المحامي حسن عبادي حول ” قف على قبري شويّا “

تاريخ النشر: 14/11/16 | 15:33

قرأتُ رواية ” قف على قبري شويّا ” للكاتب المصري محمد داوود الصّادِرة عن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” ، ولوحة الغلاف للفنانة مديحة متولي.محمد داوود روائي مصري معروف، صدر له العديد من الأعمال الروائية منها : السما والعمى، فؤاد فؤاد، أمنا الغولة وصخرة بيتهوفن . قرأت الرواية بشغف بسبب لغتها السلسة وأسلوبها المشوّق، فتجذب القارئ بغموضها ومعرفة المزيد من أحداثها وتحثّه على مواصلة قراءتها .
الرواية تصب بجانر الكوميديا السوداء ، تدور حول مواضيع تعتبر عمومًا تابوهات و”محرم الخوض فيها”، يتم التعاطي معها بشكل ساخر مع الاحتفاظ بجانب الجدية في الموضوع، كالموت والانتحار، تعتمد على الشيء الذي يؤلمك وتدفعك للضحك، لذلك فهي كوميديا ليست بالسهله أبدًا.لغة الرواية مزيج من الفصحى والعاميّة المحكيّة، من الجديّة والعبث، مليئة بالكآبة والتشاؤم، بالتهكّم الساخر اللاذع ، بدايةً بالإهداء :
أيها الزائر ليّا قف على قبري شوية
واقرأ السبع المثاني وأهدهم منك إليّا
في زماني كنتُ مثلك بين طوب الأرض حيّا
بعد حينٍ أنت مثلي لستَ بعد الدود شيّا
(أهدي هذه الرواية إلى فقيد الشباب الذي لا أعرفه، وقرأت على شاهد قبره الأبيات السابقة)
الوقوف على القبر، في العنوان وفي الأبيات، عبارة عن طلّة بانوراميه على قبر الحياة ، وكأن الراوي يحمل كاميرته ليصوّر الواقع المرّ ، مسلّطا الضوء على أحلام وطموحات وخيال أسرة فقيرة تعقد آمالها على تعليم وتخرّج وعمل ذكورها رغم الشروط الحياتية البائسة، مما يجعل باسم، طالب المدرسة الثانوية ، الآمر الناهي والمتسلط على الأبوين والعائلة ، فنرى جبروته بالتعامل مع باقي أفراد أسرته، بحجة المذاكرة على أمل بتأمين مستقبل أفضل له وللعائلة ، فتُطاع أوامره وتُلبّى احتياجاته، مهما كانت، حتى يدرس ويواظب علّه ينجح، ولا يكون مبرّرا لفشله في تحقيق حلمه وحلم العائلة.

fsert410

نلاحظ في الرواية غياب “البطل” لتحل مكانه البطولة الجماعية ، فلا وجود لبطل مركزي في الرواية، بل أبطال كُثُر يتقاسمون الهمّ الجماعي والبُؤس المشترك ، ونراه يصوّرهم بتهكّم ويسخر منهم بسوداويته إلى حين يطلّ فجأة ، وبدون سابق إنذار، “البطل” جميل الخط الذي اختارته الظروف لأن يكون شاهداً على تلك المأساة ، و”ذنبه” أنه تواجد صدفةً هناك، وسط القبيلة، ولأنه جميل الخط والكلمة، يكتب المأساة ويوثّقها.هناك محاولات لكتابة الأصوات ورسمها بشاعريّة ، فالعطس يتحول عنده إلى “هتسي” على طول الرواية، وأصوات نول والد دعاء إلى “ضُم.. ضُم.. ضُم.. ضُم.. ضمضمات، ومفردها ضم”، “حمحمات باكية” ، “مصمصات باكية” وغيرها .يُدخل داود الأمثلة والحِكَم الشعبيّة المصرية بانسيابية مهضومة وبدون إقحام مُبتذل (البطن قبر تتساوى فيه جميع الأطعمة) ، (البطنة ضد الفطنة)، (كل الدود قبل أن يأكلك) (أخذ الشر وراح) وغيرها.
يستخدم كاتبنا سخريتة السوداء اللاذعة التهكميّة لوصف دقائق الأمور التي تدور في المجتمع المصري فيقول “البطانية مليئة بخيوط بلاستيكية في قوة أسلاك معدنية، وفتل دوبارة .. ديدان، في قوة أسلاك معدنية، ثم إن رائحتها زنخة مثل سمن نتن وفي قوة أسلاك معدنية” ! ويضيف :”بعض من تعب القلب، .. دهر من عرق ودخان في انتظار تحرك قطار ميت، لا أحد يستعمل ليأخذ نَفَسَه إلا من نَفَسَه السابق” !! وكذلك “القطار مكسور مقابل بقية المسامير غير الموجودة … تسلل وسخ من سطح زجاج النوافذ لداخله، خشب مكسور، أفواه مليئة بالأسنان والظلام …” !!! ويضيف :”وبقايا طعام بين أسنانه، كالإسمنت الرمادي بين طوب أغبر في واجهات البيوت” !!!! ويصل ذروة تهكّمه حين يقول :”حافلة رائحتها تراكم زمني لرائحة كل من ركبوها، مقاعد مقطوعة، مرقعة، دعامات ملحومة” …
يستخدم الكاتب اللغة المحكيّة المصرية في روايته ليُسخّرها كأداة حادة ، وإزميل طبيب جرّاح، لسخريته السوداوية الجارحة ، فيسخر من نفسه ومن راويه وشخصياته ومواقفها، ليصرخ صرخة مدويةً : استفيقوا !!
يصرخ الكاتب ضد الواسطة واستفحال المصالح المشتركة أو المتبادلة عند ذوي الشأن ، يصرخ ضد الكراهيّة المتجذّرة “نحن هنا نعترف بالكراهية، نحب الكره، نمارس الكراهية بحب حقيقي، كل شيء يحضر إلا الأمل، الأمل أس البلاوي” ! ويضيف “جمعنا قائم على إحلال الكراهية مكان الحزن” !! ويصرخ : “كيف يحلو لنا أن نحتفل والقدس أسير” ؟!؟ كفى البكاء على الأطلال وكفى احتفالات ب”أكتوبر هو نصر العرب والمسلمين في العصر الحديث ؟!؟ وأعاد الكرامة ؟!؟”، وثم يقول :”الأيام تتبدل، الملابس الوسخة تنظف، ولا تنبت للأعور عينٌ أخرى” ويصرخ صرخة مجلجلة مدوية : “أعطني وطنًا وخذ كل شيء” !!!

ذكرني بالشاعر المصري الراحل نجيب سرور (صاحب مسرحيّة “الذباب الأزرق”) وقصيدته التي يقول فيها : ”
قد آن يا كيخوت للقلب الجريح
أن يستريح ،
فاحفر هنا قبراً ونم
وانقش على الصخر الأصم
يا نابشا قبري حنانك ، ها هنا قلبٌ ينام
لا فرق من عامٍ ينامُ أو من ألف عام ،
هذى العظام حصاد أيامى فرفقاً بالعظام
أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبي كان دوماً قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة”

إنها حقًا لرواية جديرة بالقراءة .

المحامي حسن عبادي

untitled-2ssr

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة