قراءة قصيدة للشاعر د. فهد أبي خضرة

تاريخ النشر: 09/10/13 | 22:25

في العاشر من أكتوبر في جامعة بيت لحم سيعقد مؤتمر الأدب الفلسطيني الدولي السابع، تحت عنوان: "اللغة العربية المعاصرة ودورها الحضاري في بناء الوعي المعرفي".

يتم في مستهلّ المؤتمر تكريم د. فهد أبو خضرة الشاعر الباحث، وكذلك تكريم الفنان مصطفى الكرد.

الدكتور فهد صديق عزيز عليّ رافقته منذ نحو أربعة عقود ونيّف، وحررت معه مجلة "مواقف"، وقبل ذلك ألفت معه كتب "الجديد في قواعد اللغة العربية" لطلاب المرحلة الثانوية، وعملنا معًا في المناهج لتدريس اللغة العربية. وإذا سمحتم لي أن أضيف أنني أعتز بمقالته عني في عدد خاص أصدرته مجلة الشرق عن أدبي، وكان تحت عنوانه المحبّ، وقد يكون المتحيّز-

"جمع في صورة مفرد".

كنت قرأت قصيدته "أميرة الصباح" قراءة نقدية، وهي قراءة تفيد طلابنا في المرحلة الإعدادية الذين يدرسون القصيدة، فكم يسرني أن يحتفظ الطلاب بالنص، خاصة وأن الكتاب نفِـد.

جدير بالإشارة إلى أنني ألقيت الدراسة في محاضرة في مؤتمر عقدته جامعة اليرموك، تحت عنوان "جدل الحداثة والتراث"- أيار 2001.

أود هنا أن أعيد نشر القصيدة والدراسة احتفاء بالشاعر مع الاحتفاء به في الجامعة.

*نشرت القراءة في كتابي "قصيدة وشاعر". نابلس: دار الفاروق- 1996، ص 7-15.

القصيدة:

أميرة الصباح

فهد أبو خضرة

1. معشوقةٌ على المدى

أميرة الصباحْ

هامت بها العيون والقلوبْ

2. كم من أبيّ فاضلٍ سَما لَها

ومن غبيّ جاهل

قد اشتهى وصالها

كم من أمير دونها

رَوّى صَدى الحراب

ومن غَريرٍ باسمِها استهان بالصعابْ

3. لكنّها

لم تُعط يومًا قلبها لوافِدٍ

ولم تَبُحْ بسرّها الدفينْ

4. ولم يَزَلْ أميرها في غربة البِحار

يَخترق الرّدى

يرسُمُ للصباح ألف موعدٍ

وينتشي بالحلمِ الكبير:

5. حين يعود في غدٍ

سيُطلق الطيور في حدائقِ النّدى

يُعانق الزهور

يقيم للربيع كل ليلةٍ في الأفقِ مِهْرَجان.

6. أواهُ كم تُؤلمه الجِراح

واختلطت دماؤُهُ بالشفق الحزينْ

وشرَدَتْ عيناه:

"لكن هذا الليلَ لن يطولْ،

عَلَيّ أن أنتظر الصباحْ".

7. حين يعود لن تظلّ في المدى جراحْ

8.وبغتةً

ينطلق النّداءْ

من كل صوبٍ حَوْلهُ ينطلق النداء:

أميرنا

أميرَنا الحبيبْ

اُنظر هناك في المدى

هناك في ذاك المدى الرحيبْ،

هذا السّنا يُغردُ

وهذه أميرة الصّباحْ

تفتح من بعيد

ذراعها

لِتَحْضن الصّباح

9. وكاد أن يفتَحَ للبِحار

ذراعَهُ

وكاد أن يَغيب

في نشوةِ العناقِ من بعيد،

10. لكنّهُ سَرْعانَ ما استعادْ

صَفاءَهُ

وصاحَ من بعيدْ

غدًا غدًا سنلتقي

ويولَدُ الصّباحْ

على يدينا يولدُ الصباح

ويكبرُ النهارْ

11. ولم تزل معشوقةً

أميرة الصباحْ،

لكنها منذ التقت أميرَها

عَزّت على القلوبِ والعيونْ.

كتبت في (20/11/1989)

ونشرت في ديوان النسور. إصدار رابطة الكتاب الفلسطينيين، الناصرة- 1991، ص53 – 56.

قراءة في القصيدة

إن هذه القصيدة/ القصة ألقاها الراوي مستعينًا بألفاظ تدعم السياق الحكائي: لكنها، لكنه، وبغتة، سرعان… وكذلك بحركة الأفعال المتراوحة بين الماضي والحاضر والمستقبل. بدأ بالماضي، ثم لجأ إلى الحاضر ( المقطوعة الرابعة) فالمستقبل (الخامسة)… وهذا التراوح الزمني له مؤدى المستقبل، حتى لو وردت الأفعال ماضيةً شكلاً، فقوله: "وشردت عيناه" (السادسة) لا يدل على حدث تمّ، وإنما هو فعل متوقع، وكذلك الحال في استعمالَيْ "كاد.." (التاسعة).

وهذا التناغم الزمني في أداء قصة أو أسطورة- حُبكتها ميسورة التناول- يرفده تناغم صوتي قد يكون مبرّرًا لإضفاء الشاعرية عليها، فحرف الميم في المقطوعة الأولى مُفتتح لقصة فيها غموض، يساعد في التـفاعل وإياه مخرج الميم بكل ما فيه من انغلاق للشفتين وانفراجهما.

ولا بد أن تسأل بعد ذلك: من هي؟ لماذا هامت بها العيون؟ ومن رامها؟

ويستمر حرف الميم موقّعًا، مضافًا إليه التشديد، وحرف الراء المتواتر، والقافية الداخلية في المقطوعة الثانية، فتؤدي كلها تنويعًا موسيقيًا جذابًا لاستباق المعلومات. وهذه القافية الداخلية تتبدّى هنا وهناك في ثنايا القصيدة، كما تتردد أسماء الإشارة: هناك، هذا، هذه (الثامنة)، ومثلها تكرار البداية " وكاد.." (التاسعة)، واستعمالات "المدى" عبر القصيدة.. وكل ذلك من شأنه أن يدخلنا إلى جو غنائي- إلى قصيدة تتجلى فيها معالم الرومانسية بشيء من الخيال المنجذب نحو الرمز(1).

وهذه الموسيقية تعود أصلاً إلى توازن في العقل يُحدثه الجهد التلقائي، فيأخذ بزمام الانفعال الحاد، ويلطف من حدتّه، والشعر- كما لا يخفى على الشعراء- أوله هزّة، ومن ثم يأتي بعدها التحكم الواعي للإرادة، فيسيّرها في مسار اللذة العقلية، وذلك في البحث عن المعادل. وقد انتبه (كوليردج) إلى قدرة (ووردزورث) على الخَلق- خلق الجو والنغم والعالم المثالي، فلم يغمط شاعريته رغم تحفظه من منهجه. وإذا كان (ووردزورث) لا يرى فرقًا بين لغة الشعر ولغة النثر غير الوزن، فإن ضمّ العناصر، والترابط المنسجم، والسيطرة على انتباهات القارئ، تجعله يبحث عن الحل النهائي عبر رحلة القصيدة ذاتها.

وموسيقا الشعر عند فهد هي التي أوصلته إلى الرؤية الشعرية، ذلك لأن البناء الشعري في القصيدة بناء له علاقات متواشجة، تضفرها علاقة إيقاع- كما هي علاقة معنى- (مع أنه ليست هناك ضرورة في كل قصيدة لتوحد العناصر البنائية كلها).

لنعد إلى قصة القصيدة:

هي أميرة تمنّاها الجميع (لم نعرف السبب: هل هو جمالها أو لأنها أميرة بالذات). وكانت هي ترفضهم على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم. وسرعان ما نتعرف على سرّها، وهو أن لها أميرًا في غربة البحار ينتظر الصباح، ويحمل حلمًا في رحلته. هو جريح، مشرد، ومع ذلك ينتظر الصباح كما تنتظره هي. ثم ما يلبث الأمير أن يسمع أصواتًا تؤكد له قرب طلوع الصباح، وأن الأميرة تفتح ذراعيها لاحتضان هذا المُنْتَظر. واشتدت لهفة الأمير للّقاء، ثم تدارك نفسه، وأشار إلى أن الصباح آتٍ، وسيكبر النهار. والآن- وبعد هذا اللقاء- بقي الجميع يعشقونها، ولكنها غَدَت صعبة، لا تطالها القلوب والعيون.

(اُنظُر المقطوعة الأولى حيث سبقت هناك لفظة "العيون" لأن العيون كانت فاتحة للحب، بينما تأخرت اللفظة في نهاية القصيدة لعدم احتمال هذا الواقع الجديد).

من هي هذه الأميرة؟ ومن هو هذا الأمير؟ هل هي أسطورة تتحدث عن (يولسيز) الفلسطيني و (بنلوب) المنتظرة التي طمع بها العشاق، مع اختلاف في عرض الأسطورة ونتيجتها؟

هل هي أميرة (أي حلم) تنتظر الأمير (الوصول)؟

ومهما يكن من تساؤل فإن الجو هنا هو أسطوري بدليل المفردات الموحية: أميرة، أمير، صدى الحراب، استهان بالصعاب، سر دفين، غربة البحار، النداء…

وإزاء ذلك، نستطيع أن نقرأ هذه القصيدة التي يرويها " راوٍ عليم بكل شيء" مع تداخل صوت جوقة التعليق أو (الكورس) المعهود في المسرحية الإغريقية. وإذا لجأنا إلى هذا المزج وخرجنا عن أُحادية الصوت فإن صوت الكورس يلائم المقطوعات الثالثة والسادسة والثامنة. وهذا لا يبعدنا عن إمكانية تلاحم صوت الكورس وصوت الراوي.

أما الحوار فقد تأتّى في مواضع الذروة أو الأزمة، وذلك في مونولوج داخلي للبحّار المنتظر (السادسة) أو صوته عند قرب الفرج/ الحل. بينما كان صوتها ضائعًا في حومة الرفض المتواصل لها، أو على الأقل، كان ساكنًا مع السر الذي تحمله.

وهذه القصيدة مع أسطوريتها نموذج للاقتراب من شعر "القصة الرعوية" (البالاد) ونحن – في الشعر العربي – بحاجة إلى الإكثار منه. وإذا أضفنا نماذج قليلة من مثل "شنق زهران "لصلاح عبد الصبور و"الأميرة التي تكلم المساء "و "الأمير المتسوّل" لأحمد حجازي فإن هذه القصيدة دعوة لتبنّي هذا اللون الذي نفتقر إليه. والبالاد ركيزته أو عمادُها الشعبية والإنسانية- من حيث قرب تناول التعابير- ويُلقى في قالب قَصصي بغنائية مموسقة، ويكون الحوار جزءًا لا يتجزأ من بنيته(2).

_________________

(1) انظر مفردات المقطوعة الخامسة: طيور، حدائق، ندى، زهور، ربيع. إنها توحي بالرومانسية، لكنها في الواقع وسائل مساعدة لتجسيم الأمل والخلاص، يدل على ذلك أن البحّار سرعان ما ينسى ألمه "حين يعود لن تظل في المدى جراح". إنه خَيال موظف من الواقع.

(2) وهذا الحوار جزء من أسلوب النبوءة الذي نجد له نماذج في " ألف ليلة وليلة" وكذلك في الشعر الحديث وخاصة لدى صلاح عبد الصبور:

وقال لي: ونسهر المساء مسافرين في الصفاء

ومضى يقول: سنعيش رغم الحزن نقهره، ونصنع في الصباح…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة