الغلو في الشعر

تاريخ النشر: 16/04/17 | 0:15

الغلو هو تجاوز المعنى والارتفاع فيه إلى مبالغة كبيرة.
الفعل (غلا)- نعرفه من ارتفاع الأسعار، أو من غلي الماء، فالمعنى هو الخروج عن الحد.
يرى ابن رشيق أن من أسمائه “الإغراق” و “الإفراط”، وهو يتحفظ من اعتباره فضيلة في الشعر، لمخالفته الحقيقة، وخروجه عن المتعارف.(العمدة، ج2، ص 59)
وذكر الجرجاني في (الوساطة) عن الإفراط أن الناس فيه مختلفون، من مستحسن ومستقبح.
(الجرجاني: الوساطة- باب غلو القدامى، ص 420).
ليس الحديث هنا عن مبالغات فيها فنية شعر، وتخييل، وما أكثرها، ولكن الحديث هو عن الإفراط في المبالغة إلى درجة الإحالة.
نماذج الغلو نجدها في الشعر القديم، ومنهم من اعتبر ذلك دليل فصاحة ، على زعمهم أن “أعذب الشعر أكذبه”.
سأقف على بعض النماذج منه:
يقول بِشر بن أبي خازم:
فرجّي الخيرَ وانتظري إيابي *** إذا ما القارظ العَـنَزِي آبا
يضرب مثلا للغائب لا يرجى إيابه (وذلك بسبب قتله).
القارظ: الذي يجتني القَـرَظ، وكان من قبيلة عَـنَزة، وورد أيضًا في كتب الأدب “القارظان”، ولكل منهما حكايته، وتلتقي الحكايتان في استحالة الرجوع، وقد ورد في المثل: “حتى يئوب القارظان”- (الميداني: مجمع الأمثال، رقم 3493).
القَرَظَ، هو ورق السَّلَـم يُدبغ به، ومنابتُ القرَظ اليمنُ،
ويقَال‏:‏ هذان القارظان كانا من عَنَزَة خرجا في طلب القرظ فلم يرجعا، قَال أبو ذُؤَيْب‏:‏
وحَتَّى يَئؤبَ القَارِظَانِ كِلاَهُمَا * وَيُنْشَرَ فِي القَتْلَى كُلَيْبُ بنُ وَائِلِ

أما أبو الطَّمَحان القَيني فيذهب بعيدًا في وصفه الممدوحين:
أضاءتْ لهم أحسابهمْ ووجوهُهم *** دُجى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقِبُهْ
الجِزع- خرَز فيه بياض وسواد يشبه العيون، والمعنى أنهم ذوو حسب وزكاء أصل وصباحة وجوه، فأحسابهم ووجوههم أضاءت لهم ظلام الليل، فتمكّن ناظم الجزع على نظمه.

الطِّرِمّاح بن حكيم:
ولو أن بُرغوثًا على ظهر نملة *** يكُرُّ على صفّيْ تميمٍ لولّتِ
وتتمة هجائية الطرماح لبني تميم فيها كثير من الإفراط والغلوّ.

ومن الغلو ما يثير الابتسام، كما لاحظنا في البيت السابق، ومن ذلك ما قاله شاعر وهو يهجو شخصًا قصيرًا فقال:

فأقسمُ لو خرّت من استك بيضة *** لما انكسرت من قرب بعضك من بعض
..
من هذا الإفراط ما تمجّه الذائقة حتى لو كان الشاعر بقامة المتنبي- مالئ الدنيا وشاغل الناس-:
فتًى ألف جزءٍ رأيه في زمانه *** أقلُّ جزيْءٍ بعضُه الرأيُ أجمعُ
وقوله:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه *** مثلَ الذي الأفلاك فيه والدّنا
قال ابن جنّي عن هذا البيت:
“لقد أفرط المتنبي جدًا، لأن الذي فيه الأفلاك والدنا هو علم الله تعالى وتقدس”.
(انظر: البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج4، ص 334.)
ويقول المتنبي:
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها *** كأني بنى الإسكندر السدَّ من عزمي
ويقول:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل *** لولا مخاطبتي إياك لم ترَني

من شعر المبالغة الشديدة ما قرأنا لامرئ القيس:

تنوّرتُها من أذرِعاتٍ وأهلها *** بيثربَ أدنى دارِها نظرٌ عالِ
يقال إن هذا غير ممكن، لأن الإنسان وهو في مكان اسمه أذْرِعات (قيل هو اليوم- درعا) لا يرى نار يثرب (أي المدينة المنورة)، وبين المكانين مسافة بعيدة هي على الأقل مسيرة شهر (في حسابات ذلك الزمن)، ولذلك تمحّل الشرّاح في شرح البيت، كما تمحّلوا في شرح بيت المُهلهِل:
فلولا الريحُ أُسمع من بِحَجْرٍ *** صليلَ البَيض تُقرع بالذُّكورِ
فقالوا إن هذا البيت هو أكذب بيت قالته العرب، إذ بين حَجْر (وهي في اليمامة) وموضع الوقعة ، وهي في الجزيرة مسيرة عشرة أيام. (الذكور- أجود السيوف، والبَيض جمع بَيْضَة وهي الخُوذة، وفي بعض المراجع كتبت البِيض- بكسر الباء- جمع أبيض، وهي السيوف.
يقول ابن رشيق في (العمدة- ج2، ص 59) إن هذا البيت أشد غلوًّا من بيت امرئ القيس في النار “لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكًا”.

يبدو أن (كاد) التقريبية أو الاحترازية تقلل من حدة المعنى، فنحن نستملح قول أبي صخر الهُذلي:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها *** وينبُت في أطرافها الورق النّضرُ*

(نماذج أخرى من الغلو شعرًا ونثرًا تجد في “كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ، ص 357.)

ثمة غلو فيه كفر- كما رأى العلماء، نحو قول ابن هانئ الأندلسي في المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئتَ، لا ما شاءت الأقدار*** فاحكم فأنت الواحد القهار
ولابن هانئ عشرات الأبيات التي يفرط فيها في غُلوّه- إن لم نقل في كفره.
ومن قبيل قول ابن هانئ ما قاله أبو نواس:
وأخفتَ أهل الشرك حتى إنه *** لتخافك النُّطَفُ التي لم تُخلقِ
ونسب إلى عضد الدولة قوله:
عضدُ الدولة بانٍ ركنَها *** ملكُ الأملاك غلاّبُ القدرْ
ولا ننس أن اللغة الدارجة استخدمت في معنى الإحالة ما هو أقرب إلى صور من الخيال البعيد:
(حتى ينوّر الملح)، (حتى يطلع الجحش ع المئذنة)، (بلط البحر)…إلخ
يورد القرآن الكريم نماذج من هذا الاحتراز، نحو: {يكاد البرق يخطَف أبصارهم}- البقرة، 20
،{يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار}- النور، 35.

ب.فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة