لا تنه عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه

تاريخ النشر: 07/07/17 | 14:07

لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
هذا البيت هو في معنى قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبِرِّ وتنسَون أنفسكم}- البقرة، 44
والمشهور أنه لأبي الأسود الدؤلي*، وهو ضمن قصيدة حِكمية في نحو أربعين بيتًا، ومنها:
يأيها الرجلُ المعلّمُ غيرَه *** هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ
ونراك تُصلح بالرشاد عقولنا *** أبدًا وأنت من الرشاد عديمُ
ابدأ بنفسك فانهَها عن غَيِّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُهتدَى *** بالقول منك، وينفع التعليمُ
(البغدادي: خِزانة الأدب، ج 8، ص 567- الشاهد 671، فقد أوردها كاملة، كما أوردها “شرح شواهد المُغْني” للسُّيوطي- ج2 ، ص570-572)
ما أكثر الشعراء الذين نُسب إليهم البيت!
نسب البيت في كتاب ابن سلاّم- (الأمثال) إلى المتوكِّل الليثي الكِناني، وأورده في باب “تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه”.
المتوكل الليثي الكناني- هو شاعر من أهل الكوفة وكان في عصر معاوية ويزيد.
كذلك نسبه إليه الأصفهاني (الأغاني، ج12، ص 188) ضمن قصيدة أبياتها مختلفة عن الأبيات الواردة في (خِزانة الأدب).
يقول الزمَخْشري في (المُسْتقصَى) ، ج2، ص 260، إن الشعر للمتوكل الكِناني، حيث ذكر الأبيات التي تبدأ بـ: ابدأ بنفسك، فهناك ..، لا تنه ..
كما ورد هذا البيت في (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام (ج2 ص683) على أنه للمتوكل الليثي، والأبيات التي أوردها تختلف عن أبيات (الخزانة)، وفي الهامش يذكر المحقق محمود محمد شاكر أن البيت (لا تنه…) من شواهد سيبويه (ج1، ص 424) ونسبه للأخطل وهو في شعر أبي الأسود الدؤلي، ونسبه السيرافي لحسّان وتعقّبه الغندجاني في (فرحة الأديب) وصحح نسبته للمتوكل..، ويضيف شاكر في تعليقه: انظر الخلاف فيه في تفسير الطبري (ج1، ص 569).
كذلك أورد (الأمثال) لابي عُبيد البكري- ص74، و(العِقد الفريد) لابن عبد ربِّه- ج2 ص311، و(معجم الشعراء) للمَرْزباني- ص410 أن الشعر للمتوكل الليثي.

يُلاحظ أن كلاً من المراجع المذكورة يستخدم البيت منفردًا أو يستخدم بضعة أبيات بدون ترابط بينها، أو ضمن أبيات أخرى قليلة مختلفة عن أبيات القصيدة.
يذكر البغدادي في (خزانة الأدب)، ج 8، ص 566 ما يلي:
“ونسبه سيبويه للأخطل، ونسبه الحاتمي لسابق البربري، ونقل السيوطي عن (تاريخ ابن عساكر) أنه للطِّرِمّاح”.
ولا نستبعد ما ذكره البغدادي من كثرة هؤلاء الشعراء الذين نُسب إليهم، ففي (شرح المفصَّل) لابن يعيش ج7 ص24 نسب البيت للأخطل، و نسبه النحاس في شرح أبيات سيبويه- ص216- للأعشى.
يبدو أن بعض الأبيات الشعرية يتنازعها عدد ملموس من الشعراء، والسبب في تقديري أولاً أن البيت له شهرة واسعة، فلا عجب أن يدّعيه هذا وذاك في عصر لم تكن فيه وسائل الإعلام متاحة.
ثم إن الشاعر قد يضيف البيت ضمن قصيدة له على الوزن والقافية، ولم تكن هناك إشارات اقتباس في تدوينها، فهو يلقيها، ولا نتخيل متلقيًا يوقف الشاعر ويقول له: قف! هذا البيت لفلان.
أرجح أن الشعر لأبي الأسود الدؤلي:
أولاً- لأن القصيدة الكاملة في متناول أيدينا، وقد رجح البغدادي أن أبا الأسود الدؤلي هو الشاعر، وذلك بقوله:
“قال اللخمي في شرح أبيات الجمل- الصحيح أنه لأبي الأسود، فإن صحّ ما ذكر عن المتوكّل فإنما أخذ البيت من شعر أبي الأسود، والشعراء كثيرًا ما تفعل ذلك” (م.س، ص 567)
ثانيًا – لأن النفَس الشعري واحد، والحكمة هي المقصودة في هذه القصيدة المعبّرة، وفيها ترابط في كل جزئية يتناولها، وسأسوق أبياتًا أخرى منها:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداءٌ له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدًا وبغيًا إنه لدميم
والوجه يشرق في الظلام كأنه *** بدرٌ منيرٌ والنساء نجوم
وترى اللبيب محسَّدًا لم يجترِم *** شتم الرجال وعِرضه مشتوم
وكذاك من عظمت عليه نعمةٌ *** حسّاده سيفٌ عليه صَروم
فاترك محاورة السفيه فإنها *** ندمٌ وغبٌّ بعد ذاك وخيم
وإذا جريت مع السفيه كما جرى *** فكلاكما في جريه مذموم
وإذا عتبت على السفيه ولمته *** في مثل ما تأتي فأنت ظلوم
بعد أن فرغت من المادة وقعت على مقالة للباحث المحقق علي حسين يوسف في موقع (الهدى)، فمن الإنصاف أن نذكر رأيه، وقد أنصف أبا الأسود الدؤلي.
يقول الباحث علي حسين:
“عند تمحيصنا عن نسبة هذا البيت نجد أن المؤرخين قد نسبوه لمن يهوون من الشعراء بعد أن رأوا أن الاختلاف قد بلغ مبلغًا بحيث لا يعارضهم أحد في هذه النسبة الخاطئة، فنسبوه إلى الاخطل وهو في غاية البعد عن جو هذا البيت، فقد توزّع شعره بين المدح والهجاء، وأين منه مثل هذه المواعظ؟
وفي تقصّينا للشعراء الآخرين الذين نسب البيت اليهم نجد أن انفراد النحاس في نسبته للأعشى والسيرافي لحسان وابن عساكر للطرماح والحاتمي لسابق البربري يجعل هذه النسبة ضعيفة جدًا، وبخاصة انهم ذكروا البيت منفردًا ونسبوه الى شاعرهم ولو كانت هذا النسبة صحيحة لعززوه”.
* أبو الأسود الدؤلي:
أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني (ت. 688 م):
نحْوي عالِم وضع علم النحو في اللغة العربية، وشكّل أحرف المصحف بطريقة خاصة، وذلك بوضع النقاط على الأحرف العربية.
صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ولاه قضاء البصرة. وشهد معه وقعة صفين والجمل ومحاربة الخوارج.
* الطريف في سيرته أن اسمه ظالم وكان قاضيًا.

ب. فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة