حديث في اللغة (26): لطف التعبير

تاريخ النشر: 26/04/16 | 0:03

اللطف في التعبير هو أن تبتعد عن لفظ ما لتأتي ببديل له عكسي أو مقلوب، أو تنتقي له كناية دالّة، كأن تقول عن الأبله “العاقل”، وعن المتأتئ “الفصيح”، ولمكان الاستنجاء “بيت الخلاء”، وبدلاً من قولك “مات” نختار في التلطف” الكنايات: “رحل إلى الرفيق الأعلى” أو “اختاره الله لرحمته”، “لفظ أنفاسه الأخيرة”، وغيرها، كما أننا لا نستخدم لفظة (نكح) الفصيحة في لغتنا اليومية- مع أنها واردة في القرآن الكريم، بل نستخدم “جامَع” أو “تزوج” أو “بنى بها”، “تأهل”…إلخ
في كتاب أبي هلال العسكري (كتاب الصناعتين) ص 368 يورد بابًا في “الكناية والتعريض” كقوله تعالى:
“أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء”، فالغائط كناية عن الحاجة، وملامسة النساء كناية عن الجماع.
أما الغائط في أصل المعنى فهو المنخفض من الأرض، والمقصود إذا أحدث، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم فيه. ونحن اليوم نتلطف في التعبير فلا نستخدم الكلمة المباشرة التي نفرزها، بل نسمي ذلك- “الغائط” أو البراز؟.
يقول د. محمد السرميني في موقع الألوكة عن اللطف في التعبير:
“هذا المصطلح مرتبطٌ بمفهوم لغويِّ اجتماعي آخر، درسه علماءُ اللغة والنَّفس تحت عُنوان “المحظور اللغوي (التابو: Taboo)” والذي يعني منع التَّلفظ بكلماتٍ محدّدة في ظروفٍ وأوقاتٍ معيَّنة، ومن ميادينِه ما يتعلق بالاتجاهات السياسية، والاعتقادات الدينية، وكذلك الألفاظ الجنسيَّة، وكل ما يقاربُها ممِّا تحْسن الكِناية عنه ويقْبُح التَّصريحُ به.”
هذه الظاهرة تسمى بالإنجليزية euphemism وبالعبرية (סגי נהור או לשון נקיה)
، ويسميها مجدي وهبه في “معجم مصطلحات الأدب”- (التهوين).
استخدم العرب “لطف التعبير” أو “التلطف” على سبيل القلب كما أشرت أعلاه، نحو (البصير) لمن هو أعمى، ولأن الشاعر الأعشى لم يكن يرى ليلاً كنَّوه أبا بصير.
وكثير من ذلك ما يرد ذلك على سبيل السخرية:
“أبو البيضاء”- في شعر المتنبي للأسود كافور:
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا *** وأن مثل أبي البيضاء موجود
لاحظ أن المتنبي استخدم “لطف التعبير” إيجابيًا عندما استعطف كافورًا الأسود ، فكنّاه (أبا المسك)، لأن لون المسك أسود وهو طيب الرائحة:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله *** فإني أغني منذ حين وتشرب.
كما نجد في لطف التعبير أجوبة تدل على فطنة:
أورد ابن القيم الجوزية في كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، ص 42- 44 نماذج منها:
“ومن محاسِن الفراسَة أنَّ الرشيد رأى في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين. ولم يقل: الخيزران لموافقته اسم أم الرشيد”.
“ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مِسواك، ما جمع هذا؟ فقال: مَحاسِنك يا أمير المؤمنين!” ولم يقل: “مساويك”.
يقول ابن القيم معلّقًا:
“وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السُّنة، وهو من خاصية العقل والفطنة”.
من هذه الأجوبة الحصيفة كذلك:
” كان المنصور في بستان أيام محاربته إبراهيم بن عبد الله، ونظر إلى شجرة خِلاف (صنف من الصفصاف)، فقال للربيع: ما هذه الشجرة، فقال “طاعة” يا أمير المؤمنين” .
– كتاب علي الجارم ومصطفى أمين “البلاغة الواضحة”، ص 128.
في الإجابات- (طاعة)، (محاسنك)، (عروق الرماح) كل منها كناية عن موصوف.
هذه الإجابات ذكرتني بقول العرب في أمثالهم “النطق سعد”، فكم بالحري لمن يحسن اختيار ألفاظه، ولا يزدري ولا يجرح كبرياء أحد من الناس، وخاصة هؤلاء المهمشين في المجتمع، فهو عندما يهتدي إلى المعنى البديل اللطيف فإنه يعبر فيه عن رهافة وحصافة معًا.
بل إننا في الدارجة نستخدم ألفاظًا لا نقصدها بذاتها، كأن نسمي المرحاض = الحمّام، وأن نطلق على الأسود = الجنجي، وعلى الكذوب= الصدّاق….إلخ
ثم إننا نتحاشى لفظ بعض الكلمات، فيقول المتحدث بدلاً من اللفظة النابية التي يخجل من لفظها: (أجلك الله)، وهو دعاء أرفع من كلمة يعتبرها أدنى من المستوى، ومثلها (حاشاك)، وذلك بدلاً من ذكر الحذاء بالعامية (مشّاي)، أو مادة التبرز، أو عند احتقار شخص.
أضيف ظاهرة أخرى في التلطف وردت في لغتنا منذ القدم، وهي استخدام ألفاظ إيجابية الدلالة على سبيل التيمن أو التفاؤل:
تقول العرب لمن لدغته أفعى وأشرف على الموت (السليم)، نحو قول الأعشى:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا *** وعادك ما عاد السليم المسهّدا
ويقول الصنوبري:
عين السليم إلى الرُّقى وسليمه *** متيقن أن ليس تنفعه الرقى*
المفازة: أطلقها العرب على الصحراء الشاسعة الواسعة التي لا ماء فيها، أي أنها “مهلكة”، واحتمال الموت لمن يضرب فيها وشيك، فدعوها (المفازة) تفاؤلاً بالفوز.
يقول الشريف الرضيّ:
من كان يجْشمهن كل مفازة *** تلد المنون وتنبت الأهوالا
القافلة: أطلقها العرب على مجموعة الجمال أو الرفقة على أمل أن ترجع من السفر.
يقول الجواليقي: “إنَّ العربَ مازالت “تسمي الناهضِين في ابتداء الأسفارِ قافلةً تفاؤلاً بأن يُيسر اللهُ لها القُفُول، وهو شائعٌ في كلام فصحائِهم.”
الجواليقي، شرح أدب الكاتب، بيروت، دار الكتاب العربي، ص124.
فاطمة: في تقديري أن التيمن حاصل لدى الوالدين عندما سميا الطفلة، فهما يأملان أن تكبر وتتزوج وتنجب، ثم تفطم وليدها، فهي فاطمة.
ولا شك أن أسماء كثيرة جدًا من أسمائنا سميت على سبيل التيمن، نحو: محمود، ماجد، كريمة، راشد، يحيى، إلخ، فالاسم هو على اعتبار ما سيكون عليه تفاؤلاً وتيمّنًا.
الاشتطاط في التعبير
من جهة أخرى فثمة استخدامات لا تتلطف فيها بالتعبير، وإنما تشتط فيه وتبالغ، كأن نقول للسمين= برميل، وللنحيفة= عودي، وللغبي حمار أو تيس، وفي باب الشتائم تجد الكثير.
ثم إن العبرية اليوم تتفنن في إلصاق الاشتطاط في التعبير، فالطفلة الفلسطينية التي تحمل مقصًا = مخربة، ومن ينقد سياستهم= لا سامي، والاستيلاء على الأرض = استيراث واستيطان התנחלות …إلخ
……………………….
*ملاحظة: السليم والمفازة والبصير من الأضداد، فيصح أن ترد بالمعنى ونقيضه، ولكننا هنا تناولنا الحديث عن التيمّن والمعنى الإيجابي المرتقب، وهو مما يعتبر تلطفًا في العبارة.

ب.فاروق مواسي

faroq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة