موقعة العفريتة

تاريخ النشر: 05/03/18 | 12:15

أسموها بالعفريتة ,لأنها كانت تمرُّ , في طريق وادي عارة , بسرعة جنونية , من بين الحقول , مصدرة ضجيجاً عظيماَ ,
يصيب الفلاحين بالذعر .
وكان ذلك في زمان, لم يعهد فيه سكان الوادي ,هذا النوع من العفاريت , التي تنطلق بسرعة جنونية , على عجلتين .!
فكان إذا سمع الفلاحون زعيقها ,هربوا من حقولهم , الواقعة على حافة طريق الوادي , الى الجبال والتلال المحيطة به, خوفاّ واتقاءً لشرِّها , فإذا تلاشى صوتها , من فضاء الوادي , رجعوا الى مزارعهم.
وكانت تمرُّ , في كلِّ يوم خميس مُشَرِّقة , لتعود مُغرِّبَة في كلَ يوم أحد .
” فلا بد من التخلّص من شرِّها الداهم! ”
..هكذا قرّر أهل البلد .. في اجتماعهم تحت خرّوبة محمد السعيد .
خصوصاً بعد أن دهمت عوض السلامي , وزادت من عاهاتة .. صار أعرجاً ومقوَّس الظهر , بعد ان كان أصمَّاً أبكماً منذ ولادته .
كان يمشي في الطريق, كعادته في كل يوم , متجهاَ الى حقل عمِّه , فصدمته العفريتة , وطارت مبتعدة عنه , فتركته وراءها كتلة مهشمة , ا نتشله الفلاحون , بعد ان رجعوا من هروبهم من العفريتة , وأسعفوه .
قال الشيخ سلامي ,في الاجتماع :” أنه “سيُلجِم ” على أهل البلد جميعاً , ليحميهم من شرِّها اللئيم.!” .
في الليل أخرج موسه من جيبه , وطواه تاركاً فتحة بين النصل وبيته ( ربع فتحة ) , وقرأ عليه ما تيسَّر من الآيات والتعاويذ ,وتركه جانباً حتى مرور العفريتة !

وكان سعيد الحسين – ابن العاشرة – أوّل من وصل الى عوض , وأوَّل من رأى جراحه , وتشَّرب آلامه .
فعقد العزم على مهاجمة العفريتة ..
ولم يكن له من سلاح إلاّ قفازته وحصاها !
فتوجه الى الوادي ..
ملأ جيبه بالحصى , وصعد على البلوطة , الملاصقة للطريق التي تمرُّ بها العفريتة , وجلس على أحد فروعها , منتظراً مرورها..
ولما سمع صوتها , يشقُّ سكون الوادي , صوَّب قفازته نحو مكان مرورها , وتأهَّب لضربها ..
وعندما وصلته , أطلق عليه ذخيرته فأصابها , وربما أصاب سائقها .والدليل عل ذلك , أن العفريتة جنحت عن الطريق , وصدمت عنزات سلامي الفايز .. وتركت وراءها عنزة ميتة وجريحتين .. وخراب كبير, في حقول القمح , التي تحاذي الطريق.
فتنادى أهل البلد , وعقدوا اجتماعاً , تحت خروبة محمود أبو ًصالح, لتداول الأمر الجلل ..
كلُّهم حضروا .. ما عدا الشيخ سلامي , فقد تغيَّب ..!
وعندما سألوا عنه , ردَّ بعضهم , أنه خاف من ألسِنة وعيون أهل البلد , التي ستهزأ بعملية ” لَجْمِهِ “, التي لم تأتِ بنتيجة .!
وفي الاجتماع , وقف عارف الحلو, أمام الناس وقال :
” هذه القصة , ستسمعونها منّي لأول مرة :
قررت في أحد أيام مرور العفريتة, ان لا أهرب منها , وقلت في نفسي –
” يا ولد ما هي الموتة واحده .!” .
” فَلَطَيْت ” خلف صخرة, بجانب الطريق, منتظراً مرورها .. وعندما تعالى صراخها , وأصبح يصمُّ الآذان
ولكن خُرس هديرها فجأة .. وانعدم كأنه لم يكن !
فعرفت أنها وقفت بجانبي , رفعت رأسي , حتى جاوزت عيناي حافَّة الصخرة ..
فرأيتهم ..!
كانوا بجانبي .. لا يبعدون عنّي سوى خطوات قليلة ..
رأيت سائق العفريته , يسلِّم رجلين كانوا بجانبه ,عدداً من البواريد..
ولما انتهوا من التسليم .. ركب السائق عفريتته , وانطلق مبتعداَ عن المكان , أمّا الرجلان فقد حملوا البواريد , وصعدوا الجبل مسرعين .! ”
فلحقت بهم ” الدَّبق بالدَّبق ” .. صعدوا الى هضاب الروحة, مشوا الى نواحي إجزم , وهناك كان في انتظارهم ,مجموعة كبيرة من الرجال , وبجانبهم عدد من السيارات .
وعندما اقتربت منهم , اختبأت خلف صخرة بالقرب منهم , فعرفت من “تراطنهم ” أنهم جنود من الانجليز , يعدون العدة لمهاجمة البلد.!
فغافلتهم ودخلت البلد , وحذَّرت مختارها .. من الخطر الذي سيداهم بلدهم ..
” ان هذه العفريتة , توزِّع السلاح والمعلومات والأوامر, الى فرق الجيش الإنجليزي , التي تطارد الثوار , وتعتدي على قراهم .! ”
صاح سليمان الموسى ..
” لا بدَّ من التخلِّص من شرَّها !”
ردَّ عليه فريد الصالح..
في الاجتماع التالي الذي أقيم في المسجد , حضر أهل البلد جميعاً , تركوا بيوتهم ومزارعهم , أتوا يحملون غضبهم , وتصميمهم , على التخلِّص من هذه العفريتة ..
اقترح جميل الصالح , أن ” يدحلوا ” صخرة من الجبل, لتجثم في طريقها ..فتصتدم بها العفريتة فتقطَّعها إرباَ , فاستُبعِد الأمر من قِبَل الجميع , لأن سائقها ماهر , وسيميل عنها , ويخرِّب جانباً من المزروعات .
” نصُفُّ حجارة كبيرة ,على طول عرض الطريق.!”
صاح عامر السليم من بعيد ..
فاستُبعِد هذا الأمر أيضاً , لنفس الأسباب السابقة ..
فوقف عيسى القبلاوي , في وسط الجموع , وصاح طالباً حق الكلام ..فسكت الجميع , كأنه رماهم بقنبلة من السكون …
كان على الجبل مع الثوار , يحارب الإنجليز , فلما ترامت الى سمعه أخبار عقد الاجتماع , نزل عنه ليشترك فيه ..
بدأ صوته خفيضاً ,كأنه نغمات , خرجت من جدول رقيق :
” يا أهل بلدي .. نستطيع بسهولة , ان نتغلَّب على هذه العفريتة..!”
ثم بدأ صوته يعلو ويعلو .. حتى أصبح كالتيّار الجارف ..
” إذا اتحدت قلوبنا , وتحوّلت الى قلب واحد ..واتحدت أيدينا الى يد واحدة ..
ننزل الى الى الوادي .. كلُّنا – رجالاً ونساء وأطفالاً ..
نقف فيه .. نغلقه من هضاب الروحة , الى جبل الخطّاف .. صفٌّ نرصُّ خلفه صفاً ..
قد تصيب العفريتة عدداّ منّا , ولكنَّها في النهاية , ستقع بين أيدينا , وننتصر عليها , ونتخلَّص من شرِّها .!” .
كلّنا معك ..!
سنقف كلّنا في خندق واحد ..!
سننتصر عليها ..!
تعالت أصوات التحدّي , من كل ِّ الجهات ..
وفي يوم الخميس , نزل أهل البلد الى الوادي , وأغلقوا الطريق بأجسامهم .. كانت عيونهم تطفح بالتحدّي , نسوا خلافاتهم ونزاعاتهم , وتلاحموا جسديّاً وعاطفيّاً ,
ووقفوا ” كالبنيان المرصوص ” .. كما قال الشيخ عبدالله في موعظته التي ألقاها , بالواقفين تحت رحمات الله .!
ونسي ما قاله , في خطبة الجمعة :” ان العفريتة قدر من عند الله . والقدر لا يمكن ردّه !”.
وملّت الملّايات جرارهن من عيون البلد , وأسقيْن الواقفين تحت الشمس الملتهبة ..
وقفوا ..
صبري السعيد , راعي البلد , كان يحمل عصاه , التي كان يهش ُّ بها غنمه ..
فاطمة العبد , أتت تحمل شرخها , التي كانت تحطِّب به ..
سعيد الحسين كان يحمل قفازته .. وجيوبه كانت مليئة بالحصى ..
حسن السالم , كانت تحمل العصا , التي كانت تنتف به , صوف الخراف , التي كانت تحضِّره لصنع الفراش ..
والذي لم يكن بيده عصا أو شرخ , كان بيده حجر ..
وقفوا وانتظروا العفريتة ..
وإذا بصوت, كأنه سكين حادة , يقسم ظهر السكون الذي يطبق على المكان ..
أجت .. أجت العفريتة ..
يا الله يا ناس ..
هذا يومكم ..
سدّدوا ضرباتكم لهذه الملعونة ..
ارتفعت صيحات , من مواضع متفرِّقة , من بين الجموع ..
ولما وصلتهم , انهالت عليها وعلى راكبها , العصي ّ والحجارة من كلِّ جانب ..
حتى وقف في وسط الجموع ..
أصيب عشرة من أهل البلد .. ثلاثة منهم, كانت إصابات متوسطة , والإصابات الباقية كانت خفيفة ..
أما السائق فكان منبطحاّ على الأرض , يسيل الدَّم من مواضع كثيرة من جسمه , والدموع تملأ عينيه , و يصدر منه شهيق من البكاء المرّ .
تقدَّمت فاطمة العبد منه حاملة شرخها , وقبل أن تهوي به على رقبته , صرخ بها عيسى القبلاوي ..
” لا .. ! لا تفعلي ذلك ..!
فتوقفت ..!
تقدَّم منه , وساعده على الوقوف ..وأسعفه وأسقاه ..
وأحذه معه الى الجبل , أسيراً لدى الثوّار ..
فصاح الشيخ عبد الله : ” هذه أخلاق الإسلام أيها المؤمنون ..!” .
أما العفريتة ” المصابة ” , فقد احتفظ بها أهل البلد , ذكرى لوقفتهم البطولية .

يوسف جمّال – عرعرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة