أحاسيس تائهة

تاريخ النشر: 15/11/16 | 8:14

كانت تلك الفتاة تحسّ بأحاسيسٍ غريبةٍ لم تكن تحسّ بها من قبل، على الرّغم من أنها لم تكنْ المرة الأولى، التي تستعدَّ فيها لملاقاةِ شابّ، ماذا بها؟ أهو صوته الجذّاب الذي سمعته مرات كثيرة عبر المذياع، أم صورته التي فتّشت عنها حتى لقيتها وبات وجدانها هو المحبوس؟ تذكر تلك الفتاة تماما، حينما اندفعتْ ذبذبات صوته المُرهف الليّن المُستتر بليونةٍ إلى أسماعِها عبر المذياع، تلك الليونة التي لا يعيها إلّا كل مستمع فقط، وهي تقود دراجتها الهوائية راجعة من عملها في زحمةِ سيْرِ المدينة، التي باتتْ تشاهد طرقاتها كالمساراتِ الضّيّقة غير المستوية، والتي تحاولُ الشاحنات الكبيرة المرور فيها، فلا يزيدُ الوضعُ عنْ تسكير هذه المسالك، ويبقى النّاسُ جالسين بداخلِ السّيّارات، واهنين ويرجون في محاولةِ تخليصٍ من هؤلاء الآخرين الغرباء، الذين لا يكترثون للموضوع.
لكنّ ما زال حسّه السّاحر يسحرُها كلّما سمعته، هذه الليونة المُمتزجة بالغمّ تجعلها تحسّ باختلاجٍ حارٍّ شهيٍّ يدبّ في جسدِها، سؤال يلجّ عليها بجنونٍ منذ اتفقا على المواعدةِ، كيف يكونُ اختلاطُ الحسّ بالشكلِ والرّوح معاً، هل ستسرّ بذلك الاختلاط، هل سيصبحُ مكتملا، وتحسّ به كما ظنّته، هل سيكون أروع؟ هل سيكونُ أردأ؟ هلْ من المحتملِ أن تضيّع شعورَها به إذا تمّت الصّورة، وتظلّ متنسّكةً تصلّي في حجرةِ حسّه الجذّاب عبر المذياع.
خواطرٌ كثيرة كانتْ تهبّ بدماغها، ولمْ تهبها الوقت اللازم لأخذ حقّ من الوسنِ، أتى المساءُ، نشّطها الحمّام السّاخن من رشّاش الماءِ السريع، وجعلَ النشاط يدبّ في جسدِها بعد كسلٍ مجنون انتشر نهارا بأكمله، لبستْ تنورةً لونها أحمر غامق وبلوزةً صفراء، انتعلتْ الحذاء الأصفر ذي الكعب العالي، وتعطّرتْ بروائحها المفضلة لنفسها، وأحسّت برعدة إزاء شمّها زادت من حالة الحيوية المسائية، التي قلّلت كثيراً من شدة قلقها.
انتقتْ حيّزا يألفُ فؤادها إليه، مطعمٌ قديم بديكورٍ أهبل يشرفُ على البحرِ، له شبابيك زجاجية كبيرة تجعلها تتأمّل هذا البحر الهائج في اضطرابٍ، فضّلتْ اللقاء السّاعة الثامنة مساء، وهو الوقت الذي عادة ما تكونُ فيه في قمّة حيويتها الذهنية، ولم تردْ أنْ يشوّشَ هدوءُ ملاقاتهما أيّ متطفلٍ، حتى لو كانتْ رنّات موبايلها الصّامت أصلا.
استرختْ على أريكتها المُحبّبة بجوارِ بحرِها رفيق حياتها، قعدتْ تنتظرُ، الوقتُ كان يمرُّ ببطءٍ شديد، رنتْ متثاقلة إلى الموبايل لترى الوقتَ، ولاحظتْ بأنه مضى أكثر من ربعِ ساعة، وبينما هي ترنو إلى إشاراتِ الوقت على الموبايل بانفعالٍ عاديّ، سمعتْ صوتاً يهتف بلينٍ ويقولُ كلمةَ سلام، فقامتْ وحيّتْ صاحب الحسّ في سرورٍ مجنونٍ وناظرة إلى ملامحِه الرّقيقة ومتأملة سحرَ بذلته الغريبة اللون.
فأخذا يتحدّثان في مواضيعٍ كثيرة، وبدا كلامها ممتعاً له، فهو يتكلّم ويردّ، وأحيانا يحتجّ ويفكّر في حديثها في انتباهٍ مجنون، اعتادتْ هي أنْ تكونَ بريقَ الجلسات بين صديقاتها الصّامتات دائما، فهي تمتلكُ فنّ إدارة الثرثرة المُمتعة بيسرٍ قاتلٍ يعاونها في ذلك مزاجُها المبتهج، بدأتْ تحسّ به ينبلجُ وهو معها، وهي تعي أنَّ الشّابّ يسطعُ ويتوهّجُ فقطْ برفقةِ المرأة الملائمة، ولكنْ بعد مرورِ ما يقربُ من الثّلاث ساعات، بدأ انجذابُها يخفتُ قليلا، انتابها شعورٌ قويّ بأنهما صديقان يحبّان الثّرثرة ليس إلا، وتساءلتْ أين ذلك الانجذابُ المستور، الذي كانتْ تحسّ به حين تسمعُ حسّه من خلال المذياع؟ هلْ كان جزءاً من هذا الانجذاب مجرّد وهمها، أو من تفاعلِ صوته مع حلقةِ برنامجه، الذي عادة كانتْ تحاورُ أمورَ العشق، والغرام، فظنته البطل المُختبئ لهذه الحكايات المتنوعة.
أضاعتْ انتباهها في الحديثِ معه، ولاحظَ هو ذلك، وتغاضاها بذكائِه الذكوري، وتحجّج بمرورِ الوقتِ بسرعة، وأنّه مرتبطٌ بموعدِ عملٍ ضروري لمشروعٍ مهمّ في مدينته، وشكرَها على استضافتها اللطيفة لاحتساءِ النّبيذ الغريب الطعم، فرجعتْ إلى بيتِها والتّفكير كانَ يوشكُ أنْ يخنقها، أين هيئته التي كانتْ في عقلها، هيئته الرّوحية التي تجسّدت بداخلها على مرّ السنتين الماضيتين، فهمتْ على حين غرّة من التفكيرِ أنّ عقلها حاولَ أنْ يخلطَ بين ما تحسّ به في خيالِها، وبين حقيقة ما شاهدتْ فلم تقدر.
أسبوعان مضيا، وحياتها تمشي بذاك اضطرابها، وإنْ أحجمتْ عن سماعِ حلقات برنامجه، الذي كان مفضلا لديها. قاعدةٌ هي أمام جهاز تلفازها القديم تشاهدُ برنامجا عن الحُبِّ، وإذ بانَ هو كمتحدثٍ دُعي من قبل المحطّة الفضائية للحديث عن الحُبِّ، ابتسمتْ بحزنٍ، فقامتْ وأسكتتْ صوته بكبسةٍ على الريموت، وراحتْ تتبصره مرة أخرى، فأطفأتْ الجهازَ، وخطتْ نحو مخدعها لتحسمَ وقتاً صعباً حانَ له أنْ ينفذَ مِنْ أحاسيسٍ تائهة.

عطا الله شاهين

3talla7shaheen

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة