عبقري يفري فرية

تاريخ النشر: 01/02/17 | 5:08

يفْري فَرِيَّـه بمعنى يصنع صنعه، وكنت أقرأها قبل أن أُسألَ عنها- (فَرْيَهُ) دون أن أعرف صحة (فَـرِيّ).
العرب تقول بهذا على غرار ذلك وفي تجنيس:
يهدي هديَه، ويحذو حذوه، وينحو نحوه، ويتسم بسيماه..
وردت (فَرِيّ) في حديث نبوي:
“رَأَيْتُ جَمِيعَ الناس مجتمعين في صعيد، فَقام أبُو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، فَاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ الرِّجَالِ يَفْرِي فَرِيَّـه، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِأَعْطَانِهِمْ”.(صحيح البخاري، رقم 3633، وكذلك 3677).
في (لسان العرب) فلان يفري الفَرِيّ إذا كان يأتي بالعجب في عمله، وفي هذا ورد في الآية {لقد جئتِ شيئًا فَرِيًّا}- مريم- 27.
من جهة أخرى ورد في اللسان:
“وحُكي عن الخليل أنه أنكر التثقيل وغلّط التشديد”- بمعنى أنه أجاز (الفَرْي)، لكني لم أجد في كتب الحديث غير التشديد.
معنى (العبقري) في الحديث- الرجل الكامل القوي، وهو أيضًا الحسن من كل شيء، و”عبقر” موضع في البادية تسكنه الجن، فنسب إليه كل ما يُستحسن ويُتعجب منه، وكأنه من صنع الجن لحسنه وغرابته، وعبقري القوم هو سيدهم، والشيء العبقري هو الفائق الفاخر.
وردت لفظة (عبقري) في الذكر الحكيم:
{متكئين على رَْفْرَف خُضْر وعَبْقريٍّ حِسان}- الرحمن، 76.
قيل معنى (العبقري) في الآية- الفرش المبسوطة، أو الطنافس، ووصفها القرآن بالحسان، وقيل إنها مصنوعة في وادي عبقر.
اما “الذَّنوب” الواردة في الحديث الشريف فهو الدلو العظيمة، و”ضرب الناس بأعطانهم”- أي روَّوا إبلهم ثم أقاموا على الماء. و”الغَـرْب”- الماء يقطر من الدلو بين البئر والحوض.
ذكر الحريري في المقامة الفُراتية، ما قاله الراوي وهو يصف أبا زيد:
“فقلتُ لأصحابي: هذا الذي لا يُفْرَى فرِيُّـهُ. ولا يُبارَى عبقَريُّـهُ. فخطَبوا منْهُ الوُدّ، وبذَلوا لهُ الوُجْدَ. فرَغِبَ عنِ الأُلفَةِ. ولم يرْغَبْ في التُّحْفَةِ.”
وورد في شعر الحَوْفَـزان (الحارث بن شريك الشيباني):

وما ارتعشت كفّي ولا طاش ضربُها *** إذا طرحوا بالفارس المتهلّلِ
ولكنها إذ ذاك تَفْري فرِيّها *** وتقرع رأس الفارس المتقتّل

عَود على “العبقري”:
سنتصفح معًا كتاب الثعالبي- (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب- مادة “جِـنّة عبقر”، ص 234):
قال الجاحظ: هو كما تقول العرب: أُسْد الشَّرى، وذئب الغَضا، وظِباء وَجْرة […] فيفرقون بينها وبين ما ليس كذلك؛ إما في الخبث والقوة، وإما في السمَن والحسن؛ فكذلك يفرقون أيضًا بين مواضع الجن، فإذا نسبوا الشكل منها إلى موضع معروف فقد خصّوه من الخبث والقوة والعرامة بما ليس لجملتهم؛ قال لَبيد:
ومن فادَ من إخوانهم وبنيهمِ … كهولاً وشبانًا كجنِـَّة عبقر
وقال حاتم:
عليهن فتيانٌ كجِـنَّة عبقرٍ … يهزون بالأيدي الوشيجَ المقوَّما
قال: ولذلك قالوا لكل شيءٍ فائقٍ أو شديدٍ- عبقري.
وقال أعرابي: ظلمني والله ظلمًا عبقريًا.
ترى، هل ثمة علاقة بين الجنّ وواديهم وبين اللفظة الإنجليزية genius التي تعني- جني أو عفريت، كما تعني- عبقرية ونبوغ؟
ثم إن العرب آمنوا بأن لكل شاعر شيطانًا من الجن يوحي له بالقول، وقد أعجبني -رغم النقد السلبي الذي جوبهت به مسرحية (مجنون ليلى)- ما خصصه شوقي في مسرحيته لقرية الجن- الفصل الرابع.
أعجبني هذا المشهد، حيث “الأموي” شيطان قيس في شكل إنسي جميل يتردّى الحرير وعلى رأسه عقالان من الحرير المحلى بالذهب، وكانت الجن تنشد، ويدور حوار بين هبيد وعضرفوت حول قيس، ثم حوار بين قيس والأُموي، فنتعرف على معالم قرية الجن، وعن تنقلاتهم وحركاتهم، وكيف ساعده الجِنّي للوصول إلى منزل ورد وليلى.
يقول شوقي على لسان الأموي:
هكذا شاء، كل شاعر قوم *** عبقريِّ اللسان نحن لسانهْ
أختم بالقول: شوقي شاعر لا يُفرَى فريُّــه حقًا!

ب.فاروق مواسي
faroqq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة