جولة في نجد مع الشعراء

تاريخ النشر: 12/05/17 | 2:02

نَجْد- معنى اللفظة مرتفع، وسميت بها تلك البلاد التي ترتفع عن تِهامة في الجزيرة العربية.
ما أكثر الشعر الذي قيل في نجد وربوعها، من محبّ لها أو محب فيها، وقد ذكر ياقوت في (معجم البلدان، ج 5، ص 262):
“ولم يذكر الشعراء موضعًا أكثر مما ذكروا نجدًا وتشوّقوا إليها…”
فمن الشعر الجميل أذكر ما قاله الصِّمَّة بن عبد الله القُشَيري، وقد رأى التبريزي بذوقه أن “هذه الأبيات أشهر ما يُحفظ من النسيب الجزل الفخم المعنى البديع ديباجة وحسنًا”- الحماسة (شرح التبريزي، ص 54).
يقول الشاعر في قصيدته العينية:
قِفا ودِّعا نجدًا ومن حلَّ بالحمَى *** وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا

الشاعر يخاطب صاحبين له يستوقفهما ويكلفهما توديع نجد معه، وتوديع كل من ينزل بالحمى منه. ثم استأنف فقال ملتفتًا: ويقل لنجد وساكنه التوديع منا، لأن حقهما أعظم من ذلك، ولكنا لا نقدرعلى غيره.
صحيح أن هذا الشرح أورده المرزوقي وكذلك التبريزي في شرح القصيدة الواردة في الحماسة (ج2، ص 54)، إلا أنني أرى المعنى -مع تقديري للعالِمين العلَمين- بصورة أخرى:
ففي قوله “قل لنجد عندنا أن يودع”، يعني قليلاً ما يودّع، قلّ التوديع لنجد لأن الساكن فيه يحبه ويبقى فيه لجماله وخصبه وأسباب الحياة فيه، ولكنه يودعه اليوم بعد أن حال أبو حبيبته ريا بينها وبين الشاعر وحبه لها، حيث يخاطب نفسه في مطلع القصيدة:
حننتَ إلى ريّا ونفسُك باعدت *** مزارَك من ريا وشَعباكما معا
إنه يعترف بأنه يحنّ إلى ريا، ويندم لأنه اختار الفراق والبُعد بعد أن كان حيّه وحيُّها مجتمعين.

فهل تُودّع نجد- هذه الربوع الجميلة التي يصفها الشاعر ويقول:
بنفسيَ تلك الأرض ما أطيبَ الربا *** وما أحسنَ المصطافَ والمتربعا

فثمة الربا الطيبة وأمكنة لقضاء الصيف والربيع فهو يفديها بنفسه لحسنها.
..

مما استوقفني من الشعر الحسّي هذا البيت من القصيدة:
بكتْ عينيَ اليُسرَى فلمَّا زجرتُها *** عن الجهلِ بعد الحلْمِ أسبَلَتا معَا

كان بكاء العين الأولى قد جرى عندما هاجت مسبّبات الشوق، وعندما رأى مشارف نجد وجبل البِشر، فحاول أن يمنع عينه من البكاء، ولكن بدلاً من انقطاع بكائها نرى العين الثانية تستجيب لبكاء أختها، فيكون البكاء والندم.

ولا يستطيع القارئ إلا أن يتخيل هذا المشهد التالي:
تلَفَّتُ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني *** وجِعت من الإصغاءِ لِيتًا وأخْدَعا
ها هو عند الفراق صار يلتفت نحو المحبوبة وجِهتها حتى وجد نفسه وقد وجع لِـيتُه (صفحة العنق) والأخدع – عرق في العنق، وذلك بسبب دوام التفاته تحسرًا في أثر الحبيبة وديارها.

من الشعراء الذي كلِفوا بنجد عبد الله بن أحمد الخازن:

حُثَّ المَطِيَّ فهذه نجد *** بلغ المدى وتزايد الوجدُ
يا حبذا نجدٌ وساكنُها *** لو كان ينفع حبذا نجد

وهذا التركيب جديد فيه إبداع – “لو كان ينفع حبذا نجد”.
..

لكن عبد الله بن الدُّمَينَة اشتهر بقصيدته الرائعة:

ألا يا صَبا نجدٍ متى هجتِ من نجد *** لقد زادني مَسراكِ وجدًا على وجدِ
أأن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى *** على فَنن غضِّ النبات من الرَّند

بكيتَ كما يبكي الوليدُ ولم تكن *** جليدًا وأبديتَ الذي لم تكن تُبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا *** يَملُّ وَأنَّ النَّأْيَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ
بَكُلٍّ تدَاوَيْنَا فلمْ يُشْفَ ما بِنَا *** على أنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
على أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ ليسَ بِنافِعٍ *** إذا كان مَنْ تَهْواهُ ليس بِذي وُدِّ

وهذه القصيدة نُسبت أيضًا إلى مجنون ليلى (ديوان مجنون ليلى، ص 112)، وفي البيت الثاني في الديوان (أأن)- الهمزة الأولى استفهامية والثانية بداية حرف مصدري= أن، والتقدير (ألِهتاف ورقاء بكيت)، فالجملة هنا ليست شرطية، بل هي استفهامية إنكارية، وهذا رأيي، وقد كان خلاف بيني وبين أستاذ للغة فيها.
بينما النص ورد في مصادر كثيرة على أنه لابن الدمينة – مثلاً في (الأغاني، ج17، ص 109- دار الفكر، وفيه النص:
أإن هتفت…(بالشرطية)، وإملاؤها كما أرى: أئن، مثل لئن، فالكسرة أقوى الحركات.
..
من الطريف أن الأصفهاني يحدثنا عن العباس بن الأحنف،:
“قال يحيى… كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئًا يستحسنه أطرفني به، وأفعل مثله، فجاءني يومًا، وأنشد لابن الدمينة الأبيات، ثم ترنّح ساعة، وترجّح أخرى، ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا!
فقلت: لا، ارفق بنفسك” ن.م
..

إذا كان ثمة اختلاف هنا في نسبة القصيدة إلى المجنون فإن له قصائد أخرى ذكر فيها نجدًا، فقد ورد في الأغاني (ج2، ص 24)
“يقول قيس أخرجوني لعلني أتنسّم صَبا نجد، فيخرجونه، فيتوجهون به نحو نجد، ونحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئتَ الأجر دنوتَ منه فأخبرته أنك أقبلتَ من نجد، فدنوتُ منه، وأقبلوا عليه، فقالوا له: يا أبا المَهديّ، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفس تنفُّسة ظننت أن كبِده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن واد واد وموضع موضع، وأنا أخبره، وهو يبكي أحرَّ بكاء وأوجعَه للقلب، ثم أنشأ يقول:
ألا ليت شعري عن عُوارَضَتَيْ قَنًا *** لطول الليالي هل تغيّرتا بعدي
..
وعن عُلُوِيّات الرياح أذا جرت *** بريح الخُزامى هل تهبّ على نجد
..
ومن شعر المجنون كذلك نجد هذا الشوق العارم:

باتَتْ تَحِنّ وما بها وَجْدُ *** وأحِنُّ من وَجْدٍ إلى نجْدِ
فدُموعُهَا تَسقى الرّياضَ بها *** ودُموعُ عَيْني أَقْرحتْ خَدِّي
وبساكني نجد كلِفتُ وما *** يُغني لهم كَلَفي ولا وجدي

..
نختم القول عن نجد بما قاله أعرابي:

أكرر طرفي نحو نجد وإنني *** إليه وإن لم يدرك الطرفُ أنظرُ
حنينًا إلى أرض كأن ترابَها *** إذا مُطِرت عودٌ ومِسك وعنبر
بلاد كأن الأقحُوان بروضة *** ونَور الأقاحي وشيُ بُرد مُحبّـرُ
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي *** خيامٌ بنجد دونها الطرفُ يقصر
وما نظري من نحو نجد بنافعي *** أجل لا ، ولكني إلى ذاك أنظر
..
وهناك مقطوعات أخرى أثبتها ياقوت في مادة “نجد”- في (معجم البلدان)، كما قرأت في ختام جولتي البحثية هذه أن هناك كتابًا صدر في ثلاثة مجلدات، هو:
خالد بن محمد الخنين: (نجد وأصداء مفاتنها في الشعر)- ذكر فيه كل شعر فصيح ورد فيه اسم نجد، ويؤسفني أنه ليس في متناول يدي.

ب.فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة