موت شاعرة وولادة فنانة.. السماء هي حدودها

تاريخ النشر: 14/03/18 | 14:47

“على الفرد أن يقاسي ليبقى حُرّا من هيمنة المجتمع، ستكون وحيدًا، وأحيانا خائفا، لكن الثمن ليس غاليا مقابل أن تمتلك نفسك”. فريدريك نيتشه
قبل أسبوعين وصلتني دعوة لحضور العرض الاحتفالي لفيلم دراما، ناطق بالعبرية، حصلت فيه ممثلة عربية على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان القدس لعام 2017. كان العرض على شرف يوم المرأة العالمي بيوم 08.03.18 . ترددت بداية لا سيما وأنه يتضارب مع التزام ثابت لي كل أسبوع بأمسية ثقافية في نادي حيفا الثقافي، لكن ترددي لم يطل، إذ حسمت أمري لأن بطلة الفيلم ممثلة حيفاوية في السينما العبرية ، فذهبت يرافقني زوجي للعرض في سينماتك تل أبيب.
يحمل الفيلم عنوان ” מות המשוררת” “Death of the Poetess”
وهو من إخراج دانا غولدبرغ وإفرات ميشوري. مدته 77 دقيقة.
يحكي الفيلم قصة سيدتين في محورين متوازيين، الأولى لني (يفغانيا دودينا) والثانية ياسمين (سميرة سرية)، في لقاء جمع بينهما صدفة فولّد نتيجة غير متوقعة ! الفيلم مصور بالأبيض والأسود، أحداثه تتنقل ما بين (لني) باحثة أكاديمية عالمية في رحلة معتمة لها ذات نهار، يوم عادي في حياتها ، تذهب لتصفيف شعرها، تتناول ملابس أوصت عليها من حانوتها المفضّل وتلتقي بالناشر في مقهى وتسلّمه نتاجها. توازيها ياسمين ناصر ممرضة من يافا هاربة من قدرها بالزواج والأمومة إلى عالمها الخاص بها … فتنجح بخطف الأضواء .
تمتثل ياسمين في مشاهد الفيلم لتحقيق بوليسي سادٍ ومضنٍ بتسليط الكاميرا على وجهها ملء الشاشة، أمام محقق متحاذق متمرس بمهنته، غير مرئي في الفيلم وصوته ضاغط تصاعديًا، ليسحب منها اعترافا بجناية لم ترتكبها. خلال التحقيق تتجلى قصتها : خرجت من بيتها لدوريّة ليليّة في المشفى الذي تعمل به وفي طريقها عرّجت على حانة على شاطئ البحر، وهناك التقت صدفة بلني، وتبادلن قنوطهن وخيباتهن، لني تحدثت عن صديقة خاب أملها تجاهها، بدون ذكر اسمها، وياسمين المسبيّة في دورها كزوجة وأم لا تحقق ذاتها وتتصرف كما يملي عليها مجتمعها وتوقعاته تجاهها ولا تستطيع التخلص منها، لينتهي لقاؤهما بموت لني، الذي تبيّن لاحقًا أنها رتّبت شؤونها اليومية وألقت بجسدها لأمواج البحر، تقفز ياسمين للبحر بمحاولة بائسة لإنقاذها… وبخلاف توقعات المحقق (ونظرته النمطية عن امرأة عربية تترك زوجها وابنتها في البيت لتلتقي بنساء فلا يجوز إلّا أن تكون المسببة بموت الباحثة المرموقة) ، لم تكن ياسمين ” المرأة” و”العربية” لقمة مستساغة، وحيله في ابتزازها لم تنجح. إلى أن يتضح أن اللقاء بين السيدتين الغريبتين عن بعضهما سيؤدي إلى مصير لا مناص منه.
استوقفتني شخصية ياسمين (سميرة سرية) في هذا الفيلم، ليس لأنها بطلته، أو لفوزها بجائزة أفضل ممثلة عنه.. أدهشني جبروتها، عنفوانها، ثباتها واتزان عقلها (والذي أعرفه عن شخصيتها) رغم محاولات استنزافها أمام هذا الضغط النفسي الرهيب الذي تعرضت له خلال التحقيق. نجحت ياسمين بصدق انفعالاتها وتقمصها الدور بطبيعية تامة، دون عناء ودون ابتذال، في أخذ المشاهد معها بحواسه الخمس في كل ما قدمته.
سميرة ممثلة حيفاوية موهوبة، درست التمريض في الجامعة العبرية في القدس وعملت في مجال التمريض سنوات عديدة وعلّمته ووصلت إلى منصب مرموق في مجالها ولكن إيمانها بمقولة نيتشه “حتى يولد منك ذلك النجم الساطع لا بد أن تمتلئ روحك بالفوضى” جعلها فوضوية لأبعد الحدود، توجهّت للفن لتحقيق ذاتها فدرست التمثيل، كتبت وغنّت موسيقى الراب فأبدعت، مثّلت بعدة مسلسلات تلفزيونية بالعبرية، مثّلت للمسرح وحصدت عدة جوائز، مثلت أفلام سينمائية وأفلام أجنبية، شاركت لجان تحكيم في عدة مهرجانات دولية … وهي في طريقها للعالمية لا محالة.
نجحت سميرة سرية بشخصيتها المميزة بخطف الأضواء، كيف لا وهي صاحبة “هيبة” مذهلة (كاريزما) تبرر الثقة الكامنة فيها.
وسميرة متعددة المواهب، هي تكتب – لنفسها- نثرا وشعرا من جيل 13، ومن الجدير بالذكر أنها عرّفت عن نفسها للني بالفيلم من خلال قصيدة لها كتبتها وهي لا تزال غضة الأنامل:
“أيامي هي مسرح، أضواءه أقنعة وأدوار
ألعب فيها بلا لهو
ألعاب الكبار
ضحك تمثيل وأسرار
نهارا بعد نهار
مسارات وأسفار

فأيامي هي مسرح
أدوار وأدوار
هل ألعب اليوم دور تلك الفتاة
وكأن يومي لم يسرق ولا طفولتي
كأن أرضي لم تسلب ولا سذاجتي
كأن جسدي لم يحرق ولا براءتي
أم ألعب دور تلك الفتاة
ذات بيت أهل وحنان
ذات ثقه قوة وألوان
ليس الأسود والأبيض
بل زهري وردي وأرجوان
فــأيامي هي مسرح
أدوار وأدوار
وفي ليل يهج النوم من عيني
أتلمس حضناً دافئًا
ضمةً تهدئ روعه ليل وظلام
لمسةً تأخذني
تحملني
على أجنحه الهدوء لأبحار وأحلام
فــأيامي هي مسرح
أدوار وأدوار

وها هي الشمس تعلو ثانيه
فأي دور يا ترى اليوم أختار؟”

لم أندم على اختياري حضور فيلمًا بالعبرية، بل كنت فخورة جدًا بممثّلته التي نالت إعجاب المشاهدين وطاقم العمل وانبهارهم بقيامها بالدور على أتم وجه…فرغم أن “الطيور التي تولد في قفص تعتقد أن الطيران جريمة” لكن ياسمين/سميرة تحدّت قفصها… طارت خارج القفص… وأبدعت!
خلود فوراني – سرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة