قبل أن تحكم على الآخرين

تاريخ النشر: 28/06/16 | 15:03

أحس رجل وهو يسير في الشارع أن أحدا ما يسير خلفه، فالتفت وإذا هو رجل تبدو عليه علامات الفقر ، فقال في نفسه ممتعضا :هؤلاء الشحاذين دائما يلاحقوننا ليطلبوا منا النقود ،فتقدم منه الرجل قائلا: عفوا يا أخي ، هذه محفظتك لقد سقطت منك .
ليت شعري كم هي المرات وكم هي الحوادث التي تمر بنا نكون فيها على قناعة تامة بوجهة نظرنا وبتفكيرنا حول أشخاص مروا في دروب حياتنا قريبين كانوا أم بعيدين ،لنضعهم في قوالب جاهزة وجامدة من الأحكام المسبقة والمتسرعة والمفهوم ضمنا، ونصب عليهم صبا من أكواب سوء الظن ، لنكتشف بعد برهة قصيرة أن هذا المفهوم ضمنا وهذا الحكم المسبق ما هو صفعات منا مؤلمة وقاسية لا مبرر لها سمحنا لأنفسنا بل أطلقنا لها العنان لإصدار أحكام على الغير بلا بينة ولا دليل ، ربما هو سوء الظن الذي تقوقعت فيه نفوسنا لا تبرحه أبدا بل نراها تتفنن في كيل الاتهامات وتشرق وتغرب وتؤلف وتصدق كل ما تحيك من اتهامات ليست في الحقيقة سوى أسس واهية ما لها من قرار,ولو يدري الواحد منا وهو يوجه إصبعه نحو غيره بالاتهام، أن باقي أصابع يده الأربعة موجهة نحوه هو وكأنها تقول له انتبه ففيك من الأخطاء ما فيك ، ولكن أنى له أن يراها وقد جعل سهام عينيه جلها مصوبة نحو أخيه يفتش له عن زلة هنا أو عثرة هناك حتى إذا وجد ما أهمه تراه وكأنه وجد صيدا سمينا لم تكد الدنيا لتسعه من فرحته ،فتراه يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه.

فلا اعتقد اني أبالغ لو قلت، إن الغالبية منا وقعوا في مصيدة الأحكام المسبقة ، فبعضنا قد صدر هذه الأحكام ، والبعض الآخر من كان ضحية لهذه الأحكام والتي في غالب الأحيان مبنية على العاطفة والنظرة السطحية فقط ! والأدهى والأمر أن هناك من يصدر الأحكام المسبقة على الغير من خلال أشكالهم كأن يقول مثلا : (فلان شكله قلبه طيب ) أو ( فلان شكله صاحب مشاكل )أو (فلان من وجهه مبين عليه الغباء) وغيرها ،لنتبنى من خلال هذه الأحكام المسبقة الآراء والمواقف والانطباعات والقبول أو الرفض بلا دليل ، وقبل التعامل مع أصحابها أو معرفتهم، وهذا برأيي أحد أشكال الظلم اللامبرر والذي قد يؤدي إلى الندم والعواقب الوخيمة.
ولست أعني في هذا المقام (الفراسة) والتي عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 🙁 اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله…..) وهذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيى القلب ويستنير فلا تكاد فراسته تخطئ.ولكني اقصد أن لا نتسرع في الحكم على الناس ولا نجعل من المظاهر متكأ للحكم عليهم أو تصنيفهم.

فعن سهل بن سعد الساعدي, قَالَ:مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟ قَالُوا : في هذا.نقول :

هذا من أشرف الناس هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , أَنْ يخطب ، وَإِنْ شَفَعَ , أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْ يُسْمَعَ لقوله ،فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم , وَمَرَّ رَجُلٌ آخر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مَا تَقُولُونَ في هَذَا ؟
قَالُوا : نقول : والله يا رسول الله , هذا من فقراء المسلمين ,
هذا حَرِيٌّ , إِنْ خَطَبَ , لمَ يُنْكَحَ , وَإِنْ شَفَعَ , لاَ يُشَفَّعَ ،
وَإِنْ قَالَ , أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله ,
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.

قال الإمام الحسن البصري – رحمه الله -: المؤمن وقاف حتى يتبين.
وقال ابن الجوزي – رحمه الله -: ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب،كان الغالب عليه الندم.

وما أجمل ما قيل في هذا الباب:
لا تحمدن أحداً حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب
فحمدك المرء ما لم تبله خطأ وذمك المرء بعد الحمد تكذيب

ومما يحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً مع ابن له يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً في القطار.
وبدا الكثير من البهجة والفضول على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة.
اخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ ”

أبي انظر جميع الأشجار تسير وراءنا”!!
فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع فرحة ابنه.

وكان يجلس بجانبهم زوجان ويستمعان إلى ما يدور من حديث بين الأب وابنه.
وشعرا بقليل من الإحراج فكيف يتصرف شاب في عمر الخمسة والعشرين عاماً كالطفل!!.
فجأة صرخ الشاب مرة أخرى:

“أبي، انظر إلى الِبركة وما فيها من حيوانات، انظر يا أبي ..الغيوم تسير مع القطار”.
واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرة أخرى.

ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرة أخرى
“أبي إنها تمطر ، والماء لمس يدي، انظر يا أبي”.

وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألا الرجل العجوز:
لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟.

هنا قال الرجل العجوز:
إننا قادمون من المستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرة في حياته. فانظروا إلى السرعة التي أبداها هذان الزوجان في الحكم على هذا الشاب قبل معرفة الحقيقة.
فكم تسببت أحكامنا المسبقة في جرح مشاعر وكسر خواطر ربما من الصعب ترميمها ، وكم تسببت في قطع سبيل التقدم والنجاح على أشخاص حكمنا عليهم سلبيا بنظرتنا القاصرة المسبقة عليهم وعاطفتنا السلبية ؟
وكم عرقلت أحكامنا المسبقة من تقدم في العلاقات الاجتماعية أو الأسرية أو الزوجية وقطعت أواصر المحبة وتسببت في خصومات لنكتشف بعدة برهة من الزمان كم كنا مخطئين ؟!

وكم تسبب حكمك المسبق على ابنك وأنت تنعته:(يا غبي، أنت مثل التيس! بحلق شواربي لو فلحت!) فحكمت على مستقبله بالفشل قبل أن يخوض تجارب الحياة؟!
فحقق قبل أن تحكم ودقق قبل أن تصنف
وإذا كان من غير المعقول بل هو الظلم والإجحاف أن تتعامل مع غيرك وفق منطق الحكم المسبق ، فان الظلم الأشد أن تقبل لنفسك ذاك الحكم الجائر وتتبناه وتؤمن به وتتعامل أنت مع نفسك بمقتضاه،
فتظلم نفسك ظلما عظيما، فارسم أنت لوحة حياتك، وكما قال أحد الحكماء:( لا تدع غيرك مهما كان يلون لك حياتك، فقد لا يحمل بيده سوى قلما اسود، كن أنت رساما بارعا في رسم لوحة حياتك واستخدم لها أجمل الألوان…لأنها حياتك أنت فقط .

ليلى غليون

Untitled-jjj

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة