عودة إلى شعر الحمائم

تاريخ النشر: 20/04/17 | 5:25

من القائل:
وهاتفةٍ في البان تُملي غرامها *** علينا وتتلو من صبابتها صحفا
الشاعر هو ابن سِنان الخَفاجي (ت. 1073 مـ في حلب)، من قصيدة مدح فيها نَصير المُلك- ومنها:
ولو صدقتْ فيما تقول من الأسى *** لما لبست طوقًا ولا خضبتْ كفّا
أراد الشاعر ألا يصدق الحمامة بأنها حزينة، وإلا فما سرّ هذا الطوق في عنقها، وما سر الخضاب على كفها؟ وهذا نوع من حسن التعليل.
يتمم الشاعر معناه، فيقول:
عجبت لها تشكو الفِراق جهالة *** وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويُشجي قلوب العاشقين حنينها *** وما فهموا مما تغنّت به حرفا
أجارَتنا أذْكرتِ من كان ناسيًا *** وأضرمتِ نارًا للصبابة لا تُطفـا
..
أعجِبت بسلاسة الأبيات السابقة وبالقدرة الوصفية في هذه القصيدة وأنا أقرأ:
كأن الدجى لما تولّت نجومه *** مدبِّرُ حرب قد هزمنا له صفّا
كأن السُّها إنسان عين غريقةٍ *** من الدمع يبدو كلما ذرفت ذرفا
..

لابن هانئ الأندلسي قصيدة كأنها استمرار للقصيدة الأولى، إذ يقول:
كأن سهاها عاشقٌ بين عُوَّدٍ *** فآونةً يبدو وآونة يخفى
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة *** صريعُ مُدامٍ بات يشربها صِرفا
..
عود عل بدء

من الجدير ذكره أن الخفاجي الحلبي يعود إلى المعنى نفسه في قصيدة أخرى:
وربَّ هاتفة هاجت جوًى وأسى ***على الغصون بتسجيع وترديد
[…] لو كنتِ بالوجد مثلي ما اكتحلتِ ولا *** خضبتِ كفًَا ولا طُوِّقتِ بالجيد
كنت قد تناولت موضوع نُواح الحمام وهًتافه في حلقة سابقة (نشرت في الجزء الثاني من كتابي: دراسات أدبية وقراءات بحثية)، وقلت فيها:
ما أكثر القصائد في موضوع الحمام وشجوه، وقد برزت في الشعر العربي ثلاث قصائد في الحمائم هي:
قصيدة أبي فراس الحمْداني، والبـَنْدَنيجي، وأبي بكر الشِّبلي (أو أبي الحسين النوري).
قصيدة أبي فراس عميقة الإحساس، فهو الشاعر الصابر، يضحك رغم أسره ومأساته، بينما الحمامة الطليقة تبكي وتنوح وتندب، فهو أولى منها بالدمع على رأيه، لكن دمعه في الحوادث ونكبات الدهر صعب ولا يُذرف بسهولة- رغم أن جسمه معذَّب وبالٍ وروحه ضعيفة.

البندنيجي:
يخطئ الكثيرون فيسمونه (البندبيجي) بالباء، ولم يعرفوا أنه منسوب إلى بلدة اسمها (بندنيجين) قرب بغداد. (انظر معجم البلدان لياقوت الحموي)
أصله من الأعاجم من الدهاقين، ولد أكمه لا يرى الدنيا.
توفي سنة أربع وثمانين ومائتين للهجرة.
وقصة القصيدة كما وردت في كتب الأدب:

مر الشاعر يوما بباب الطاق (يسمى طاق أسماء) في بغداد، وفيه سوق الطير، فسمع صوت قُـمْرِية من حانوت، وهي تهتف في قفصها، فبكى، وقال لقائده: مِل بي إليه، فأقامه عليه، فقال: أتبيع هذه؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بعشرة دراهم، ففتح منديله، فعدّ له الدراهم، ثم أخذ الحمامة، فأطلقها، وأنشأ يقول:
ناحت مطوَّقة بباب الطاق *** فجرَتْ سوابقُ دمعيَ المِهراق

بي مثلُ ما بك يا حمامة فاسألي *** من فكّ أسرَك أن يفكَّ وثاقي
انظر: ابن حِجّة الحَمَوي، (ثمرات الاوراق)، ج1، ص198.
في روايته يذكر أن الشاعر هو عبد الله بن طاهر.

* البيت الأخير هو تعبير وجداني فيه هذا التفاعل مع الحدث، وفيه البحث عن الحرية والانطلاق، كما أن في النص الغائب عذابًا ومعاناة لم يفصح عنهما الشاعر لغة، بل عبّر عن ذلك من خلال هذا الخطاب للقُمرية.
الشاعر يلخّص ما تذهب إليه هذه المقالة:
إن الحمائم لم تزل بحنينها *** قِدْمًا تبكّي أعين العشاق
أما الثالثة فهي قصيدة أبي بكر الشِّبلي، واسمه دُلَف بن جُحْدر الشبلي (ت 334هـ):
رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى *** ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ
ذكرتْ إِلفًا ودهرًا صالحًا *** فبكت حُزنًا وهاجت حَزَني
غير أني بالجوى أعرفها *** وهي أيضًا بالجوى تعرفني
هناك من نسبها لأبي الحسين النُّوري وأضاف هذا البيت:

أتراها بالبكا مولعةً *** أم سقاها البَينُ ما جرّعني

(الورقاء: الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة).
هذه المعلومة:
نقل الدَّميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) عن الغَزالي في “الإحياء” أن الشعر هو لأبي الحسن النوري:

“وروى أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت، ثم رفع رأسه وأنشدهم القصيدة ….
قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه، وإن كان العلم حقًا.”
(ج2، ص 688 – مادة ورقاء.)

ب.فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة