عنوانات قد تخفى على التأويل

تاريخ النشر: 23/11/17 | 12:55

العنوان فيه تراسل مع التجربة المبثوثة في تضاعيف النص، إنه يقدم إشعاعًا أوليًا للتأمل، يفتح آفاقًا للحوار الداخلي. وكلما اغترب العنوان العادي والمألوف فإنه يكون أبعث على الدهشة والمفاجأة.
العنوان- عتبة نص أخرى أشغلت الباحثين، فتركزوا أحيانًا على الفكرة المحورية وعلاقتها بذلك العنوان، و ذهبوا آنًا إلى الحدث، تارة بأّروا النص في بيان الزمان وطورًا في المكان، وقد يجمع العنوان بينهما.
جميلة هذه الاجتهادات وتلك التأويلات إذا لم يكن فيها غلو ومغالاة، فهي نوع من الإبداع النقدي.
من هنا فيجدر بالعنوان أن يكون موحيًا، وكلما اختزلناه كثفنا مراميه، وكلما كان مباشرًا أضحى عاديًا أحيانًا، فأصبح كاللافتة لا يسوّغه إلا المحتوى.
بل ثمة عناوين نجد فيها المفارقة أو إعادة الجملة المفاجئة التي ترد في آخر النص، أونجد فيها التضاد أو التضليل أو الإيهام أو الاستغراب.
كما نجد عناوين فيها جملة تعجبية أو استفهامية مما يحفز على مراجعة النص لملاحظة سبب الاستفهام أو التعجب أو علامة الاكتفاء، كما يغري القارئ أو الباحث باستلهام ما أو استكناه.*

مع هذه الاجتهادات المتباينة ألاحظ أن هناك ضرورة للاستئناس برأي المؤلف- كما فعل الأستاذ س. سوميخ إذ سأل نجيب محفوظ عن المعنى الكامن في “أفراح القبة”- وهو اسم كتاب له- فأجاب محفوظ بمعلومة تاريخية تشير إلى أن المماليك اعتادوا كل عام أن يقيموا أفراحًا وألعابًا في منطقة (القبة) بالقرب من الأزبكية. فمثل هذا الشرح يوفر على القارئ اجتهادات وتأويلات قد تذهب به وبنا شططًا، وعند فهمنا لهذه الإشارة سنبتعد عن التحليل المفتعل- كأن نفسر (القبة) “قصر القبة” الذي كان يسكنه الرئيس عبد الناصر، أو قبة الأفراح في بعض الأعراس.
اسمحوا لي أن أتحدث عن بعض عنواناتي الأدبية، لأريَ أن الاجتهادات المستغرقة ستكون منقطعة عن تصوري بدءًا:
كتابي الأول: في انتظار القطار- شعر:
القطار في المعنى الأول: قافلة الجمال، وأرمز بها إلى عودة التاريخ العربي وأمجاده.
المعنى الثاني- القطار = المطر، وأرمز به إلى الخصب وخلاص الأرض من الجدب وما تراكم عليها من غبار.
المعنى الثالث- القطار هو المركبة الحديثة، فأنا أنتظر ولا أعرف إن كان فاتني أم سيأتي، أنتظر كما ينتظر غودو في مسرحية صموئيل بيكيت.
ويظل الانتظار- وقد يكون للحبيبة- هو الحدث وفيه معاناة.

ما أكثر الدلالات والإيحاءات التي صاحبت عناوين مؤلفاتي شعرًا ونثرًا، وليس من المفروض على الباحث أن يهتدي إلى دلالات “هدي النجمة”- مثلاً، ويعرف أن اسم أمي “نجمة”، وأن هناك دلالات أخرى هي شخصية.
وليس على الباحث أن يسبر غور عنوان مجموعتي الشعرية: “لما فقدت معناها الأسماء”، فقد توارد إلي بعد أن قرأت لسقراط، ووجدت أن شبكة العلاقات في النصوص تلتقي تحت مظلته:
سئل سقراط متى تنهار الشعوب؟
– عندما تفقد القيم أسماءها، والأسماء قيمتها.
أخلص إلى القول:
باب الاجتهاد مفتوح، ولكن المؤلف لا يموت هنا، فلندع الباحث والمؤلف كليهما حيـّين مجديين.

* في هذا السياق:
ذكر د. فؤاد عزام ملخص ما أورده جينيت- عن العنوان- عتبة النص، مما أحب أن أضيفه للقراء لاطلاعهم- مع بقاء وجهة نظري، وما أبنته أعلاه:
“درس الباحث جنيت مبنى العناوين ووظائفها، واعتبر أنّ للعنوان أربع وظائف أساسية، وهي:
1.وظيفة التعيين- أي تسمية العمل من أجل تمييزه عن غيره، ويعتبرها جنيت أهمّ وظيفة لأنها تستطيع أن تعمل بدون الوظائف الأخرى.
2. الوظيفة الوصفيّة- وهي تتعلق بوصف العمل من عدّة نواحٍ، مثل: العناوين الموضوعاتية، وهي المهيمنة في وقتنا الحاضر، والعناوين الشكلية التي تصف شكل العمل ونوعه الأدبيّ. 3- الوظيفة الإيحائية- وهي مرتبطة بالوظيفة الوصفية.
4- الوظيفة الإغوائية- وهدفها إغواء الناس لشراء العمل أو قراءته.
انظر:
Gérard Genette, “The Structure and Function of the Title in Literature” ,Critical Inquiry 14: 4 (1988)، 711-719; Idem, Seuils (Paris: Seuil, 1987)، 73-9″.
عدد (الاتحاد) 14/11/2017، ص 10.

ب. فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة