شهادة ب. فاروق مواسي لفقيد اللغة والأدب فاروق شوشة

تاريخ النشر: 29/11/16 | 9:23

اتصل القاص المصري المعروف سمير الفيل بالبروفيسور فاروق مواسي ليشارك في كتاب تأبيني عن الشاعر الراحل فاروق شوشة، تحت عنوان: فاروق شوشة- المسيرة والعطاء.
صدر الكتاب احتفاء وتأبينًا له.

أراد أن يغنّي فشَعَر
بقلم: أ. د فاروق مواسي
(شاعر ومحاضر- باقة الغربية – منطقة حيفا)
كثيرًا ما يرثي الشاعرُ شاعرًا يحبه، فنجد في نسيج قصيدته خيوطًا تشي بملامح للراثي، فمن ذلك ما رثى به فاروق شوشة صديقه صلاح عبد الصبور.
فلنقرأ لنرى كيف أن ملامح فاروق تتبدى كذلك من وراء كلماته:

“نجوس خلال الحروف
نحاورها ونراك جديدًا تهلّ علينا
تساقط حكمتك الموجعه
نضيع وراء الزحام، يفاجئنا الصوت، صوتك
نعرف طعم نداوته،
وحدود رحابته
يداهمنا الحزن، نعشو إليك،
ونلقاك في آخر الدرب، تسكب فينا الصفاءَ
وتمنحنا اللفتة الوادعه
في هذه الكلمات أجد فاروقًا يجوس خلال الحروف، فيظل جديدًا يهلّ بعبارته الرقيقة، وصياغته الأنيقة، وصفائه النقي بطعم نداوته، وحدود رحابته- في لغته الوادعة الماتعة.
في هذا المعنى أجد أن لفظ (الجميل) والمصدر (جمال) مترددان في عباراته، فـ “لغتنا الجميلة” زاوية ومنبرًا وكتابًا، و”جمال العربية”- كتابًا هما دالاّن معبّران، ففي كل عنوان نتقرّى الدلالة، فنلامس حسًا مدهشًا من إعجاب فاروق بلغته وأدبه، إذ يتماثل مع إيقاع اللفظ إلى درجة الامتزاج الروحي، فبدءًا من جمال الله الجميل، ومن جمال صنعِه تظل العربية تحمل صفة ربانية وكونية يعتز بها فاروق بصدق عاطفته ومشاعره وخواطره، وبروعة تعبيره وتصويره.
كنت أستمع إليه في الإذاعة بدءًا من سنة 1967 سنة الزلزال أو النكـدة ، ولكنه كان يحدو شعرًا ولغة، ينقب عن الأدب القديم فيحبب جمهوره به، خاصة وهو يرمي إلى أن نتواصل معه، وبالتالي ليؤثر في المتلقي، فلعل في ذلك خلاصًا ما.
وكان كذلك يبحث عن روائع الأدب الحديث، فيستشف منها جذورًا وأصالة ليصل إلى انتماء وهوية.

حرص فاروق إذن على هذا المزج بين القديم والحديث، بين التأصيل والتعصير، بين الاعتزاز بالتراث وقبول المستجد دون تعصب، فقد كان همّه التيسير والتصويب، فعمل وهو عضو في مجمع اللغة العربية على مقاومة مظاهر التشويه اللغوي، وعلى نصرة هذه اللغة التي عشقها لجمالها، فنظر إلى تاريخها ليستقرئه، وإلى هويتها ليعايشها، وإلى مستقبل لها يصبو إليه.
تابعت ما كتبه في زاويته في مجلة “العربي” على مدى سنين، فكنت أصحبه وهو يقرأ النص، وينقده نقدًا تفسيريًا تنويريًا، فيلقي الضوء على الإبداع، ليصل بنا إلى الإمتاع.

من مظاهر جرأة فاروق، -وأظننا نسير اليوم على نهجه- أنه دعا إلى قبول التعابير المستجدة، التي اسـتُقيت من اللغات الأوربية، وقد برزت هذه التعابير بفعل الترجمة والاشتقاق والقياس والتعريب، وشاعت وذاعت من خلال النشر في الصحافة وفي الإذاعة الصوتية والمرئية. وإذا كان العرب قد قبلوا في عصورهم الزاهية ألفاظًا وتعابير من الروم والفرس ومن شعوب أخرى، فما الذي يحول دون تقبل كلمات وافدة لا نكاد نجد بديلاً لها، وما هو الخطأ إذا عمدنا إلى المجازات والاستعارات والكنايات الجديدة، فنحن نملك لغتنا كما كان القدماء يملكونها – هكذا كان طه حسين يلقي على مسامعنا.

من هنا فهو يدوّن لنا في كتابه (لغتنا الجميلة) تعابير على غرار:
“هو يقتل الوقت”، “يمثّل بلده في المحافل الدولية”، “لعب دورًا في هذه القضية”، “طرح المسألة على بساط البحث”، أو “على جدول البحث”، “وضع النقاط على الحروف”.
فمثل هذه التجديدات اللغوية كانت أشبه بعدوان على اللغة، فهذا محمد كرد علي يسخر من هذه التعابير وأمثالها، ويهيب بأرباب العربية أن ينتصروا للغة، وذلك في محاضرة ألقاها في الدورة الثالثة عشرة لمجمع اللغة العربية سنة 1946.
نظر فاروق إلى اللغة بأنها قابلة للتجديد، فهو يدعو مثلاً إلى استخدام “بسترَ، بلورَ، تلفن، فبرك، كهربَ…إلخ
وهو إذ كان حفيًّا بالتجديد، كان في الوقت نفسه يتصدى للأخطاء المتعلقة بالنحو والصرف والإملاء مما يجدر بطلاب العربية ألا يغفلوا عنها، فنحن يجب أن نقول (مصوغ) لا (مُصاغ)، و(مَصون) لا (مُصان) وتكتب (رُفات) لا (رفاة)، ولا نقول (قرأت الدعوتين في المحكمة) بل (الدعويين- مثنى الدعوى)، ولا نقول (ضرب به عَرض الحائط)، بل (عُرضَ) ، ولا نكتب (عامود) بل (عمود)….إلخ
وأخيرًا،
فلا بد من الإشارة إلى صوته الشاعري الذي كان ينطلق به بثراء تجربته، وبذكاء انتقائه، وبحساسية خاصة للعمل الأدبي الذي يطالعنا به، وإذا قيل قديمًا عن البحتري إنه أراد أن يشعر فغنى، فإني أقول عن صوته وشعره “أراد أن يغني فشعر”.
غير أن شعره يستلزم وقفة أطول، فله فيه غنائية متفردة، وهو في رحلاته عبر الكلمات يسوقنا إلى عوالم جميلة في إطار الجمال الذي ينشده ويردده، ويتواصل معه.

ملاحظة: لا أعرف كيف يُلفظ اسم قريته (الشعراء)، ولكني أرى ضرورة ضم الشين، فها هو فيها مفرد في صيغة جمع، وهو باق فيها وفي ذاكرتنا.

faroqmwasee

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة