التكرار في الرثاء

تاريخ النشر: 29/04/16 | 8:43

لا ريب أن التكرار في الجملة يضفي إيقاعًا موسيقيًا، كما يؤكد على المعنى المراد، وكأنه ينبّه السمع والخاطر إليه.
كثيرًا ما يؤدي التكرار إلى بيان الانفعال، وخاصة في الرثاء، ففي ترديد العبارة يجد التكرار صدى لدى المتلقي، وعلى الأقل لدى المكرِّر نفسه.
لنقرأ في رثاء الخنساء أخاها صخرًا:
أعينيّ جودا ولا تجمُدا *** ألا تبكيان لصخرِ الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل *** ألا تبكيان الفتى السيدا؟
أذكر أنني عندما قرأت البيتين وأنا فتى كدت أبكي في قراءتهما انفعالاً، ففي التكرار ثمة توزيعة جديدة من الحزن تتردد في كل مرة، ولو لم يكن ذلك لكانت عبارة (ألا تبكيان) الاستفهامية مرة واحدة دالّة على المعنى المقصود؛ بل إن النداء فالأمر فالنهي (أعينيّ جودا ولا تجمدا) كافية لتدل على تبليغ المعنى الحزين.
إن الاستفهام المكرر يرِد وكأنه تجديد للبكاء في كل مرة، ففيه صوت نائح يجاري دمعًا على دفعات، و (تبكيان) فعل مضارع يدل على استمرارية حقيقية هذه المرة.
في رائية الخنساء “قذى بعينك أم بالعين عُوّار” كررت الخنساء وصفها لصخر “تبكي خُناس” مرتين بما نسميه “تكرار الصدارة”- anaphora ثم ما لبثت أن كررت في القصيدة عينِها هذا النوع من التكرار: “وإن صخرًا …” خمس مرات، وما علينا إلا أن نتخيل صوتها وهي تعيد القراءة بهذا الإيقاع الحزين، وفي كل مرة كانت تصفه وصفًا جديدًا يشي بعمق حزنها وأساها.
في ديوان الخنساء تجد مواضع كثيرة من مثل هذا التكرار الذي يبث لوعتها ولواعجها، وأكتفي بنموذج آخر تخاطب به نفسها على سبيل التجريد:
وابكِي أخاكِ ولا تنسَي شمائله *** وابكي أخاك شجاعًا غيرَ خوّار
وابكي أخاك لأيتام وأرملة *** وابكي أخاك لحقِّ الضيف والجار
أما ابنة النعمان بن البشير الأنصاري الصحابي فقد رثت زوجها مالكًا، فكان التعبير المتكرر الأسيان يتردد في صدر كل بيت مما يلي:
وحدثني أصحابه أن مالكًا *** أقام ونادى صحبه برحيل
وحدثني أصحابه أن مالكًا *** ضروبٌ بنصل السيفِ غيرُ نكول
وحدثني أصحابه أن مالكًا *** صروم كماضي الشفرتين صقيل
لاحظ في تكرارها أنها أدخلت الفعل “حدّث” مرتبطًا بشخصها هي، يتبعه الفاعل- أصحابه، وفي كل مرة “أن مالكًا”، فهل كانت جملة واحدة فقط تكفي حقًا للتدليل على عمق مأساتها؟
يذكرني ذلك بما كرره الحارث بن عُبَاد في قصيدته التي قالها في حرب البَسوس: “قرِّبا مَربِِطَ النعامةِ مني”.
حاول الحارث بن عُباد أن يصلح بين المتخاصمين من – بكر وتغلب، فأرسل في ذلك ابنه بُجَيرًا إلى المهلهِل زعيم تغلب، لكن المهلهل قتله شرَّ قِتلة، الأمر الذي أشعل أوارالحرب نحو أربعين سنة.
أنشد الحارث قصيدته الطويلة التي يرثي فيها ابنه، ويتوعد المعتدي الظالم بالثأر، وكرر فعل الأمر- ” قرِّبا مربِط النعامة” أكثر من عشرين مرة. والنعامة هي فرسه المشهورة، فقد طلب من معاونيه أن يهيئوها له لتكون قريبة عند انطلاقِه للحرب.
لاحظنا أن الانفعال الصادق أدى إلى تكرار مستحبّ، والرثاء تبينت فيه ضرورة للتنفيس المتواتر والمؤثر.

* من الجدير بالذكر هنا أن التعديد- أي ندب الميت- وهو باللهجة الدارجة- فيه مثل هذا التكرار الذي يبعث الشجا والشجن، نحو:
يا حْسيرتي حمّلو يا حْسيرتي شالو *** يا حْسيرتي كل ما هبّ الهوا مالوا
يا حْسيرتي حمّلو وِنْ طلعةِ العيّوق *** يا حْسيرتي حمّلو وما ودّعوا مخلوق
يا حْسيرتي حمّلو من طلعة الميزان *** يا حْسيرتي حمّلو وما ودّعوا الخلاّن
…ومثل ذلك كثير.

ب. فاروق مواسي

faroq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة