مرِّرْها(3)

تاريخ النشر: 29/07/17 | 1:17

قلتُ لزوجتي التي كانت تنتظرني في الكافيتيرا التي في مدخل المكتبة في نيويورك: “لقد وجدتُها، نعم لقد وجدتُ مفتاح حلّ اللغز الكامن في الكلمات الثلاث (Just Past One) التي قالها لي (كما اعتقدتُ آنذاك) الشابُ الاسود الذي ساعدني قبل نحو خمس وعشرين سنة، في استبدال عجل سيارتي، عند المشارف الشمالية لعكا”.. وعندما لاحظتُ على وجهها علاماتِ الاستفهام وقبل ان اسمع: “أين وجدتَ مفتاح اللغز؟ وكيف؟ ولماذا؟” وضعتُ امامها كتاب Chicken Soup مفتوحا على قصة الطبيب ديفيس:
كان الطبيب كينيث ديفيس(Kenneth G. Davis) يقوم مع زوجته وطفلته ابنة السنتين، برحلة في منطقة نائية في ولاية اوريجون (Oregon). بعد استراحة قصيرة، حاول تشغيل محرك سيارته لكنه لم ينجح، فادرك للتو ان البطارية فارغة (غير مشحونة)، وان عليه ان يبادر الى عمل شيءٍ ما يخرجُه من ورطته. قرّر بعد التشاور مع زوجته، ان يتركها هي والطفلة داخل السيارة ويمشي نحو الشارع الرئيسي عساه يجد من يساعده. بعد مشي نحو ساعتين ورغم اصابته برضوض في قدمه، وصل الى الشارع الرئيسي. استوقف سيارةً نقلتْه الى اقرب محطة وقود. ادركَ بعد وصوله الى المحطة، انها مقفلة بسبب عطلة نهاية الاسبوع. شعر بخيبة أملٍ كبيرة، فاخذ يفتّش عن مخرج. لاحَظَ وجودَ هاتفٍ عمومي ودفتر تلفونات شبه مهتريء، فسارع الى الاتصال بشركةٍ لنجدةِ السياراتِ المعطَّلة. رنّ التلفون حتى بُحَّ صوتُه، وليس من مجيب. أيقنَ انّ الشركة هي ايضا، كمحطة الوقود، مقفلةٌ في عطلة نهاية الاسبوع. جرّبَ مرة اخرى، لكنه حصل على النتيجة السلبية ذاتها. قرّر مع ذلك، إعادة الكرّة ولو كمحاولةٍ اخيرة، فسمع هذه المرة ردًّا : “انا روبرت. هل بامكاني مساعدتك؟”.
شرح الدكتور ديفيس لروبرت هذا، الموقفَ الصعب الذي هو فيه. اجابَ روبرت: “صحيح انّ جميع العاملين في شركتي، هم في إجازة نهاية الاسبوع، وليس بامكاني استدعاء أحدٍ منهم، إلا اني ساحضر بنفسي لمساعدتك، رغم المسافة الكبيرة نسبيّا التي تفصل بيننا”…قضى ديفيس اكثر من ساعتين من الزمن في محطة الوقود المقفلة، متلظّيا على نار الانتظار ومتقلّبا على اشواك قلَقِه على زوجته وطفلته ومتحسّبا من المبلغ المالي الضخم الذي قد يتقاضاه روبرت مقابل خدمته هذه.
واخيرا وصل روبرت الى محطة الوقود حيث كان ديفيس بانتظاره، فدعاه الى الجلوس بجانبه، وانطلقا سوية الى حيث سيارة ديفيس واسرته…اراد ديفيس ان يستحث “خطى” روبرت، لكنه تمالك نفسَه كمواطنٍ حريصٍ على الالتزام بقوانين السير. غير انه لم يملك سيطرةً على عواطفه نحو زوجته وابنته، فشعر ان قلبَه يسبقُه اليهما. وهكذا، فما ان وصلت سيارة روبرت الى المكان، حتى قفز ديفيس منها، راكضا نحوهما ليطمئن عليهما وليضمّهما الى قلبه.
كان ديفيس متركّزا كليا بزوجته وابنته، عندما حانت منه التفاتةٌ نحو سيارة روبرت، فراه يسحب نفسَه من سيارته بصعوبةٍ بالغة متحرّكا نحو السيارة المعطّلة وهو يتوكأ على عكازين كبيرين تحت ابطيه. لم يبدِ ديفيس اي ملاحظة لكنه انصاع لتعليمات روبرت المتتالية: “حاولْ تشغيل المحرك…ارفعْ غطاء المحرك… اربطْ الكوابل …الخ، اتركْ المحرك شغالا كي تُشحن البطارية تماما…”. نشاطُ روبرت وحبُّه للعطاء اذهل ديفيس وجعله يدرك انّ روبرت وإنْ كان انسانا كسيحا معاقا ، إلا انه اقوى من أنْ يترك إعاقتَه تعيقُه عن تقديم العون للآخَرين. لكن ما اذهله اكثر هو جوابُ روبرت عن سؤاله: “كم تريد ان ادفع لك؟”. اجاب روبرت مبتسما:”سآخذ منك المبلغ ذاته الذي تقاضاه مني إدوارد: ذلك الشخص الطيب الذي انقذني من موت محقَّق يوم تعرضتُ قبل سنوات عديدة، لحادث طرق شلَّ قدميَّ”.
جـواب روبرت اثار فضـول ديفيـس، فسالَهُ: “وكم اخـذ منـك ادوارد؟”. فـــردَّ روبرت بلهجـة مشـحـونة بتأثرٍ بيّنٍ لامَـسَ الانفـعـالَ الشـديد:” لا شــيء، لان ادوارد اعتبر انني لســتُ مدينا له بشــيء” (you don’t owe me anything). لكنه اوصاني ان لا انسى ان امرّر هذا المعروف الى الغير كلما سنحت الفرصةُ بذلك:
Just remember, whenever you get the chance , you pass it on) )
جـوابُ روبرت هــزَّ مشـاعر ديفـيــس وزاد من اصـراره على دفـع مبلـغٍ ما اليه، غير ان روبرت بقي هو ايضا مُصِرّا على موقفه، قائلا لديفيس بلهجة حاسمة Just Pass it on (مرِّرْها).
عندما انهت زوجتي قراءةَ هذه القصة (اي قصة الطبيب كينيت ديفيس)، لم تستطع ان تخفي مشاعرها، فبدت متأثرة للغاية. لكنها ما لبثت ان استعادت مرحَها قائلة لي بدعابة: “واخيرا وبعد خمس وعشرين سنة، اكتشفتَ ان ذلك الرجل قال لك:””Just pass it on (مرِّرْها) وليس ” Just past one”، فمتى ستَكْتشِفُ هويتَه إذن؟”. فاجبتُها بمنتهى الجدّية: “لا تشغلني، وربما لا تهمني، هويةُ ذلك الرجل الذي قد يكون ايّ إنسان آخَر يعي انسانيتَه ويحترمها، كما لا يهمني اني لم احسِن سماعَ كلمة “مرِّرْها”، إنما ما يهمني فعلا ومن هذا المطلّ من العمر، هو “هل انا أحسنتُ تمريرَها”؟ ارجو ذلك…

د. حاتم عيد خوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة