تقاطعات العطش

تاريخ النشر: 08/09/16 | 8:10

منذ أسابيع كثيرة، ونحن نلتقي هنا في غرفة واحدة، في مستشفى مختص بالعجزة، أمي وأمه تقضيان فيه أيام آخر العمر.
أنا أعمل موظفا كبيرا في أحد البنوك التجارية.. أم أيلي، فقد تبين لي، أنه يعمل في أحدى شركات الهايتيك.
في بداية تلاقينا، لم يكن بيننا أي اتصال، حتى ولو تحية صامتة، فليس بيننا معرفة سابقة، تمكننا من فعل ذلك.. ولكن بعد أسابيع قليلة من هذه اللقاءات، تولدت بيننا أشارة تحية، تتكون من أيماءة خفيفة بالرأس، تصاحبها أبتسامة، كانت في البداية خجلة، ولكنها تطورت مع الأيام.. فاتسعت وأصبحت عادة.
وجه أيلي كان أبيضاً بيضاً ثلجياً، كأن الشمس لم تصله أبداً، جمدته المكاتب ومكيفاتها، فاكتسب بياضه، لوناً ناعماً حيادياً لم ” يخدش”، فصنع مع شعره، شديد الأصفرار، و”المشغول عليه” بعناية، نوع من التلاؤم المتدرّج، الذي يعطي للناظر عليه، الأنطباع أن هذا الرجل منظم في حياته.
تنظر الى عينيه شديدتا الزرقة، فتجد فيها انطفاء متجمد، يصنع موجات حزن مقهور.
كان يلبس دائما بدل سوداء أو زرقاء فاخرة، وقمصاناً أما بيضاء أو رمادية أنيقة، وربطات عنق الوانها هادئة ملائمة لبدله الرسمية.
في ذلك اليوم الذي أستأذن فيه، أن ينتقل ليقرِّب الكرسي الذي يجلس عليه من مكان جلوسي، بالقرب من رأس أمي، لم يفاجئني، فقد سبقتها الكثير من الأشارات التي تلقيتها من نظراته نحوي، التي زادت في المدة الأخيرة.
– هل تسمح..!؟ همس برجاء محبوس، قال وهو ينقل كرسيه الى جانبي دون ان ينتظر ردي.

– تفضل.. ! قلت.. وابتسامة عريضة، تعمدت رسمها على شفتي، تشجيعاً له، كي يرمي بنفسه في هذه المغامرة، التي قرر أن يخوضها، بعد تردد طويل، ومعاناة شديدة.
– نحن نلتقي هنا منذ زمنا بعيداً، ولايكاد يعرف الواحد منا عن الآخر شيئاً.! بدأ حديثه هارباً من المقدمات.
– آه..أه.. همهمت، بعد أن فاجأني بتخطيه كل العقبات التي تعترضه ليصل لهذا الموقف.
– أنا أعمل منذ عشرين سنة، في منصب كبير في شركة هايتك..أني أنتظر موت أمي، كي أرحل من هذه البلاد الملعونة.! سآخذ زوجتي وأولادي..وابيع كل ما املك هنا وأرحل..!

ألى أين..!؟ قلت والدهشة تستولي علي.
– ألى المانيا..! سأعود الى المنابع التي أتت منها أمي..!
– الى المانيا.. !؟ قلت والدهشة تتعمق في داخلي.
ليقولوا عني جباناً..، هرب من مواجه الحياة في هذه البلاد..! ليقولوا ما يشاؤون.. لم يعد يهمني..!” تحول كلامه الى صراخ محموم.
قام من مكانه وأسرع، ورمى بنفسه خارج غرفة المستشفى.. وتركني أتخبط في ذهولي.
وفي اليوم التالي، وجدته جالساً على كرسيه قي نفس المكان الذي انتقل أليه أمس، بالقرب من سرير أمي، ينتظرني على أحر من الجمر، وقبل أن أجلس على الكرسي قال:

– اتدري ما القشة التي كسرت ظهر الجمل..!؟ سأل وأكمل دون أن ينتظر مني رداً:
– ” قبل يومين كانت عاملة في العقد الخامس من عمرها، تمسح الممر الطويل والواسع الموصل لقاعات وغرف عمل عاملو وموظفو الشركة..اراد أحد الموظفين، الذي جاء مبكرا قبل موعد أبتداء العمل، أن يمر بالممر ليدخل الغرفة عمله، فطلبت منه العاملة الأثيوبية، أن ينتظر قليلاً حتى تمسح الماء من المكان الذي سيخطو عليه..وهنا وقعت الواقعة..!”
وهنا تحول صوته، الى سيل من الأنفجارات الجارفة:
تخيل – يا سيدي- ثلاثين لساناً مسعورة، بدات تقذف حممها على ” رأس ” هذه المسكينة البائسة: ( أرجعي من حيث أتيت.. الى أثيوبيا.. من تكوني حتى تمنعيه من المرور..!؟ نسيت من أنت ومن أين أتيت !؟ حكومة حقيرة التي أتت بكم الى هنا.. !).

أمي بقيت حية.. لم تحرق في أفران الحرق، بفضل مسح البلاط، أبقاها الألمان حية، لأنهم لاحظوا أنها كانت بارعة في مسح أرضيات غرف مكاتبهم، وقاعات طعامهم وتسليتهم، ودور سكنهم، في معسكرات الحرق..
أمي في التسعين من عمرها، عاشت هنا ما يقارب السبعين سنة دون أن تنطق بكلمة عبرية واحدة.. أنها من ” خريجي ” معسكرات الحرق النازية.. أجبرتنا على تعلم الألمانية كي نتفاهم معها.. ماتت ولم تحدثني شيئا عن معاناتها هناك.. سمعت نتفاً عن حياتها فيها، من صديقتها التي تعرفت عليها في المعتقل، وصمدت مثلها، خرجتا منه وهن على قيد الحياة، تجران أحمال الموت من هناك.
عاشت أمي هنا بجسمها فقط.. ولكن في مشاعرها وسلوكها ولغتها بقيت تعيش في المانيا.
لم تستطع أن تمحو من وجدانها، أنهم أحضروها من هناك لتعيش هنا مكان شعب آخر..
التقت بأبي في السفينة، التي أقلتهم مع مئات المهاجرين، وقررا أن يعيشا معاً كزوجين، وعندما نزلا في ميناء حيفا، أخذوهما ووضعوهما في بيت قديم، عرفت بعد ذلك أنه كان للعرب، الذين طردوا منه الى لبنان..
” كان كل شيئ في مكانه: “ألبصل، العدس السكر، لحن العجين.. !” كانت دائما تقول والحزن يقطع أنفاسها.

أنت تتساءل لماذا أحدثك أنت بالذات عن أمي..!.. أكمل دون أن ينتظر مني ردا أو تعليقا..:
أستدعوني للأِحتياط قبل شهر وأرسلوني لحراسة معتقل نفحة، الذي غالبية معتقليه أمنيين وهناك رأيتها..

رأيتها.. كانت تلبس ثوباً مثل ثوب أمي، الثوب التي كانت تلبسه في المعتقلات النازية.. أني رأيتها تلبسه في صورة نادرة ألتقطت لها سرا في المعتقل.
كانت مثل امي لا تتكلم العبرية.
كانت تتشبث بسياج السجن الداخلي، تشده بيد، ومن اليد الأخرى، ترسل أصبعيها الأوسطين ألى عينيها، وتصرخ بكل ما تبقى لها من صوت:
– أشوفه.. أشوفه..!!
تقدمت باتجاهها.. وعندما لاحظت أني أقترب منها، ” جفلت ” وأبتعدت عن السياج، وعندما دنوت منها،
سألتها مستعملا نتف الكلمات العربية التي تعلمتها في الجيش:
– شو بدك يا اختيارة..!؟
– دخلك.. بدي أشوف أبني..عشرين سنة صار لي ما شفته.! تسارعت للخروج من فمها كلمات مخنوقة.
– منين أنتي يا ستي..!؟
– أنا من مخيم عسكر.. ولكن أصلي من حيفا.. في الثماني وأربعين تركنا بيتنا ولجأنا الى لبنان، وبعدها تزوجت شاب من مخيم عسكر.
وعندما لاحظ القائد ان وقوفي معها قد طال، خاف ان تليِّن مشاعري وتستحضر أشفاقي ورحمتي، نادني بلهجة آمرة فيها ما يوقذني ويعيدني الى لياقتي الصارمة.!
أتدري – يا سليم – ماذا قالوا لنا في اليوم الأول لألتحاقنا بالفرقة، بعد انهائنا فترة الأعداد العسكرية.!؟:
” أقتلوا الشفقة والرحمة في قلوبكم، اثناء تنفيذكم للأوامر العسكرية.. أتركوا مشاعركم وعواطفكم في البيت.. وتعاملوا مع العرب، حسب ما يطلب منكم قادة الجيش..!!”.
أتدري – يا سليم – لماذا لا تأتي أختي الوحيدة لزيارة أمي، والعناية فيها هنا في المستشفى.. وهذا سبب شرخ عميق بيني وبينها، من المستحيل اصلاحه..!! أكمل رافي تدفق سيل حديثه.
لأنها تقيم مع أمك العربية في غرفة واحدة هنا في المستشفى.. !! قالها ونحيب تفجر من أعماقه، فحول الغرفة التي نجلس فيها، الى أشلاء ممزقة.”
فقام من مكانه.. ورمى بنفسه خارج الغرفة، واختفى..
” كانت أمي راجعة من عين ماء القرية..بدأت برواية حادثة حدثت مع أمي..”
بعد أن أنتظرته ساعتين ليكسر جو الصمت الكئيب، الذي كان يلف المكان.. لا ” تعكره ” سوى أنات المريضتان..ولكنه بقي متشرنق بصمته الثقيل.
” كانت تحمل جرة ماء على رأسها..كان الظلام ثقيل فرض سكوناً رهيباً على البلد، لا يقطعه سوى نباح الكلاب.. لقد قررت ان تخترق ستار منع التجول، الذي فرضه جنود الحكم العسكري، بعد أن قضت نهارها كله في ” سرقة ” حبات زيتون من كرمنا، الذي منعنا العسكر من دخوله، وخافت أن يهاجمنا العطش..!”
يبدو ان كلمة العسكري، انتزعته من أعماق بحر السرحان الذي يأسره..فالتفت نحوي، أشارة منه، انه بدأ يستمع الى كلامي..
” قفي مكانك.. وارفعي يداك الى أعلى..! أغتال سمع أمي صوتاً.. تلته موجات عاتية من الأضواء، حولت الليل الأسود الى شلال جارف من الأنوار الطاغية.
كسروا جرتها وأراقوا ماءها، وكالوا لها سيلاً من الشتائم والركلات والأهانات..
وبتنا أنا وأخوتي السبعة عطاشا..ليس لآنه لم يكن عندنا ماء لنشربه..
لأننا لأول مرة، نسمع عويل أبي.. كان يبكي تحت اللحاف..
فشربنا دموعنا، ولكن – كما تعلم – لا تشفي من عطش. !”
“ما يعذبني يا سامي أنه ليس من المستحيل ان يكون البيت الذي نعيش فيه، هو بيت المرأة العجوز، التي التقيتها على سياج السجن..!”.
” ربما.. وربما يكون لغيرها من المشردات..!
وأخبرتني مرة، أن أمك كانت مجندة في حرس الحدود”.
“تقصد أنه ربما تكون أحد أفراد فرقة الجنود، التي أهانت أمك، وجعلتكم تبيتون عطاشا..!”
“ربما تكون هي.. وقد تكون واحدة غيرها من المجندات..!”
غبت يومين، وعندما رجعت.. كان سرير أم
آفي فارغاً.. سألت أحدى الممرضات، فأخبرتني أنها ماتت، ولم أسمع عنه بعد ذلك.

يوسف جمّال- عرعرة

yoserjmal

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة