جولة أدبية مع أبي تمام

تاريخ النشر: 22/03/17 | 0:00

روايات مختلفة حول قصة البيت وكيف تخلَّص أبو تمام:
البيت لأبي تمام، وهو:
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ *** في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ

المناسبة:
امتدح أبو تمام أحمدَ بن الخليفة المعتصم في قصيدة مطلعها:
ما في وقوفك ساعةً من باس *** تقضي ذِمامَ الأربُعِ الأدْراس
فلما بلغ قوله :
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ *** في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ

قال يعقوب بن إسحق الكِندي ناقدًا:

“إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب، فمن هؤلاء الذين ذكرتهم؟ وما قدرهم؟”

أطرق أبو تمام قليلاً، فحضره بيتان ارتجلهما، على نفس الوزن والقافية:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه **** مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره *** مثلاً مـن المِشكـاة والنبراس

بهذه الإجابة المفحمة ذكّر أبو تمام بأن هؤلاء المشهورين الذين أشار إليهم في معرض مدح الممدوح- جزء من عظمة العرب، وقد ذكرتهم العرب في أمثالها المشهورة، وذلك طبيعي أن نذكر الجزء للدلالة على الكل، فالله قد اختار المشكاة (كُوّة صغيرة)- لكي يضرب بها المثل على نوره تعالى وهو أبلغ من أن يوصف، فجعل المشكاة التي فيها مصباح لتقريب الصورة لعباده، وذلك في إشارة لآية سورة النور {الله نور السموات والأرض، مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح…}- النور، 35.
والتشبيه كما نلاحظ ضمني، ودفاع أبي تمام كأنه يقول: لا تثريب علي في ذلك ما دام القرآن قد ضرب التشبيه الأقل لنوره.
..

استطاع الشاعر في رده الحصيف أن يحوزعلى ثقة الخليفة، ويقال إنه أصبح واليًا على المَوصِل جزاءً على سرعة بديهته.
قيل: أخذ الكندي الرقعة التي كان قد دوّن فيها القصيدة، فلم يجد فيها هذا الرد المفحم فقال متفرسًا:
“إن هذا الرجل لن يعيش طويلاً، لأنه ينحِت من قلبه”.
(انظر: ابن رشيق- العمدة، ج1، ص 167- باب البديهة والارتجال.)

على ذلك، صدقت فراسة الكِنْدي، حيث توفي أبو تمام عن ثلاث وأربعين سنة (188- 231 هـ).
..

لكن ثمة دفاع عن الشاعر، وقد يكون ردًا على الكندي:

لقد أبدع الشاعر في الجمع بين مشاهير في أكثر من ميدان- في أقدام عمرو بن مَعْديكَرِب وفي حِلم أحْنف بن قيس، وفي ذكاء إياس القاضي وفي جود حاتِم الطائي، وكلٌّ قمة في الفضل والسؤدد، فهم ليسوا أجلاف العرب كما زعم الزاعم، بل إن الممدوح جُمع في مفرد، أو أن الله جمع في الممدوح ما فرّقه على غيره من عظماء الرجال، فقد جمع فيه من أحاسن الصفات ما لم يجتمع لغيره، أو كما وصف أبو نواس:
ليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالَم في واحد
..

يذكر ابن خَلِّكان القصة، ويروي الرواية التي تقول إن الممدوح هو الخليفة المعتصم، (وليس ابنه أحمد) وكان الوزير حاضرًا.
يعلّق ابن خَلِّكان على هذه القصة، فيقول:
“هذه القصة لا صحة لها أصلاً”
يقول في مادته عن أبي تمام (وفَيات الأعيان، ج2، ص 14-16):

“إقدام عمرو في سماحة حاتم … في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال له الوزير: أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟
فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وأنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه … مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره … مثلاً من المشكاة والنبراس
..
فقال الوزير للخليفة: أي شيء طلبه فأعطه، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يومًا، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكر، وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر.
فقال له الخليفة: ما تشتهي؟
قال: أريد المَوْصِل، فأعطاه إياها، فتوجه إليها، وبقي هذه المدة ومات.
وهذه القصة لا صحة لها أصلاً.”
..
يمضي ابن خلكان في ترجمته لأبي تمّام، ويقول:

“وقد ذكر أبو بكر الصولي في كتاب “أخبار أبي تمام” ( ص 231- 232 ف.م)، أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم وانتهى إلى قوله: إقدام عمرو – البيت المذكور – قال له أبو يوسف يعقوب بن الصباح الكندي الفيلسوف، وكان حاضرًا:
الأمير فوق من وصفت.
فأطرق قليلاً، ثم زاد البيتين الآخرين، ولما أخِذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين، فعجبوا من سرعته وفطنته.
ولما خرج قال أبو يوسف، وكان فيلسوف العرب: هذا الفتى يموت قريبًا. ثم قال بعد ذلك: وقد روي هذا على خلاف ما ذكرته، وليس بشيء، والصحيح هو هذا.”

يقول ابن خلكان:
“وقد تتبعتها وحققت صورة ولايته للموصل، فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب ولاه بريد الموصل، فأقام بها أقل من سنتين ثم مات بها.
والذي يدل على أن القضية ليست صحيحة أن هذه القصيدة ما هي في أحد من الخلفاء، بل مدح بها أحمد بن المعتصم، وقيل أحمد بن المأمون، ولم يلِ واحد منهما الخلافة.”

وردت في (المُوشَّح، ص 366) للمرزَباني رواية أخرى، أن الإلقاء كان أمام الكندي لما سأله:
“أنشدني أقرب ما قلت عهدًا”، فأنشد قصيدته التي يقول فيها:
إقدام عمرو ….
فقال له الكندي:
ضربت الأقل مثلاً للأعلى، فأطرق أبو تمام، ثم قال على البديهة….(البيتين)”.
..
ثم يذكر المَرزَباني رواية الصُّولي، بأنه ألقى قصيدته على أحمد بن المعتصم، ويضيف:
“فقال له الكندي وكان حاضرًا وأراد الطعن عليه: الأمير فوق ما وصفت، فأطرق قليلاً ثم زاد في القصيدة بيتين لم يكونا فيها- لا تنكروا ضربي له من دونه، وذكرهما، قال: فعجبنا من سرعته وفطنته.”

هناك من يرى أن البيتين كان أبو تمام قد أعدهما مسبقًا لحالة “الطوارئ”، فقد توقع أن يعترض ناقد من بين الحضور، وحتى لو صح ذلك فهذا أيضًا ذكاء شديد- أن يأخذ للأمر أهبته.
..

ثم إن الشك في صحة القصة لا ينفي جمالها، ولا يقلل من أهمية البديهة والارتجال، والبيتان بليغان حقًا في وجه التخلص، وفي هذا التشبيه الضمني الرائع.

ب.فاروق مواسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة