عن الحلم والجهل والنابغة الجَعْدي

تاريخ النشر: 21/04/17 | 0:31

النابغة الجعدي، شاعر مخضرم. سمي النابغة لأنه بعد أن انقطع عن الشعر مدة في الجاهلية نبغ فيه في الإسلام، وهو أكبر عمرًا من النابغة الذبياني، وكان من المعمَّرين، قيل عاش مائة وعشرين، وتوفي في أصبهان.
له بيتان مشهوران هما:

وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ *** بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرا
وَلاَ خَيْرَ في جَهْل إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ *** حَلِيـْمٌ إذَا ما أوْرَد الأمْـرَ أصْـدَرَا
..
البيتان وردا في (جمْهرة أشعار العرب) لأبي زيد القُرَشي، ضمن مجموعة (المَشُوبات)، ص 275، ويقصد بها تلك التي شابها الكفر (يعني الجاهلية) والإسلام، وشاب تعنى خالط- كما لا يخفى.
ورد في هذا المصدر أن نابغة بني جعْدة اسمه قيس بن عبد الله، وقيل بل حسّان بن قيس.
أما الجعدي فنسبة لجدّه جَعدة كعب بن صعصعة.
مطلع القصيدة:
خَلِيلَيَّ عُوجَـا ساعـةً وتَهَـجَّرا *** ولُوما على ما أحْدَثَ الدَّهْرُ أو ذَرا

سمع الرسولُ النابغةّ الجعدي وهو يُنشد من القصيدة:

أتيتُ رسول الله إذ جاء بالهدى *** ويتلو كتابًا كالمجرّة نيّرا
بلغنا السما مجدًا وجودًا وسؤدَدًا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فقال الرسول الكريم: فأين المظهر يا أبا ليلى؟
قال: الجنة.
فقال النبي: قل- أجل، إن شاء الله!
ثم قال له أنشدني، فأنشده:

وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ *** بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرَا
وَلاَ خَيْرَ في جَهْل إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ *** حَلِيـْمٌ إذَا ما أوْرَد الأمْـرَ أصْـدَرَا
فقال الرسول:
“لا يفضضِ الله فاك”!
أي: لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف.
رويت القصة في كتب الأدب الكثيرة، منها (الأغاني، ج5، ص 13) لأبي الفرج الأصفهاني، و (الشعر والشعراء، ج1، ص 289) لابن قتيبة، حيث تشير القصة إلى أن النابغة ظلت أسنانه بعد دعاء النبي كاملة في فيه. ويقول ابن حَجَر في (الإصابة في معرفة الصحابة- مادة النابغة الجعدي) بأن أسنانه من أجل ذلك كانت: “كالبَرَد المنهلّ، ما انفصمت له سن ولا انفلتت”.
أما الحديث الشريف فهو موضع تساؤل عن صحته، وقد رواه عبد الله بن جراد في (غريب الحديث، ج1، ص 190) للخَطّابي، كما ورد في كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لابن عبد البَرّ- مادة النابغة الجعدي، ص 176.

لكن القصة جميلة المحتوى، وذكرتها معظم كتب الأدب، فلنحفلْ بالمعنى والعِبرة.
..

أعود إلى شرح البيتين عن الحِلم والجهل.
..

الحلم هو سَعة الصدر وقوة الاحتمال والصبر، وعكسه (الجهل) وهو الطيش، وهو أقرب ما يكون لمعنى (القبضنة) في لغتنا الدارجة، والنزوع إلى العدوان.

يقول الشاعر:
لا فائدة من حِلم إذا لم تكن له بوادر- وهي جمع بادرة، وتعني هنا الغضبة السريعة، فلهذه البوادر أهمية، وهي أنها تحمى صفاء الحلم خوفًا من أن يُكدّر، فالحلم لا فائدة فيه إذا لم يكن هناك ما يحميه، ويحمي صفوه عند الحاجة.
فالحليم لا تُخشى بوادره- كما يقول المثل، ولكن من الضروري أن تكون له بوادر عند الضرورة القصوى حفاظًا على استمرار حلمه.
أعجبني تعليق على هذا البيت قرأته في أحد المواقع ومفاده أن الحلم الزائد لدى شخص أو قبيلة أو دولة يُجرّئ السفهاء على مَن يتحلّى بهذا الحلم الزائد، فيتطاول مَن يتطاول، ويتَحامَق مَن يتحامق، ويعتدي من يعتدي؛ فهل يظلّ الحليم متمّسكًا بحِلمه، لايدفع عن نفسه أذى الآخرين؟ عندها فإن الحِلم يَتحول إلى شيء آخر، ويفقد قيمته السامية- كأنْ يسمّى مثلاً: (جبنًا) أو (هَوانًا) أو أيّة تسمية أخرى تناسبه؟
..
من جهة أخرى، فليس هناك خير في أي جهل أو طيش إذا لم يكن هناك في المقابل شخص حليم يمسك بالزمام، يتصرف في الأمور ولا يدعها تفلت، يعرف كيف يدخل الأمر وكيف يخرج منه- وبالتالي يخرج نفسه وغيره من سوء العاقبة.
..

أخيرًا وبعد طغيان “الجهل” في عصرنا، هل من حلماء يوقفون العجلة قبل انحدارها، هل نسمع كلماتهم وعِظاتهم، ونرى فعلهم؟
قبل ذلك: هل هناك بيننا حلماء حكماء لهم صولة وجولة؟

ب.فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة