مالك بن نبي.. سنة 1968

تاريخ النشر: 21/03/17 | 15:22

أولا: حول الحصة والبرنامج ومالك بن نبي: رأيت المقطع لأول مرة بتاريخ: 26 فيفري 2017، عبر صفحة زميلنا الأستاذ عبد اللطيف سيفاوي ، فأتصل به على الفور قائلا: “السلام عليكم.. أنا الآن أتابع مقطع مالك بن نبي الذي نشرته عبر صفحتك. هل هو لأول مرة ينشر؟. فأنا أشاهده لأول مرة “، فيجيب مشكورا: “وعليكم السلام نعم لأول مرة”. فتشجعني هذه الإجابة ويغمرني فرح ، فأرد دون تردد: “سأكتب بإذنه تعالى مقال أعرض فيه ما جاء في المقطع ومبديا ملاحظاتي الشخصية..”.
وشرعت على الفور في الاستماع الإنصات للمقطع https://www.youtube.com/watch?v=VSPAnizmcfY، الخاص بمالك بن نبي عبر المشهاد المصري من 52 دقيقة و57 ثانية، لحصة “نور على نور” ومن إعداد الأستاذ أحمد فراج. وأنا كنت أظن ومنذ سنوات طوال أن برنامج “نور على نور” خاص بالإمام المفسر محمد متولي الشعراوي رحمة الله عليه إلى أن تابعت هذا المقطع.
وأعرف الأستاذ أحمد فراج من خلال حواراته التي كان يجريها مع الإمام الشعراوي، وكانت يومها رائجة تجوب الأفاق. وبين يدي الان كتاب “الإسراء والمعراج”، دار الشهاب، باتنة، الجزائر من 114 صفحة، دون الطبعة ولا سنة الطبع. وكتاب “القضاء والقدر”، دار الشهاب، باتنة، الجزائر من 170 صفحة، دون الطبعة ولا سنة الطبع. وهي عبارة عن حوار أجراه الأستاذ أحمد فراج مع الإمام محمد متولي الشعراوي، وعبر حصة “نور على نور”، وكتب أخرى لا نتذكرها وليست أمام نظرنا الان.
ومن محاسن الصدف وأنا أستخرج الحوارات التي أجراها الأستاذ أحمد فراج مع المفسر الشعراوي، وجدته يستشهد بمالك بن نبي ويأخذ عنه مصطلح “الخريطة العقائدية” وينسبها لبن نبي، متعرضا للقاء الذي أجراه معه عبر برنامج “نور على نور”، بقوله: “فكرة الخريطة العقائدية استوحيتها من حديث لي مع الفيلسوف العلامة الراحل الأستاذ مالك بن نبي وقد عرض لها أيضا في إحدى حلقات نور على نور”، صفحة 9 من كتاب “القضاء والقدر”. وقد استشهد أيضا بمالك بن نبي في صفحة 25 وقال عن كتبه “تستحق أن يحرص عليها كل قارئ”، وكذا في صفحة 33 حين إستشهد بمقطع من مقاطع خاص بمعنى الحق والواجب وردت في كتاب “المسلم في عالم الاقتصاد” لمالك بن نبي.
وهذا اللقاء الذي أجراه مالك بن نبي ذكره في كتابه:

” les Carnets de Malek BENNABI”, Samar, Alger,Algérie,2006 , P549″ .

وجاء فيه حسب ترجمتي وبتاريخ 09/10/1968 وتحت عنوان ” المشهاد نور على نور”: ” البارحة، مع أحمد فراج، قدمت حوارا مطولا للمشهاد المصري لبرنامج “نور على نور” “.

واللقاء الذي أجراه بن نبي كان بتاريخ: 08 أكتوبر 1968، ومعناه أن اللقاء كان 4 سنوات بعد استرجاع السيادة الوطنية بتاريخ 5 جويلية 1962، و5 سنوات بعد عودته للجزائر قادما من مصر سنة 1963 باعتباره غادر فرنسا إلى مصر سنة 1956، وكان عمره يوم إجراء اللقاء 63 سنة أي في كامل النضج، و5 سنوات قبل وفاته باعتباره توفى بتاريخ 31 أكتوبر 1973.

وقد ظهر بن نبي في كامل لياقته البدنية ولا تظهر عليه أدنى أعراض المرض ولا الشيخوخة، ويخيل للمشاهد أنه سيعمر قرن من الزمن وليس 5 سنوات فقط وسيموت. وتحكم جيدا في صوته وحركاته وانفعل بشكل جيد جدا، حتى أني أتساءل ولأول مرة في حياتي كيف توفى بعد 5 سنوات وهو في هذه الصحة والعافية؟.

واضح جدا أن بن نبي رزق جسما متناسقا متناغما، وقد زادته أناقته بهاء وجمالا ما يدل على أنه رجل عملي كان يهتم بمنظره ونظافته، وقد كان أحسن الجميع وعلى الإطلاق من حيث حسن المظهر وجمال الأناقة.

طيلة اللقاء الذي إمتد على مدار 52 دقيقة 57 ثانية، تحدث مالك بن نبي بلغة عربية سليمة يفهمها السامع جيدا ويعيها المتتبع، ما يدل على حرص بن نبي على مخاطبة الناس باللغة العربية السليمة، وهو المبدع في النطق والكتابة باللغة الفرنسية وقد كتب كتبه الأولى التي تنم عن عمق في التحليل والبعد في النظرة باللغة الفرنسية ككتبه: “لبيك”، و”شروط النهضة”، و “وجهة العالم الإسلامي”، و “الظاهرة القرآنية”، لكنه أصر على التحدث باللغة العربية. وحرصه الشديد ليتحدث باللغة العربية كان واضحا، حيث أنه أجهد نفسه مرارا في إختيار ونطق المصطلح باللغة العربية وكان باستطاعته أن ينطقه بسهولة ويسر لو اختار اللغة الفرنسية لمخاطبة جمهوره، لكنه رفض فعل ذلك وهو القادر على ذلك وقد اختار الضاد لمخاطبة أهل الضاد.

ثانيا: محتوى اللقاء:

الأستاذ أحمد فراج: جاءت الحصة على إثر إنعقاد الدورة الرابعة لمجمع البحوث الإسلامية بمصر، وحضرها مالك بن نبي باعتباره عضو في المجمع ، ويتم إستضافة الأستاذ بن نبي الفيلسوف المسلم لأول مرة عبر برنامج “نورعلى نور” (1).

المفكر مالك بن نبي: يرى مالك بن نبي أن كتابه “الظاهرة القرآنية” هو أحسن الكتب، واعتبرها الزيارة الثانية لمصر(2). وأشار إلى نكبة سنة 1967 دون أن يذكرها بالإسم، وانعقاد مجمع البحوث الإسلامية لهذا السبب، باعتبار المجمع إنعقد في أكتوبر 1968. وشكر مصر قائلا أنها مازالت محافظة على دينها “في أحيائها التقليدية طبعا” (3). واعتبر مصر الخريطة الثقافية المتبقية، ويقسم مراكز الإشعاع إلى ثلاثة أقسام:

مركز نيودلهي الناطقة باسم العالم الأسيوي. ومركز إسطنبول باعتبارها الخلافة الإسلامية السابقة، ومركز القاهرة التي يمثلها الأزهر الشريف والذي أدى رسالته منذ 10 قرون تقريبا. وبعد الحرب العالمية الأولى فقدت واحدة منها من هذه المراكز وهي الإستانة على يد كمال أتاتورك وزوال الخلافة الإسلامية. وبقي مركزان يشعان الفكرة الإسلامية وهما مركز نيو دلهي الذي يشع على آسيا الشرقية، ومركز الذي يشع على العالم العربي بصفة خاصة والعالم الإسلامي بصفة عامة وهو الأزهر.

وبعد الحرب العالمية الثانية أي التقسيم في الهند، وبينت هذا التقسيم في كتابي “وجهة العالم الإسلامي” الذي ترجمه الأخ عبد الصبور شاهين، وبينت في الكتاب علاقة الإشعاع الإسلامي والمكيدة التي كان يكيدها الاستعمار البريطاني، فكان التقسيم ناشئا عن الإطاحة بالإشعاع الذي تبثه مراكز الإشعاع الاسلامي وهما نيودلهي والقاهرة. وبعد تقسيم الهند بقي إشعاع واحد يبث الثقافة الإسلامية هو مركز القاهرة. والقاهرة قبل كل شيء هي هذا المركز المشع، ومن هنا يظهر خطورة الموقف تجاه القاهرة وواجب المسلم تجاه القاهرة.

الأستاذ أحمد فراج: وبعد أن أنهى مالك بن نبي كلمته الأولى خلال 10 دقائق، تدخل الأستاذ فرج وذكّر بأن بن نبي تعلم اللغة العربية بعد أن جاوز الخمسين من عمره، لأن كل كتب مالك بن نبي وضعت في الأصل باللغة الفرنسية (4). وتساءل بعدها: ماهي عوامل النهضة؟. وماهي الصعوبات التي تكتنف هذه النهضة أو تعوق دون الوصول إلى غايتها؟.

المفكر مالك بن نبي: للتحدث عن النهضة الاسلامية يستلزم الرجوع بعيدا إلى النهضة في عهد السيد جمال الدين الأفغاني والسيد محمد عبده، وهذه الفترة لا يمكن فصلها عن الفترات السابقة ولا يمكن أن يعزلها الدارس للتاريخ عن المقدمات التي سبقتها، ولا يمكن إزالة أسباب الركود الذي ثار عليه جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، ولا يمكن أن تزول تلك الأسباب بمجرد أن نقول أن هناك نهضة وننادي بالنهضة، ولا بد أن تكون هناك مرحلة إنتقالية بين مرحلة النهضة ومرحلة تحقيق شروط النهضة. ومنذ قرن من الزمن بالضبط أي منذ نزول جمال الدين الأفغاني من جبال الأفغان إلى نيودلهي، كان علينا أن نتأكد من الأسباب التي أدت إلى سقوط النهضة يومها، وكان علينا أن ندرس الأسباب التي سبقت هذه الفترة ونتحقق من الركود الذي أعاق هذه النهضة، لكن لم تجر دارسات في العالم العربي أو الإسلامي للوقوف على النهضة سواء القديمة منها أو الحديثة أو تلك المطبوعة بالطابع الثوري. وقد حاولنا دراسة هذا الموضوع في بعض كتبنا (5)، ومن الخطوط العريضة:

علينا أن نتخلص من عقدة النقص تجاه مرحلة الركود التي عشناها كموت التفكير، وجمود الجهود الجماعية، وتفكك الصلات الاجتماعية داخل المجتمع الاسلامي، وهذه المظاهر تعبر عن سكون وجمود المجتمع في فترة معينة، وهذه هذه الظواهر تعتري كل مجتمع وكل أمة وليست خاصة بالمجتمع الإسلامي فقط باعتبارها ظاهرة تاريخية. وللتدليل على ذلك فإن إسبانيا التي كانت في أوج قوتها في عهد شارلكان تدهوت وأصابها التفسخ والانحلال وانتهى دورها التاريخي وأخذت مكانها بريطانيا وفرنسا، مصداقا للآية الكريمة “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ”، آل عمران 140. ولا يمكن لتاريخ أمة أن يستقر لأنه من الحالات الشاذة، والركود في الأوج فهو ركود ولا نعبر عنه بالأوج بل نعبر عنه بالركود، لذلك علينا أن نتخلص أولا من مركب النقص لأن الظاهرة لا تتعلق بالعالم الإسلامي دون غيره بل تشمل جميع الدول. وما يجعلها تخص العالم الإسلامي أنه يعايشها في وقت أصبحت كل الوسائل الفنية تشعره بوحدة العالم، والجغرافيا قديما وانعدام الوسائل جعلت المرء بعيدا عما يحدث وغير متأثر ولا يعنيه مركب النقص تجاه الأمم الأخرى، أما اليوم فإن الوسائل الحديثة تنقل لنا ما توصلت إليه الأمم الأخرى فنصاب بمركب النقص ويكون حينها دليل على ركودنا وجمودنا الفكري، وهناك من يوسوس ويقول لنا هذا خاص بالمسلمين، وكما ذكر ذلك كاتب غربي في كتاب صدر له بعنوان ” MAHOMET ET MARX”، والكاتب يتعمد ذكر إسم محمد صلى الله عليه وسلم كما يعبّر عنه في الحروب الصليبية، ويكتبونه هكذا “MAHOMET” إمعانا في الحقد والاحتقار، ويرفضون كتابة إسمه صلى الله عليه وسلم على حقيقته هكذا “MOHAMED”.

الأستاذ أحمد فراج: ذكرت أن هذا التخلف الذي يعود لقرن من الزمن يرجعه البعض إلى الإسلام، ونحاول أن نتصور معنى عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء.

المفكر مالك بن نبي: أردت بهذا التقسيم تحديد المنهج في الدراسة الاجتماعية. فكل عمل نقوم به ومهما كان كالأكل والشرب والقراءة يعتمد وبصفة حتمية على العوالم التي ذكرتها وتكون شرطا لكل عمل نقوم به، ولا بد أن يتصل عمله بـ: عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، حيث لا يمكن أن يقوم عمله دون الاتصال بهذه العوالم الثلاث، لأن كل عمل يصدر منا لابد أن يصدر من شخص وطبقا لأفكار معينة ونماذج فكرية معينة ثم يتحقق العمل الاجتماعي بأجهزة وآلات وعلى الأقل بالأصابع ولو كانت حجرة. ولا بد من دراسة أي عمل من حيث الجدوى أو عدم الجدوى من خلال هذه العوالم الثلاثة. ومن المسلمات التسليم أن أيّ عمل ينبع من عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، وتكمن أسبابها في هذه العوالم الثلاث، واحدة منها أو إثنتين أو الثلاثة.

والإنسان ذو الذراعين والرجلين ولا يمكن تسميته بالحيوان لأن الإنسان ليس حيوان، ومن الشذوذ المقصود التساؤل كما تساءل أديب عربي من هو الإنسان؟. ويعمل الإنسان بالأشياء التي تحيط به ويعمل أيضا طبقا لنماذج فكرية تلقاها عن طريق الدراسة أو بالوراثة أو عن طريق التفكير. وغالبا عالم الأفكار هو الذي يحدد الجدوى من عدمها لأن الإنسان هو الإنسان والأشياء هي الأشياء، وغالبا ما تكون الأسباب والمعوقات من عالم الأفكار.

الأستاذ أحمد فراج: تقوم شروط النهضة على عوالم ثلاث، عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، وأي خلل في أحدهما أو كليهما أو جميعا يصيب شروط النهضة بالخلل وإن كان بن نبي يرى أن التخلف أو التقدم يعود بالدرجة الأولى لعالم الأفكار، و عليه نريد أن نعرف العلاقة بين من يدعي أن الإسلام هو سبب التخلف وبين العوالم الثلاث التي أشرت إليها؟. وكيف يستطيع المسلم أن يعيش في تقدم باستمرار وهو يحافظ على دينه والقيم الإسلامية؟. وهل يوجد في طبيعة الإسلام ما يمنع من التقدم والتطور؟.

المفكر مالك بن نبي: إذا سمح لي الأخ أحمد لنعكس القضية ونقول: هل في الإسلام ما يدفع إلى الحضارة والإسلام هو الذي بنى حضارة التي عبر عليها التاريخ من العهد القديم إلى العصر الحديث؟. ولو لم يبنى في التاريخ هذا الجسر لبقينا في العهد البيزنطي وليس في العهد الأثيني، حيث أن المؤرخ الأوربي والعالم الكبير للحضارة العربية غوستاف لوبون وهو من كبار العلماء في عصره ويمتاز بمنطق علمي قوي، عبّر عن معركة بواتيه المشهورة والتي حدثت سنة 732 و يفتخر بها كثيرا الأوربيون ولهم ذلك وهي التي دفعت بالمسلمين إلى ما راء جبال البرانس، وقال على إثرها غوستاف لوبون: يؤسفني أن معركة بواتيه أخّرت الحضارة الأوربية ثمانية قرون.

الأستاذ أحمد فراج: يفهم من قول المؤرخ الغربي غوستاف لوبون أن الغرب بمحاربته للمسلمين في معركة بواتيه تسبب في تأخره لمدة ثمانية قرون، ولو أن الحضارة الإسلامية تقدمت لتمكن الغرب من الحضارة منذ ثمانية قرون ولما ضيّع على نفسه كل هذه الفترة الطويلة.

المفكر مالك بن نبي: يفهم من هذا أن الإسلام في واقعه التاريخي وفي نظر علماء التاريخ كان يحمل وفعلا حمل جميع مكونات الحضارة في تاريخ الانسانية . وكم أتمنى من أيّ عالم أن يبيّن لنا أن تلك العوامل الدافعة للحضارة ليست من الإسلام ونقر له حينها أن الإسلام فقد هذه الميزة وهي ميزة التحضر؟. وبما أن الإسلام لا توجد لديه خاصية التخلف فقد اتضح إذن أنها أفكار مميتة تبث عمدا في صفوف شبابنا وإحياء عقيدة مميتة في نظر من يتبنون هذه الأفكار (6). وفي كتاب لأحد تلاميذ ماكسيم رودنسون بعنوان “العرب أمام الغرب” وهو للأستاذ عبد الله العلوي وهو أستاذ بكلية الرباط، وقدم له رودنسون مقدمة مسهبة ويمجد فيه ما ذهب إليه العلوي ونظرته للواقع (7) . والكتاب دسم من حيث المعلومات والمراجع فهو يكثر كثيرا من قوله قال فلان وقال فلان، حتى أن القارىء البسيط يندهش من غزارة المعلومات التي نقلها الكاتب عبر كل صفحة، لكن العالم حين يقف متأملا للكتاب ويرده إلى أصوله المنطقية يرى وعلى الفور أن الكتاب يعتمد على سفسطائية محضة وعلى مقولة منطقية إذا نظرنا إليها من ناحية المنطق، وهي:

المقدمة الأولى: كل مسلم يعتقد ويؤمن أن الإسلام أضل الأديان، والمقدمة الثانية: يرى المسلم أن المجتمع الإسلامي متخلف، والمشكلة أن الكاتب وأستاذه ومن معه في هذا الفكر السفسطائي لا يأتون بالنتيجة لأنهم يدركون جيدا أن المسلم بفطرته السليمة يصل إلى النتيجة بصفة تلقائية، فيصل إلى أن ما يراه بصري حقيقة ألا وهي أن المجتمع المسلم الان متخلف، لكن ما يتخيله ضميري وهم من الأوهام وهي كون الإسلام أضل الأديان. ونحن لا نناقش الأمي حين يقول مثل هذا الكلام، أما أن يأتي رجل علم ويقول بأن الإسلام أضل الأديان ومتخلف، نقول عنه فهو جاهل بالتاريخ وجاهل بعلم الاجتماع. وهذه النظرة توحي إلى مقارنة غير عادلة تماما بين المجتمع الإسلامي المتخلف الان والمجتمع الأوربي المتقدم الان والذي يملك الصواريخ ويصعد إلى الفضاء و غيرها، ولا يمكن إقامة هذه المقارنات من الناحية العلمية، لأنه من غير المعقول إجراء مقارنة بين طفل في السادسة من عمره ورجل مكتمل ناضج، فلا يمكن القول لماذا هذا الطفل لم يستطع أن يحمل الأثقال التي يحملها الرجل القوي الشديد لأنها مقارنة غريبة، بينما هذا الشخص يعلم بأن الحضارة الغربية التي يعود إليها ليثبت عدم جدوى الإسلام في تقديم المجتمعات الإسلامية وعدم دفعها نحو التحضر وهو ينسى بهذا حقيقة جوهرية وهي الدورة الحضارية. والدورة الحضارية تعتمد على قانون يرفض أن نقارن بين حضارتين ومجتمعين لأنه لا يمكن مقارنة مجتمعين في نفس النظرة وفي دورتهما الخاصة، لأن المجتمع الغربي يعيش سنة 1968 والمجتمع الإسلامي يعيش سنة 1388 هـ، إذن لا يمكن مقارنة بين طفل في 6 سنوات وشاب قوي شديد في 30 سنة أو 35 أو 40 من عمره، لأني حين أقارن بين حضارتين أقارنهما في نفس المرحلة، وحين أقارن بين شخصين أقارنهما في نفس المرحلة لأنه لا يمكن مقارنة شيخ بطفل.

الأستاذ أحمد فراج: الحضارة الإسلامية في وقت معين وصلت فيه إلى الذروة سبقت فيه الحضارة الغربية، ولا يمكن مقارنة 1388هـ بسنة 1968، لأن المسلمين كانوا قبل ذلك بقرون وكانوا صغارا يومها مثل اليوم لكنهم سادوا أوربا ونشروا العلم والتقدم وأساليب التقدم، وهذه النقطة قد ترد في الفهم.

المفكر مالك بن نبي: أردت إرجاع القضية إلى التاريخ الهجري والميلادي قصد التبسيط، وملاحظتك صحيحة تفرض علينا الرجوع إلى ملاحظات ليس هذا مجال ذكرها، وقد ذكرتها في كتابي “شروط النهضة”، لأن المسيحية جاءت قبل الإسلام بـ 6 قرون، وتأخرت الحضارة المسيحية عن الحضارة الإسلامية بـ 8 قرون في نظر غوستاف لوبون .

ثالثا المناقشة:

الأستاذ أحمد فراج: لو بقينا الكثير لما انتهينا من الحديث عن الحضارة، وأغتنم الفرصة لأشكركم باسم البرنامج على حرصكم الشديد على تعلم اللغة العربية منذ مدة وجيزة، وهذه مسألة تستحق منا التقدير بعد أن كتب مالك بن نبي كتبه باللغة الفرنسية وحياته بالنطق باللغة الفرنسية، ورغم ذلك حرص على تعلم اللغة العربية والنطق بها بهذه الطريقة المحببة إلينا جميعا، ولا أحب من الإخوة الحضور أن يحرموا من وجودك معنا، ونحب أن نرى وجهة نظرهم، وليشرعوا الان في طرح الأسئلة (8).

السؤال الأول: لماذا لا تجتمع الدول الإسلامية في تدعيم الدول الإسلامية؟.

إجابة المفكر مالك بن نبي: أشكر الأخ أحمد على طرح هذا السؤال المهم والخاص باهتمام الدول الإسلامية بنشر الدعوة الإسلامية لأن أول داعي إلى الإسلام هو رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، لكن أقول لأخي الكريم أن المسألة اليوم ليست لها علاقة بالكم من حيث عدد المسلمين، والقضية في تعميق الوعي وشعور الفرد بالمسؤولية، ولو شاء الله أن يهدي أحدا لهداه ودون تدخل مسلم واحد، بل أقول مع التجربة والخبرة في هذا الموضوع أن الإسلام أصبح يدعو بنفسه ولنفسه وبعض المسلمين يصرفون الناس عن الإسلام بتصرفاتهم، وتحولوا بالتالي إلى دعاية مضادة للإسلام.

السؤال الثاني: أريد أن أعرف ماهي الأماكن التي تلقى فيها مالك بن نبي دراسته؟.

المفكر مالك بن نبي: الابتدائي والثانوي في الجزائر، والتعليم العالي بباريس فرنسا. وهذا كل ما في الأمر، وهذا سؤال شخصي (9) .

السؤال الثالث: بعض الأديان لها مبشرين، لماذا لا يكون لدينا مبشرين ينتشرون في القارة الإفريقية والقارة الأسيوية وتلتقي بالمجتمع؟.

الأستاذ أحمد فراج: سؤالك هذا أجاب عنه بن نبي وتقديرا لرأي بن نبي الذي يرى ضرورة الاهتمام بالكيف قبل الكم، أقول: الجمهورية العربية المصرية تتوسع في هذا المجال وترسل بعثات إلى الدول العربية والإسلامية والدول الإفريقية فضلا عن التعريف بالتعليم الديني والبعثات والمصاحف المرتلة ، وليس هذا مجال التطرق لهذا الموضوع، وربما مالك بن نبي لمس هذه المجهودات.

المفكر مالك بن نبي: بعدما أشاد بالجهود التي تقوم به مصر وقد عاشها ولمسها ، وذكر أن مجهودات مصر في الجزائر ملموسة ومشاهدة عبر بعثات الأزهر، قال: الدول الكبرى لها مراكز ثقافية وقد شاهدت بعيني أن أكبر مركز ثقافي إشعاعي حقيقي هو للجمهورية العربية المصرية، وهذه حقيقة.

السؤال الرابع: كثير من المستشرقين المغرضين يرون أن الإسلام إنتشر بالسيف، ما رأيكم في ذلك؟.

المفكر مالك بن نبي: أظن أننا أثرنا هذه النقطة بالذات في كتابنا “الظاهرة القرآنية” (10)، وعلى كل فالإسلام مرّ بمرحلتين: المرحلة الأولى وتتعلق بالدفاع عن كيانه العضوي وهي الفترة المدنية، وهي فترة يجاهد فيها الإنسان أو يزول ولا خيار له في ذلك، وكأن المرء يقول: إن الله أرسل نبيه ليزول وأن الله بعث أنبياءه ليستسلموا، وفي الحقيقة ما أرسل الله نبيا ليزول وهذا من العبث الذي لا يليق بالله تعالى، بل أرسل الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو بالتي هي أحسن ودعا واصطبر عليها ، وتعرض لسوء حين ذهب للطائف ويوم الهجرة، وبعد أن أصبح في المدينة شرع حينئذ الجهاد لأن المدينة يومها أصبحت دولة ضد دولة أخرى لم يكن لها إسم بعد وهي الدولة الجاهلية التي تمثلها قريش، فقامت دولة الإسلام في المدينة المنورة ضد دولة الجاهلية. والسيد عبد العزيز كامل الذي قدم محاضرة وبحثه القيم من قبل في مؤتمر البحوث الإسلامية سبق أن نبهنا إلى دولة قريش التي كانت لها علاقات مع الروم والفرس وحتى أن الروم كان لهم حدود على تخوم خيبر، وكانت هذه الدولة تكن كرها شديدا للدولة الإسلامية الناشئة فكان لزاما عليها أن تدافع عن نفسها بالسيف ولا تدعو للسيف، وكانت الفكرة الجديدة تدافع عن كيانها فلم تكن تريد فتحا بالسيف إنما كانت تريد بقاء بالسيف، وفرض الجهاد ليبقى لا للدعوة، ولم يفرض الجهاد لفرض الفكرة إنما فرض الجهاد ليحافظ المؤمن على إيمانه، فالمسلم مطالب أن يحافظ على إسلامه ولو بالسيف والجهاد وهذا هو معنى الجهاد.

أما الفتوحات الإسلامية فكانت نتيجة لهذا التسلسل وانطلاقا من الفترة المدنية واستمر الأمر بنفس الطريقة فيما بعد عبر العصور التي تلته كالعصر الأموي والعباسي وانتهى الأمر بهذه الطريقة. و الان هل أندونسا عرفت سيفا من سيوف المسلمين وهي الان في أواخر1968 وعدد سكانها مائة مليون مسلم (سنة 1968) أي أكبر قطعة مسلمة في العالم الإسلامي، ولا يمكن لأي كان ولو كان من السفسطائيين أن يدعي أن أندونسيا دخلها الإسلام بالسيف، وكذلك الفلبين، والصين، والغابون، والكونغو، وكينيا، وكل وإفريقيا. وانتهى عهد السيف لما استقر الإسلام وتأكد من أنه لن يؤتى من الهجومات الخارجية .

الأستاذ أحمد فراج: نشكر السيد الأستاذ مالك بن نبي الفيلسوف الجزائري المسلم (11) على هذا اللقاء الذي أسعدنا به في القاهرة قبل سفره المرة الثانية إلى الجزائر وبعد إنتهاء مؤتمر مجمع البحوث ، ونرجو أن تكون زياراته للقاهرة تأكيدا للحقاق التي رآها في المرة الأولى والثانية ، وسيجد القاهرة في الطليعة مركز إشعاع في الطليعة والتجدد إن شاء الله في خدمة الإسلام، ونشكر حضراتكم جميعا، ونرجو أن نلتقي معكم مجددا والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1. ما زلت أتساءل بغرابة لماذا يطلق على المفكر مالك بن نبي لقب مسلم وهو مسلم بالفطرة، وكأنه يتحدث عن غربي دخل الإسلام حديثا. وقد إنتبهت لهذه الفكرة بعد أن استحضرت وقائع ذكرها بن نبي في بعض كتبه وهو يشرح خبايا الصراع الفكري حين تم تقديمه على أنه ” أوربي مسلم ! ” وهم يقدمون بعض كتبه التي طبعت دون إذنه، وقد كان ذلك عمدا ليتم تشويه صورته. وإننا نحسن الظن بالأستاذ أحمد فراج ونعتبرها زلة لسان.

2. لمعرفة الزيارات الأخيرة لمالك بن نبي لكل من مصر والشام، يرجى مراجعة كتاب “في صحبة مالك بن نبي” من جزأين، الجزء الخاص بما حدث بعد عودته للجزائر سنة 1963.

3. واضح جدا أن بن نبي يعرف جيدا مصر ويحسن التفريق بين أحيائها التقليدية التي ما زالت متمسكة بدينها وبين المدن والعاصمة التي تمتاز به المدن الكبرى والعواصم، دون أن يجرح أو يتملق.

4. أخطأ الأستاذ أحمد فراج حين زعم سهوا أن كل كتب مالك بن نبي باللغة الفرنسية، والصواب أن بن نبي كتب كتابه “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” سنة 1960 كما هو موضح في الصفحة 7 من الكتاب. وكتابه “مذكرات شاهد القرن الجزء الثاني” بتاريخ 5 ماي 1960. و كتابه “مجالس دمشق” مرفوقا بقرص الذي يحتوي على محاضراته باللغة العربية التي ألقاها بالشام سنة 1971 – 1972، ضف لها رسائله المتبادلة مع الأستاذ عمر كامل مسقاوي. وبين يدي الان كتابه “TEMOIGNAGES SUR LA GUERRE DE LIERATION”، يذكر صاحب المقدمة الأستاذ صادق سلام في صفحة 14 أن بن نبي ترجم الكتاب إلى اللغة الألمانية، والفرنسية ، و اللغة العربية بعنوان ” النجدة… النجدة… الشعب الجزائري يباد”، وكان ذلك بتاريخ 1957. و مقالاته التي كتبها باللغة الفرنسية بالجزائر إبان الثورة الجزائرية ثم أعاد جمعها في كتابه “في مهب المعركة” باللغة العربية سنة 1961. و مقالاته التي كتبها باللغة الفرنسية بالجزائر إبان إسترجاع السيادة الوطنية ثم أعاد جمعها في كتابه ” بين الرشاد والتيه” باللغة العربية سنة 1972. وكان يطلب من مترجميه خاصة عبد الصبور شاهين أن يقدم له النسخة باللغة العربية ليصححها بنفسه ويجري ما يجب من التغيير والتصحيح، وحرص حرصا شديدا على ترجمة كتبه إلى اللغة العربية، ضف لها المحاضرات التي ألقاها باللغة العربية سواء في الجزائر أو في غيرها.

5. يقصد كتابه “شروط النهضة”.

6. لمعرفة معنى الأفكار الميتة والأفكار المميتة، راجع كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” لمالك بن نبي.

7. بن نبي يقولها باستهزاء من خلال طريقة كلامه وكيفية إستعمال إشارات يديه وصوته.

8. أقول: وقد بدى بن نبي فرحا ومسرورا من تدخلات الجمهور، ورحب كثيرا من تدخلات الجمهور.

9. واضح جدا أن بن نبي لا يحب التطرق لحياته الشخصية، ويريد أن يستغل اللقاء إلى اقصى حد في التعريف بعالم الأفكار، وشروط النهضة، والقيام بالأمة.

10. للزيادة راجع كتاب بن نبي: “إنتاج المستشرقين و أثاره في الفكر الإسلامي”، الذي طبع ضمن كتاب “القضايا الكبرى”، الطبعة الأولى سنة 1412 هـ – 1991 ، دار الفكر، السورية ، من 198 صفحة. وقد ذكر في الكتاب أن المادحين من المستشرقين أخطر على الأمة الإسلامية من الذين يذمون الحضارة الإسلامية وعلّل ذلك.

11. لماذا الأستاذ أحمد فراج يركز ويكرّر في الخاتمة كما بدأها في المقدمة على بن نبي مسلم وكأنه مع غربي دخل الإسلام حديثا، غم أن بن نبي مسلم بالفطرة شأنه في ذلك شأن جميع الجزائريين، وهذا من العيوب التي أرتكبت ضد الجزائريين وزادت في التشويه. ونلتمس للأستاذ أحمد فراج العذر ونعتبرها من زلة اللسان التي يعفو عنها الأخ الكريم.

معمر حبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة