رسالة التراب

تاريخ النشر: 13/02/16 | 1:27

رسالة التراب إلى صغيرتي التي لم تولد بعد،،،

إيه، يا صغيرَتي،
ليتَكِ كنتِ تعرفِين؛
منذُ تفتَّحَتْ وجنتَاكِ الجُوريَّتانِ في مساكِبِ وجهِنا، وسكنَ مَلاكانِ في يانَسونِ غمّازتَيْكِ، طارَ الدَّرْبُ من عينَيَّ، وتساقطَ قلبي من يدَيَّ، وفَرَاشُ حديقَتي رفرَفَ في ضَفيرَتَيْكِ.
….
(2)
فليتَكِ كنتِ تعرفين؛
لكنَّكِ ما زِلتِ كما أنتِ، عينَيْنِ هارِبتَيْنِ؛ لا تنظُرينَ إلى فُلكٍ نوحٍ في نواحينا، ولا إلى دائرةِ الكبريتِ في المدينتَيْنِ، ولا إلى نصفِ الدّائرة التي ترسمُها أرجوحَتُكَ، مُعلَّقةً على غُصْنِ دِفلَى بين لَيْلَيْن.
….
(3)
غدًا، أيَّتها الصَّغيرةُ، حينَما تخرجُ أنيابُ الذِّئابِ من أقنعةِ البسَماتِ الأُفعوانيّة،
حينَما يتجعّدُ جذعي وينفخُ أيلولُ في أطلالِ شَعريَ القديم،
وحينَما تتّكئُ الأشجارُ المُرهَقةُ على الأشجارِ المُرهَقةِ، سوفَ تلتفِتينَ إلى الدُّروبِ التي شرِبناها قبلَ أنْ تأكلَ أقدامَنا. وقد تترجَّلينَ عن غماماتِك التي تصقُلُ الرّيحَ، وتهطُلِين.

(4)
حينئذٍ، سوفَ تسقطُ نجومُكِ السُّباعيّةُ من عُلبَةِ الحَلوى، لترتاحَ قليلًا على فخَّارِ أصابعي، وتحطُّ العصافيرُ المُهاجرةُ من سمائِك الزّرقاء، لترتاحَ قليلًا على وَحلِ غابَتي.

(5)
أمّا الآن، وإلى حينِ يصيرُ زهرُ اللَّوزِ قُلوبًا من خَشَبٍ، فلا تُصدِّقي الحكاياتِ كُلَّها.
سيقولونَ لندنُ مربِطُ خَيْلِنا،
ويقولونَ خيالُنا صهيلٌ جامحٌ،
ويقولونَ الأسماكُ نارٌ مائيّةٌ تأكلُ بعضَها، لكي تحيا،
ويقولونَ الوَحْشُ فينا،
ويقولونَ دربُ ليلى إلى جدَّتِها يمشي إليكِ.
….
(6)
أعرفُ أيّتُها الصّغيرة؛
سوف يأتي صباحٌ، كلَّ صباحٍ، من جهةِ الشَّرقِ، وينبلجُ الفجرُ من جبينِك العالي، ليوزّعَ الأرجوانَ على الفلّاحاتِ القديماتِ في طريقهنِ إلى ملءِ السِّلالِ الضّاحكة. وسوف يسكبُ الأحمرَ الورديَّ على وجوه الفلّاحين القُدامى، ويصبغُ العناقيدَ البيضَ بالخَمريِّ.
أمٌا الآن، قبلَ أن تبدِّلَ الأماكنُ عناوينَها، قبلَ أن تفارقَ الدّماءُ شرايينَها، اركضي اركضي، في كلِّ الجِهات، وانسجي للرّياحِ مناديلَ من حريرِ يدَيْكِ.
وتَجمهَري في فستانِ دُميتِك الفُضلى/
مشّطي الحقولَ برمشَيكِ/
املَإِي صندوقَ زينتِكِ بأطيافِ القَوْس./
أشعلي قِرطَيْكِ الرّاقصَين مِصباحَيْنِ على عَتْمِ السَّريرِ/
أسدِلي الغُروبَ على نوافِذكِ/
زيّني مرآتَكِ المُدوّرةَ بانفراجةِ شفتَيكِ/
ارسُمي لحصانِكِ الثّلجيِّ شِراعًا وجناحَيْنِ،
وطيِّري الحمامَ الزَّاجِلَ في سقفِكِ البعيد.
….
(7)
أعرفُ يا صغيرتي،
أنتِ مشغولةٌ اليَومَ بتلالِ حُلمكِ اللَّوْلبيِّ.
فتسلّقي، تسلَّقي على الشّجرِ اللّانهائيِّ/ اقفزي من جبلٍ إلى جبَلٍ/ أطلقي الزّغاريدَ في الشّوارعِ التي تنتظرُ خطواتِكِ الأولى/ وصلّي لإلهٍ وسيمٍ ينامُ ويصحو على مفرَقَيْكِ.

(8)
لكن، في نهايةِ الأسبوعِ، افتحي الرّوزنامةَ على قَمَرٍ جديدٍ.
ولا تُصدّقي كلَّ الحكايات؛
لا تطيري وحيدةً في أسواقِ فاسٍ.
لا تشُقّي بِراحتَيْكِ مضيقَ ابنِ زيادٍ.
لا تحفُري بأناملكِ أُغنيةَ الصِّيصانِ على أعمدةِ هرقل،
لا تدخلي وحدَكِ في الزُّجاج العالي،
لا تنفُخي العِلكةَ بالونًا في أزقَّةِ مقاديشو،
لا ترتدي صُوفًا على أبوابِ الخِيام،
ولا تصعدي وحدكِ على حروفِ برج بابل.

(9)
وحين تعودينَ يومًا، يا صغيرَتي، أكملي الدّائرة ثمَّ اخرجي منها.
فأنا ما أزالُ هنا، يلفُّني الانتظارُ، وليلي مُبعثرٌ بينَ شمسَيْنِ.
وتأرجَحِي الآنَ كما تشائينَ على ضفيرَتَيْك، بينَ جنَّتَيْنِ. وإذا انقطعَتْ حِبالُ النُّورِ، وسقَطْتِ يومًا، سأكونُ هناك؛
سأكونُ هناك، لِصقَ روائحِ الأرضِ،
حِضنًا مرصوفًا بالحَفِيفِ، جذْعًا مسكونًا بالعِشقِ، فَرعَيْنِ مُهاجِرَيْنِ، وعيْنَيْنِ من تُراب.

بقلم: فريد قاسم غانم

fred

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة