو باب الدار ..
” بدكيش تتريحيلك شوية .. مشوارك كان بعيد .!؟ ”
توجهت لها صاحبة البيت ..
فأجابتها وهي تغادر :
“مشكورة يا حبيبتي .. الطريق بعيدة .. والليل جاي , وورائي ولد .! ” .
وهنا توقف عمي سعيد عن الكلام ..
نظرت الى وجهه, فوجدت انه غرق ,في حوّام خنق أنفاسه , وملأ عينيه بالدموع ..
وانتظرته حتى ينشل نفسه ويتمالكها .. منتظراً بقيَّة قصته , التي ملكت أسماعي , وأخذتني الى مناطق عميقة من مشاعري .!
فشعرت أن روحي طارت مع خديجة ..!
عاد عمي سعيد من غيابه , ليكمل حكايته ..:
فخرجت من دار مضيفي , ولحقت بها ..قشعتها عيناي .. كانت تبعد عني مسافة , من المستحيل أن ألحق بها , خصوصاً وهي تركب حمار..
فبدأت أصرخ بأعلى صوتي :
يا خديجة .! يا خديجة .!
استنيني يا خديجة .!
بعد أن كاد صوتي يبح , توقفت .. فتأكدت أنها سمعت مناداتي ..
وعندما وصلتها .. ركبت أمامها على الحمار ورجعنا الى بلدنا .. الى بيتنا ..
انطلق في الأجواء صوت آذان العصر , فقام عمي سعيد من مكانه وهو يقول :
” بدّي الحق صلاة العصر في المسجد .! ”
ومشى نازلاً عن المقبرة ..
أما أنا فبقيت جالساً , أفكر فيما عملته خالتي خديجة .!

يوسف جمّال – عرعرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة