جاليري “مكان” في عرضِها الجديد

تاريخ النشر: 05/04/18 | 17:04

عديدة المعارض الّتي شاركتُ فيها كمتفرّجة متابِعة، ومُشارِكة في العُروض، لكنّي أعترف أنّ ثمّة نشوة طاغية تُرافِقُ الحالتين، لا يُمكن أن تتَرجِمُها الكلمات. ولأنّ العادة والتخصّص جعلني غالبا، في موقِع المُشارِكة أعترف أنّي لم أتذوّق تماما نكهة المُتعة الثّانية، كمتفرّجة، حينَ أُجابَه بجديد في مجال الصّورة واللّون.
العرض الجديد الّذي دُعيتُ إليه في جاليري “مَكان” في سخنين، (شمال فلسطين) فاجأني بمذاق آخر في توجّه عرضِه، كأنّهُ أراد قاصدا أن يدخِلَني في حالة مواجهة. تنسيق اللّوحات أراد أن يُخرِجك عن طورك، ويجعلُكَ في مواجهة مباشرة مع ذات الفنّان الّذي اتّفقتَ واختلفتَ معه في ذات اللّوحة، ذات التّشكيل الرّوحي والمضموني مُترجَما في شكل أو صورة بعينها. شكل المواجهة يعني أنّ من أشرف على إعداد هذا العرض كان حريصا على تفعيل المتلقّين ، زوّار الصّالة ضمن خطّة موجّهة. ماذا يعني ذلك؟
من منظوري الفنّي الصّافي هي استراتيجيّة الجذب المُعاكِس، وهي ضدّ التّلقيم والتّقليم معا, والجذب هنا ليس بدافع افتتانك بالعمل بقدر ما هو الإرغام بدافع رغبة الضّد، الّتي تحرّضك على فهم ما يخيّل إليك أنّه يعنيك. فعوامل الجذب المدروسة لم تعد سببا لإقبالنا على الفنّ الجيّد، بل أصبح الإرغام بدافع الغرابة الحالمة، الطريّة، واضحة الأبعاد سببا مباشرا لمجابهة العمل، والمجابهة الإيجابيّة تريد أن تصل إلى مكنون المواقف ومساراتها. لفت نظري أنّ كلّ فنّان يشارك بعملين على الأقل، إمّا أن تدفعك الأولى لاحتضان الثّانية أو أن تثيرك حدّ رفض تفوِّقِها عليك. هذا الأمر حدث في لوحتين للفنّان ((جواد ابراهيم))، حيث يفصل بين الأولى والثّانية ثلاثين عاما بالتّمام. وعلى اعتبار أنّ الفنان عبر شوطا في تطوير أدواته الفنيّة، شخصيّا، لم أعثر على الإيجابي في هذه النّقلة. فالمكان الأوّل الّذي أسّس فيه للوحته الفنيّة الأولى سنة 1986 يبدو ابراهيم فيه مغمورا بكلّ جوارحه في حفر ذاكرة المكان حتّى ضمن تقنيّات العمل. وضوح الرّؤيا، تمكين التقنيّة، إزاحات اللّون ونضوج ال image ، (الصّورة) الّتي تُجابِه عالمها، بينما يحدث تراجعا على حساب ما يمكن أن يعتبره ابراهيم نضوجا في علاج الموضوعة، وأجده أنا تسطيحا غير مُجاز للفكرة، في لوحتهِ الثّانية المُنجَزة عام 2015 فهو لا يأخذ من خفّة الفرشاة في مرورها على سطح اللّوحة غير المساحة القليلة من جهد المتلقّي لفكرهِ،ِ على اعتبار أنّ ثمّة فكرا موضوعيّا أراد أن يقدّمه في لوحتهِ الثّانية، (الحديثة)
ولا أعرف إذا كان عدم تمييز الفنّان لشريحة زائري لوحاتهِ، أم أنّها ثقتهِ البالغةِ بأدواتهِ، هي من جعلتهُ يقع في فخّ الثّقة المُفرطة.
لكن من المهمّ الإشارة إلى كون المُواجهةِ السّابقة ليست سببا في اختصار جماليّات أخرى أشدّ حضورا وتأثيرا كالعمل الملفت لسليمان منصور على الحديد، ( 2002) تقنيّة أسلوبيّة مختلفة تثير الرّغبة في التّجريب، وبرأيي تُعيد دولاب الزّمن الجميل في الفنّ كأنّها تُشرِعُ لكَ دواليب الماضي كي تدخلَ إلى خزانة ملابسكَ، وتعيدَ ترتيب ماضيك، وربّما تفحص خلال ذلك أيّ قطعة من ملابسكَ القديمة تحملُ تاريخا يتناثرُ كغبارِ الحديد الصّدىء من لوحة تكتشِف جديدَها كلّما ثوّركَ تقادمها. ألذلك مثلا يحتفظ الفنّانون بأعمالهم القديمة في مخازن استوديوهاتهم، ويتهيّبونَ من فكرة بيعها أو كشفها لروّاد صالاتهم الشّخصيّة؟
لم أفحص أثر انطباعاتي هذه أمام ذات الفنّانين الّذين أحاور لوحاتهم، لكنّي على يقين من مفاجأة عميقة ستتساءل عنهم حول ما ينجزونه وما لا ينجزونه من أعمال. وما يحفونه ويُعلنونهُ، أو يُخزّنونهُ في جوارير مَخازنهم لفُرصةِ دَهشة. مساءلات تبدو للوهلة بلا معنى، لكنّها تحمل هواجس وجوديّة عميقة حول سبب تمسّكنا غير الواضح أحيانا بأعمال نفهم أو لا نفهم سبب إِغماض ذاكرتنا عليها. في لوحة سليمان منصور، (2002)- الزّوجان, حفر الصّدأ، الّذي لوّن لوحة الزّوجين بالضّوء الأحمر نوافذ كثيرة مطفأة في الذّاكرة. أحببتُ في عملهِ خصلة الكلاسيكيّة النّادرة الشّاقة لكن الشّفافة في مناحيها التّعبيريّة الفضفاضة. تلك الكلاسيكيّة الّتي أغلقنا عليها نوافذنا حين كان للمَشَاهِد الإجتماعيّة نكهة ملبّس اللّوز في الفم. باختصار عشقتُ منحاها، وأعادتني بخفّة لصورة قديمة مرتّبة جدا بالأسود والأبيض جمعت أمّي وأبي يوم زواجهما، الصّورة الوحيدة الّتي تمّ الإحتفاظ بها داخل إطار زجاجي لم يتغيّر. حيث كانا طرّيان جدا داخل بروتوكول مرسوم لكن تقليدي محتفى بأبعاده الكثيرة الّتي لا تُعد.
ما يعنيني تحديدا مذاق الدرّاق الحامض الّذي يرعف من الصّورتين صورة أمّي وأبي مقابل لوحة سليمان منصور للزّوجين، الدّراق الأخضر الّذي يخصّ ذاكرة شجرة الدرّاق العِملاقة الحاملة الّتي لدار عمّي في ذلك الزّمن. الشجرة اللاتزالُ تخلبني حتّى يومنا هذا لكن في مخيّلتي. هناك التقينا فوقها وبنينا ذاكرة عائلة لأطفال يرسمون عالما مدهشا فوق أغصانها الواسعة الصّلبة السخيّة بالدرّاق الأخضر.
مواجهة أخرى أحدثت هالة من التّداعيات، لوحتي رسّام غزّي هما “نافذة الأمل” و “رباعيّات المُخيّم”. فنّان قصف بيته في حرب غزّة الأخيرة 014 ومعها لوحته. للآن تحتفظ اللّوحة بذاكرة الحرب ومكانها. أثر القصف عبر الثّقوب الّتي اخترقها الرّصاص والقذائف. فنّان ذكي أبقى على الجرح الطّازج فوق اللّوحة دون أن يمسّه، وفي ذلك استحداث نوعيّ لقيمة الوجع عبر خرق لوحة أو اختراقها بواسطة قذيفة ضالّة أو موجّهة، بعينيّ توازي اختراق قلب أو انتهاك حرمة جسد.
تشظّيات الحالة هنا هي من يعيدُ الإعتبار للمعاني البعيدة الّتي نستخلصها دون جهد فيها. ولكن برغم الموت الّذي تذروه اللّوحة في العيون، غير أنّها واثقة من الضّوء الّذي ترسله إلى القلب، قلوبنا نحن المارّين بها. ألم تكن الجثث المثقوبة والأجساد المحروقة في حرب غزّة سببا مباشرا في هبّة عالم عربيّ كامل ضدّ رغبة حكّامهِ في الإحتجاج وبذر العصيان؟
أطلق رائد عيسى على عملهِ هذا “نافذة الأمل” بثقة بعيدة. كان يرى من خلل الثّقوب ناطحات سحب مكان الأحياء المُدمّرة عن بكرة أبيها. أين هي الآن؟ في مخيّلته الّتي بدأت تبني نوافذ جديدة لفنّ يراه هوَ أكثر من سواه ولأكثر من سبب.
على خلفيّة رصيد غنيّ كهذا انبنت ذاكرتي، ممّا عُرض في صالة مكان. ذاكرة حارّة حارقة، نادرا ما أعشق خِلافها. لم يلفتني ما هو أقوى ممّا رأيت، وأعتقد أنّ مخرج هذا العمل إلى فتنة الجمهور كان يرتّب مخيّلتهِ ويرسمها بقدر ما يفعل للوحات اختار مواقعها وفتنتها بدقّة، وحرص.
أعوِّلُ على هذه الصّالة وعلى من يقف خلفها، الباحث في الفنّ التّشكيلي النّظري والعملي يوسف الياس. على مجهوده في تجسيد النّادر عبر مسيرة بحث مجهِدة ومُدهشة في آن. فقط أتمنّى على مرتادي صالات العرض أن يدعموا مسيرة عروضها..
رأي تحليلي: رجاء بكريّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة