قراءة في كتاب “الشعر والفنّ كما أفهمهما”

تاريخ النشر: 08/02/17 | 17:51

أهداني الشاعر ابراهيم مالك كتابه “الشعر والفنّ كما أفهمهما – خلاصة تجربة” قبل بضعة أسابيع وقد قرأته بمتعة كبيرة، لما فيه من توضيح لمواقف الشاعر الأساسية في الحياة، ونظرته الى الشعر والفن، ولكتاباته الشعرية ذاتها. صحيح أن هذا أمر غير مألوف لدينا، أن يوضح الشاعر بنفسه معاني قصائده، إلّا أنّ هذه الخطوة، التي قام بها ابو مالك، لم تأت من قبيل مدح الذات وإنّما لتثير لدى قراء الشعر، ومؤلفيه، الضرورة للابتعاد عن رصف الكلام، إذ، ليس كل ما يكتب وينشر، وهو كثير في أيامنا، تحت مسمى شعر، هو حقًّا كذلك.
إنّ المواضيع التي يعالجها الشاعر في كتاباته متنوعة وسبق ان تطرقنا إليها في مقالات وقراءات سابقة. لذا سأقتصر في هذه القراءة على توضيح ما أراه أساسيا، دون الخوض في التفاصيل والأمثلة الكثيرة، وأوصي من يرغب في التعمق، بقراءة الكتاب.

الموقف من المرأة
يقول الشاعر: “أرى في المرأة تجسيدا لذاتي الإنسانية ، وأريد لهذه الذات أن تشع جمالا وفتنة. وأنا لا أخجل من هذا الحب، وهو الذي لم أخفه يوما، وأصارح به”. والمرأة تأخذ دورها في قصائد ابراهيم مالك فهي حاضرة فيها وفي عناوين مجموعاته الشعرية. ولعل ابرزها “فاطمة” – المعشوقة الخيالية التي يحملها كل الصفات التي يجمل بالمرأة ان تتحلى بها، ما يجذبه في المرأة من صفات الأنوثة والجمال، إلا أن هذا العشق للمرأة لا يختزلها الى جسد من جهة ولا يُغَرِّبُها الى روح مثالية من جهة أخرى. فهو يرى الجمال الجسدي فيعجبه، وهو يرى العيون وما تعبر عنه، فيعجبه، وهو يرى تشقق أيديها، نتيجة الكدح والعمل، فيعجبه. يرى فيها النخوة والصبر ويرى فيها عاملا يحرك الحياة، يتفاعل معها ويغيرها.

الرأسمالية
يقول الشاعر: “أخاف ممّن ألهاهم الجشع وحال دون أن يروا المنحدر الذي يدفعون إليه عالمنا الجميل. وهذي الناس، ممسكة بعنان عالمنا وتستطيع ، إن سمحنا لها، وإن لم تكن إنسانيتنا واعية كفاية وحذرة، تستطيع قتل الجمال والحياة فينا وفي عالمنا”. فالشاعر يعبر عن قلقه من تفاقم الرأسمالية وازدياد قوتها وسيطرتها، من انتشار مقاييس السوق “الحرة” وقيمها بين الناس، حتى البسطاء، من السعي المحموم وراء المادة، ليل نهار، يرافقه فقدان للقيم الانسانية الحقّة وانعدام للرؤية الجمعية. هذه النظرة وهذه القيم التي تسوغ لمن يستطيع أن يحتل ارض الغير، ولمن يستطيع أن يؤجج الحروب وأن يعيث الفساد في الأرض، انطلاقا من مبدأ الربح وقدسية المال. والشاعر يلاحظ وبعمق التفتت الجاري في بنيتنا الاجتماعية وفقدان القيم التي تشكل الصمغ الذي يربط بين ابناء مجتمعنا ويعبر عن قلقه من جرّاء ذلك. فالعلاقات الاجتماعية هامة وضرورية، يقول: ” وأدركُ أنَّ الحياة هي السعي، الذي لا يعرف الكلل ولا الملل، للفوز بصداقة الناس، أترابي، والفوز بمحبتهم، فمحبة الناس، محبَّة الإنسان، مَن كانَ وحيث يكون، هي قوّة، ومحبتهم لك حين تشعرها وتُدْرِكُها أكثر قوة”.

هاجس الموت
يقول الشاعر: “وأدرك، أنني أشيخ قليلا ليكبر أولادي وأحفادي الجميلون والجميلات ويكبر كثيرون في عالمنا وبلادنا. وهذا مصدر فرح لا أكتمه، لأنّ الفناء يعني هنا تجدُّد الحياة”. ان هاجس الموت وثنائيته مع الخلود قد شغلا فكر الشاعر بقدر كبير، خاصة بعد أن تراجع وضعه الصحي كثيرا في بداية الألفية وهو ما اتفق ان يسميه “المرض”. ان الشعور بدنو النهاية لا بد وأن يشغل فكر كل انسان وطرح التساؤلات حول ماهية الحياة وجدواها، حول الخلود بصفته رغبة عامة لدى كل انسان واستحالته التي تهبط العزائم. هكذا نجد شاعرنا يعمل الفكر في هذين الموضوعين ويتطرق اليهما في عديد نصوصه. إلّا أن الاستنتاج أو بالأصح، القناعة، بأن الخلود (يبقى حكرا على الآلهة) دون البشر، والرؤية بأن استمرارية الحياة الإنسانية هي الهدف، هي ما تهدئ من روع الشاعر وشعوره بالرضا حين يرى بالأجيال القادمة، استمرارية حياته. ولهذا نجده قلقا حول مصير الانسانية ونوعية الحياة التي ستعيشها هذه الأجيال. من هنا نرى اهتمامه بالأساطير، باعتبارها الوليد البكر للعقل الانساني، خاصة السومرية، والقصص الشعبية ذات الصلة. ولعل ابرز الأساطير التي يستقي منها هي ملحمة جلجامش وبطلها في بحثه الدؤوب عن الخلود وكذلك في علاقته مع صديقه أنكيدو.

تجربته الشعرية
يقول الشاعر: “وقد أقنعتني هذه التجربة أنَّ كتابة الشعر لا تعرف جيلا محدَّدا، فقد تكون ولادةُ التفتح الشعري مبكرة وقد تكون متأخرة وبعد تراكم خبرة حياتية ونضج معرفي، يسهم في تطوير فلسفة حياتية، هي من أكثر ما يحتاجه الشاعر في تطور شاعريته وانطلاقها”. إذا، وبغض النظر عن الجيل الذي يبدأ فيه الشاعر مشواره، يبقى الشيء الاساس هو: هل لديه ما يقول للناس؟ وما يجمل بالشاعر ان يقوله للناس لا بد وأن يكون أمرا مهما، قناعة توصل اليها بحكم تجربته الشخصية، او فكرة معينة اقتنع بها بعد إعمال جهد وفكر. هذا هو ما يبعد الشاعر عن مخاطر “رصف الكلام” والفذلكة اللغوية. وسوف نعود لاحقا الى فكر الشاعر بخصوص الشعر والفلسفة.
هل الشعر اذا نص فلسفي جامد؟ هل كل نثر يحتوي على فكرة ما هو شعر؟
يقول الشاعر: “يجمل به أن تكون قصيدته وليدة موسيقى داخلية، ذات إيقاع خاص، ملون ومتعدِّد ويجمل به ألاَ يحبس عالمه الشاعري فيما يرى فيه البعض أهم شروط القصيدة – الوزن والقافية”. اذا الشاعر يشترط بالقصيدة احتوائها لموسيقى داخلية ولإيقاع خاص بالشاعر، لا ينسخه عن غيره فلا يقلد، ولا يلتزم بما التزم به شعراء العربية في الماضي من تفاعيل وبحور شعرية، كانت مناسبة لنمط حياة العرب في القرون الماضية، تستسيغها آذانهم وقرائحهم، تناسب وتيرة حياتهم ونمطها، فيما مضى. فالشعر اليوم، يجمل به ان يتحرر من هذه القيود دون الاستغناء عن الموسيقى أو الجرس الموسيقي، النسق الخاص بكل شاعر وشاعر.
اذا على الشاعر المعاصر أن يبني شخصيته الشعرية الخاصة، عليه أن يطور ذاته بصورة مستقلة ومستمرة، أن يكثف من قراءته لكافة انواع الانتاج الأدبي، نثرا وشعرا، القديم والجديد، العربي، المحلي والقطري، والعالمي. إن هذا الانكشاف على انتاج الآخرين وعلى النصوص الابداعية هو ما يلهم الشاعر ابداعه ويبين له طريقه نحو التفرد. فالتفرد هنا لا يعني الانغلاق، بل العكس من ذلك تماما. هذا الموقف لا يجب ان يفهم منه ان الشاعر يدعو للتقليد! على العكس تماما من ذلك هو يدعو للامتناع عن تقليد أي شاعر أو أديب، مهما كان عظيما ومشهورا. فما فائدة النص إذا كان مألوفا وخاليا من التجديد والتميز؟ من جهة أخرى، يدعو الشاعر للتجريب. فالتجريب هو آلية التطور. فالشعر كما يفهمه هو قصيدة واحدة، لا تموت ولا تستقر على حال. تجب الكتابة بأسلوب يناسب وضع الشاعر الحالي، وبعد زمن، عندما تتطور ملكاته اللغوية والفكرية، يجب الكتابة من جديد. هكذا يحافظ الشعر على شبابه وعلى حيويته، هكذا تظهر القصيدة بأبهى زينتها حينما تواكب روح العصر. قصيدة يشكل همس الطبيعة موسيقاها الداخلية، مشحونة بالتأمُّل والإيحاءات والاستعارات الجمالية المختلفة وبالمتخيَّل العقلي . ليصبح العقل، لا القلب، هو الذي يتحكَّم بالمُتخيل والصور الإيحائية.
ويخلص الشاعر الى القول بأن: “القصيدة الحديثة يجمل بها أن تتسم بالتكثيف، شِدَّة الإيحاء، شفافية الترميز, عدم الغرق في التعمية، فضلا عن الإجادة في توظيف الاستعارة والتلميح الأسطوري”. وفيما يخص التلميح الاسطوري لا بد من التشديد على انه ليس المطلوب سرد الاسطورة من جديد او نسخها. انما المطلوب استيعابها، فهمها وتذويتها ومن ثَمَّ طرحها بأسلوب الشاعر الخاص. أي أن عمليات الاستيعاب في العقل والنقل الى اللاوعي تسبقان عملية الابداع، عملية توظيف الاسطورة في صورة شعرية جديدة. هكذا نجد ان الشاعر في قصيدة معينة ينفي عن عناصر الاسطورة ما علق بالذهن الجمعي ويكسبها صفات جديدة، قد تكون حتى معاكسة للمعروف والمتبع.
قبل ان ينقلنا الشاعر الى حديث حول الشعر والفن، لا بد وأن ننقل موقفه بخصوص “تعب” الكتابة. يقول: “حين أكتب لا أشعر بتعب، أنتهي سريعا من كتابة القصيدة، فأشعر عندها بفرح مصحوب ببعض وجع التوتّر النفسي. لكن فكرة القصيدة تعيش في ذهني طويلا”. اذا الجهد الاساسي الذي يبذله الشاعر يكون اثناء المراحل السابقة للكتابة وحتى اختمار فكرة القصيدة في اللاوعي. هناك يكون الجهد والتعب وليس في طرح الصيغة. وهو يشبه ذلك بعملية الصيد، فالقناص يمشي عدة كيلومترات، يراقب الطبيعة، يصعد القمم ويهبط الوديان، حتى اذا رأى فريسته، اقتنصها في لحظات قليلة. هكذا هو الشعر ايضا. يقرأ الشاعر كثيرا، يستوحي فكرة ما، يمر وقت طويل من التفكير بها، وحين تنضج الفكرة، تكتب سريعا. تلي هذه المرحلة السريعة من طرح النص، عمليات متكررة من القراءة وتحسين النص، حتى يجد الشاعر ضالته الآنية، القصيدة بشكلها المناسب له في هذه اللحظة. فالقصيدة، على جمالها وموسيقاها، كما ذكر سابقا، تبقى عرضة للتفكير وإعادة التفكير من جديد، تعاد صياغتها وتجديدها بشكل مستمر. خلاصة القول: “أنّ من لا يمتلك القدرة على التخيّل ، أيْ أنَّهُ يعيش حالة خيال في لحظة ما، لا يستطيع أن يكون شاعرا حقا، لن يكون كذلك حتّى لو حفظ عن ظهر قلب كل الأوزان الشعرية في عالمنا”.

الشعر والفن
من يعرف أبا مالك جيدا ويتابع نشاطاته يعلم أنه يكثر من لقاءاته مع الفنانين التشكيليين ويشارك في ورشاتهم، يراقب عملهم، يحاورهم، ويتمعن في انتاجهم وإبداعاتهم. فهو يشارك طاغور، الشاعر الهندي، في رؤيته للفن ” على أنَّه جزء من النشاط الإنساني ، لكن ليس ذلك النشاط الذي يشبع مِعَدَنا، بل عقلنا وحياتنا الحسية ويهذب واقعنا”. من هنا تنبع أهمية الفن، بكافة أشكاله، رسم، نحت، تصوير، رقص، موسيقى، مسرح، ….. ولذا يجب الاهتمام بالفنانين وابداعاتهم بكافة الطرق كمهمة مجتمعية من الدرجة الاولى.
يقول الشاعر: “الشعر هو في حقيقته كلمات مرسومة بلغة مُمَوْسقة هو أشبه بلوحة موحية وكثيرة الدَّلالات. وكما يُشترط، لتطوّر الكتابة الأدبية بين أمور كثيرة، توفر علاقة جدلية ومتبادلة التأثير بين الكاتب والقُرّاء، كذلك هو الأمر فيما يتعلق بهذه العلاقة بين الفنان التشكيلي والمُتلقي”.

الشعر والفلسفة
يقول الشاعر: “الفلسفة تعتمد في تأملها على العقل المتسائل ، العقل الباحث ، المُفكِّر والجريء . وغاية التقصي العلمي والمعرفي عند المفكر هي البحث عن الحقيقة والإسهام في تنمية وعي إنساني وقيم إنسانية، وتقديم أجوبة وتفاسير لما هو قائم في هذه الحياة”. في المقابل، يقول: “أمّا الشعر فيعتمد في تشكله على التخيل العقلي، القلق النفسي الدائم ، الذي هو جزء من نفسية الإنسان الشاعر، المعاناة والتأثر بما حول الشاعر من واقع معاش، الشبه والاستعارة، وغايته التعبير عن الذات الإنسانية، وجدانها، مشاعرها …”.
ومع أن الشاعر يخلص الى النتيجة: “أن الشعر، وإن يجمعه الكثير مع الفلسفة، إلاّ أنه أقرب الى الفنون التشكيلية المختلفة”، إلّا أنّه وفي كثير من قصائده، يعبر بأقدار متفاوتة بين الصراحة والتورية، عن مواقف فلسفية مختلفة. ففلسفة التغيير التي طرحها هيرقليطس والتي تعتبر من أعمدة الماركسية الاساسية، نجدها في قصائد الشاعر ومواقفه الانسانية، فمثال النهر موجود، والأهم من ذلك، طرح الرؤية حول المجتمع وضرورة تغييره. في قراءات سابقة لمجموعات الشاعر توقفنا عند نصوص مختلفة تشكل امثلة لاتحاد وتصارع الاضداد ولنفي النفي، فلن نعود اليها في هذه القراءة. مع هذا، يبقى أن السائد في فكر أبي مالك اليوم هو نظرته الانسانية الى الامور وقلقه الدائم على مستقبل مجتمعه ومستقبل الانسانية. لهذا نجده يشترط في الشعر وجود جمالية تتماشى وهذه النظرة الانسانية.

جمالية إنسانيَّة المُنْطَلَق
يشير الشاعر الى: “لزوم انتهاج فهم جمالي جديد عند الحكم على الموروث الأدبي الثقافي العربي، فهذا الموروث، الذي لم نضعه تحت مجهر نقدي مؤنسَن ، أسهم كثيرا في الحفاظ ( على ) وتكريس عقلية “بدويّة ” فينا، موروثة تجيز ما لا يجوز”.
فبنظره انه لا يجب الاكتفاء بالأدوات البلاغية التقنية لتقييم الشعر والأدب. فهي وإن كانت هامة وضرورية، الا انها تبقى تقنية في بنيتها، ولا تساعدنا على تقييم المضمون الذي ترسله القصيدة او النص. فاستعمال ” أدوات نقدية ، كالاستعارة ، التورية ، الطباق والجناس ، التنافر ، الاستهلالات والمطالع ( إن كان النَّص شعرا ) وغير ذلك” غير كافٍ بحيث “لا يجوز الوقوف عندها عند امتلاك أو انتهاج رؤية جمالية ناقدة”. فهي لا تتناول جمالات النص القيمية والتي من المفترض “ألاّ تتعارض والقيم الانسانية”. من هنا “يجب الاهتمام في كيف نكتب ، لكن الأهم هو ما نكتب . وكم يُحسِنُ واحدنا، حين يتقن الجمع بينهما”.

جمالِيَّة التَّخَيُّلِ الشِّعْرِي
لقد تطرقنا فيما سبق الى موضوع التذويت بمصادره المختلفة. فمن الضروري للشاعر استيعاب، هضم وتذويت الاسطورة، الشعر والأدب الذين يقرأهما، وإعمال الفكر في حياتنا وواقعنا حتى تتشكل رؤية انسانية لدى الشاعر يعبر عنها في قصائده ونصوصه. يقول الشاعر: “مصدر هذه الجمالية يعود أساسا الى ما سأسميه: خلق الوهم المُتَخيَّل. أي ان تلك الحالة، الموحِيَة، هي في الواقع خلق تماس وانسجام ذهني بين الوعي واللاوعي. وهو ما يميِّزُ الشاعِرَ المُجيد عن غيره”. وهو يسوق كأفضل مثال على ذلك “شعراء الصوفية، فجميل شعرهم نابع من خلق التماهي بين مخلوقين والانسجام الكلي بينهما حتى التماثل، الذات الالهية والذات الانسانية”. ومن أدبنا الحديث يورد الشاعر كمثال على ذلك المجموعة الشعرية ” مجالس العشق والإدراك” للشاعر مُعين حاطوم.

جمالِيَّة التَّنافر
يقول الشاعر: “تخفي هذه الاستعارة (التنافر) أساس فهمنا المحسوس لحقيقة أنَّ الشيء ونقيضه، يشكِّلان وِحدة، تشترط لوجودها علاقة قد تكون ظاهرة مرئيَّة ومحسوسة وقد لا تكون مرئية وظاهرة. وهذه العلاقة قذ تكون أساسا وشرطًا للتَّجَدُّدِ والتَّغيير، فيصير الشيء خِلافَ ما كان، أي أنَّهُ يتجاوز ذاته ـ يَتجاوَزُ جوهره السابق ، يتجاوز ما كان نُقطَةً محدَّدة”. فالتضاد بين شيئين، بين نقيضين، يزيد الفرق بينهما (التضاد) وضوحا ويزيد من تمايزهما الواحد من الآخر. فلنقرأ في “اليتيمة” لدوقلة المنبجي بيت الشعر:
ضِدّانِ لَمّا اسْتُجْمِعا حَسُنا فَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ
وذلك للتعبير عن جمال وجه الحبيبة، حين اجتمع فيه بياض البشرة وسواد الشعر.
ويضيف ابو مالك : “وما أريدُ أن أؤكدهُ أنَّ التنافُرَ الجمالي هو شكل من أشكال الاستعارة أو التَّشْبيه خدمة للدلالة الموحية”. ويورد ابياتا مشهورة توضح ما ذهب اليه:
“كلُّ السيوف قواطعٌ إن جُرِّدَت وحسامُ لحظك قاطِعٌ في غمدِهِ”
لجميل صدقي الزهاوي. فإن اجتماع المتنافرين، السيف والغمد، ينفي عن السيف صفة القطع. لكن الزهاوي يكسب سيف لحاظ الحبيبة صفة القطع حتى وهو في الغمد، كدلالة على المبالغة في حدته، ولأن هذه النتيجة او هذا الوصف، مغاير للمألوف تجدنا منبهرين به.
وكذلك بيت أبي فراس الحمداني:
” أيضحك مأسورٌ وتبكي طَليقةٌ ويسكت محزونٌ ويندب سالي”
الذي يظهر التضاد بين وضع الشاعر، السجين، وبين وضع الحمامة، الحرة. والمفارقة تأتي عندما يصف تصرف كل منهما على عكس المتوقع، فيُضْحِكُ السجين ويُبْكي الحمامة.

حول الفن المحلي
في ختام هذه القراءة لا بد وأن نستعرض ببعض الاسهاب موقف الشاعر من الحركة الثقافية، الادبية والفنية، في بلادنا. فكما سبق وذكرنا بأن ابراهيم مالك ناشط جدا في دعمه للفنانات والفنانين، يشاركهم ورشاتهم، يبادر للقائهم وحوارهم، كلما سنحت له الفرصة لذلك. وتعود علاقته بالفن الى فترة دراسته في برلين الشرقية ولقائه بالفنان عبد عابدي في بداية سنوات الستين من القرن الماضي. من هنا فعلاقته بالفن ليست حدثا متأخرا ومن هنا ايضا اهتمامه المتواصل به وقلقه على مستقبله.
يقول الشاعر: “لم أشعرْ أن حركة فنية حقيقية، إنسانية البعد والحُلْمِ والتثقيف، قد ظهرت وتطوَّرت في المجتمعين، اليهودي الإسرائيلي أو العربي الفلسطيني في إسرائيل، فالنشاطات الفنية القليلة، هي نشاطات مُوَجَّهة وفصيل من فصائل المؤسسة الحاكمة الرسمية، فلا تجرؤ على طرح أسئلة حياتية أو إثارتها فَنِّيّا وإنسانيا”. فحيث تغيب الحرية وكرامة العيش، وينعدم او يكاد التواصل الانساني والحوار بين مختلفين، “لا يمكن أن تتطور حركة فنِّية واعِدَة”.
والشاعر يتساءل: كيف يمكن لفنانين يهود أن يقبلوا العيش في بيوت عربية، هجِّرَ أهلها قسرا، كما يحدث في عين حوض؟ فبهدي أي مشاعر انسانية سوف يقوم هؤلاء الفنانون بإنتاج فنهم؟ “فنانون تشكيليون يهود في هذه البلاد وأدباء حقيقيون، الأكثرية، لم يطرحوا بعد أسئلة يمكن أن تُشكل خطوة أولى ضرورية لنشأة تواصل حقيقي بينهم وبين الآخر من أهل وساكني هذه البلاد، أبنائها الأصليين”.
التواصل الفني ضروري جدا والشاعر يتمنى ان يجد فنّانونا الطريق “للتواصل واللقاء والعمل المشترك، الفني والثقافي، والحوار الفني والإنساني المحلي والعالمي، بعيدا عن المؤسسات الرسمية أو الحزبية أو الطائفية”.
ويضيف: “الحقيقة أنَّ هذا القرار هو أكثر ما نحتاجه “نحن الفنانون والكتاب العرب في هذه البلاد”، إن شئنا حقا معرفة ما هو حاصل وما قد حصل والبحث العقلي والسلمي، عمّا يجمل بنا أن نصير ويصيره المجتمعان العربي واليهودي في هذه البلاد. وقد علَّمَتني التجربة الحياتية الشخصيَّة والتجربة الإنسانيَّة عامة أن مثل هذه الحركة في أي بلدٍ في عالمنا وفي بلادنا خاصة يمكن أن تُحَقِّق ما يلي على الأقل :
– النهوض الفعلي والدّائم بالحركة الفنية – الأدبية والإسهام الجاد في خلق وعي جمالي، فكريٍّ وثقافي واعدٍ بغد آخر حُرٍّ، إنساني الملامح والتطلعات ولا يعرف ذُلَّ عيش وامتهان كرامات
– الإسهام في تقوية التواصل الإنساني بعيدًا عن العُصبوية الدينية والحزبية السياسية، الرسمية والمعارٍضة، فهذه العصبوية هي مصدر كل تخلُّفٍ عقلي وكل الشرور الاجتماعية ومصدر كل الظواهر الاجتماعية المُدَمِّرة”.
وهو حين يتحدث عن الواقع الاسرائيلي لا يغيب عن باله تناقضات هذا الواقع الجوهرية، الضحية والسبب مثلا، وهو يدعو الفنانين لمعايشة هذا الواقع بما فيه، يدعوهم للتفاعل معه بالرغم من مأساويته وحزنه، ويتمنى أن يتمردوا عليه ذهنيا وفنيا من أجل خلق حالة من الوعي توفر الظروف المناسبة لتغييره.
يقول: “فالمجتمع اليهودي هو مجتمع السلطة الحاكِمة القمعية والمُمَيِّزة والمتنكرة، بأكثريتها الساحقة، لحقوق الآخر الإنسانية، وهو المجتمع الرافض لإيَّ فرص تواصُلٍ كريم بين المجتمعين، وهو في الحقيقة مجتمع متخلف ثقافيا واجتماعيا وأشبه بمجتمع عبيد شهوات مغرية وعبيد جشع وفقر ذهني ومادي، مجتمع عنف، أما المجتمع العربي، الأقلية السكانية، فهو ضحية الواقع الإسرائيلي منذُ قيام الدولة وكان كذلك ضحية ذاته من قبل وضحية حاكميه السابقين، ولا يختلف أبدا عن المجتمع اليهودي وما فيه من أدران حياتية، فالمجتمعان يُعانيان من تخلف اجتماعي وثقافي”.
وأمنية الشاعر “أن يتطَوَّرَ المُجْتَمَعُ العربي – الضحية – إلى نقيض السلطة الرسمية في إسرائيل، فيبحَثُ بإصرارٍ عاقل عن بديل إنساني الملامح والسلوك للمجتمعَيْن، فقوَّة الضحية هو عقلها وثقافتها وسلوكها الإنساني. وقد حلمت طويلا أن ننجَحَ في تطوير حراك ثقافي، في طليعته الشعراء والفنانون، ينشط باحثا عن تطوير حياة ثقافية، جريئة، دائمة التجدد، إنْسانِيَّة الملامح وحالمة بعالم آخر، لا حروب فيه ولا جشعًا مُخيفًا ولا ذُلَّ عيش”.
في النهاية لا بد أن نورد رؤيته لواقع المبدعين العرب فالعديد منهم، أدباء وفنانين، يعيشون، أحيانًا، في حالة هي أشبه بالحصار المجتمعي والثقافي. فهم لا يحظوا بقبول مجتمعهم بشكل لائق ومصادر التمويل شبه معدومة مما يعرضهم لمخاطر ان تتحكم بهم وبإنتاجهم الفني شركات ومؤسسات مالية مختلفة، أو ان يضطروا للإذعان لمطالب وزارة الثقافة التي قد تحدد حريتهم او هيئات سياسية (حزبية، طائفية، وغيرها) تستغلهم وتفرض عليهم موضوعات اعمالهم.
مما لا شك فيه، ان تجربة الشاعر ابراهيم مالك الادبية والفنية، على مر العقود الخمسة الاخيرة، هي تجربة مثيرة ومثرية. وهو اذ حاول تلخيصها في هذا الكتاب، قد قام بعمل ذي أهمية قصوى لا توفيه هذه القراءة حقَّه.

د. حسام مصالحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة